قراءة في الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة: الحكم والشّعار والممارسة

قراءة في الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة: الحكم والشّعار والممارسة
يقدّم سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في هذه المقابلة، قراءة في الثورة الإسلامية الإيرانية، ويتطرّق إلى عددٍ من العناوين المتعلّقة بشكل الحكم، ونظريتي ولاية الفقيه والشّورى، وما إلى ذلك. ويرى سماحته أنّ الحكم يكون حكماً شوروياً، وإن كان تحت نظر الفقيه وتحت ولايته، وهذا هو من أفضل أحكام الشّورى ، معتبراً أنّ نظريّة ولاية الفقيه، يمكن أن تطرح في الساحة الإسلاميّة بشكلٍ يمكن أن يلتقي مع كلّ الاتجاهات الإسلاميّة في مسألة الإمامة...

وفيما يلي نصّ المقابلة:
الثّورة والحكم الإسلاميّ

س: كان للثّورة الإسلاميَّة الدّور البارز في طرح النظريَّة الإسلاميّة على مستوى الحكم. في رأيكم، هل استطاعت النظريَّة الإسلاميَّة أن تأخذ موقعاً فاعلاً على مستوى الحكم، في مقابل النظريّات الأخرى؟ وهل استطاعت هذه النظريَّة أن تؤكّد مصداقيَّة السّعي لتحقيق العدالة والحريّة للإنسان، فيما فشلت النّظريّات الأخرى، كالشيوعيَّة والاشتراكيَّة والديمقراطيَّة؟

ج: عندما ندرس حركيّة الثورة الإسلاميَّة في تأكيد نظريّة الإسلام كمشروع كاملٍ شامل يضع مسألة الحكم في عنوان حركته، وعندما نتطلّع إلى هذه الحركيّة، فإنّنا نجد أنّ الثّورة الإسلاميّة استطاعت أن تؤكّد هذا المفهوم كمفهومٍ أصيلٍ متحرّكٍ في ساحة الصراع السياسي، فقد أمكننا من خلال حركة الثورة الإسلامية أن نطرح الإسلام كمشروعٍ سياسيٍ تتقبّله ساحة الصراع السياسي في العالم، بقطع النظر عما إذا كانت توافق عليه أو لا، لأن المسألة كانت سابقاً، أنّ الإسلام دين لا دخل له بالسياسة، وأنّ تدخّله في السياسة يربك الوضع ولا يستطيع أن يقدّم له شيئاً، لأنّ الدين هو الفكر الذي يُطلّ على عالم الغيب، والسياسة هي الحركة التي تنطلق في صعيد الواقع، ولا يمكننا أن نمزج بين الغيب والواقع.

ومن خلال الوسائل السياسية المرتكزة على أساس النظريّة الإسلاميّة، شعر النّاس بأنّ مثل هذا التفكير الإسلامي بهذه الطّريقة، يستحقّ أن يُبحث وأن يُناقش، وبالتّالي، يستحقّ أن يدخل السّاحة ليشكّل محوراً من محاورها، التي قد تلتقي مع بعض المحاور في بعض المواقع، وقد تختلف عنها. وأعتقد أنّ الثورة الإسلامية قد وفّقت من خلال ذلك إلى حدّ كبير في إدخال الإسلام إلى ساحة الصّراع السياسي بقوّة، بعد أن كان خارج نطاق المسألة السياسيّة، فيما هو الفكر السياسي، وفيما هي الحركة السياسيّة.

ولا تزال أمام الثّورة أشواط كبيرة تحتاج إلى أن تبلغها، حتّى تستطيع أن تصل إلى مستوى الاستقطاب في الساحة العالمية، بتحريك الإسلام بشكلٍ أكثر فاعليّةً وأكثر مصداقيّةً، فيما هي قضيّة الفكر السياسي، وفيما هي قضيّة الحركة السياسيّة.

أما مسألة: هل وفِّقت الثورة الإسلامية في نطاق الجمهورية الإسلامية، لأن تؤكّد نظريتها في مسألة الحرية والعدالة في مقابل ما فشل الآخرون في تحقيقه؟ فإنني أتصور أنها قد وفِّقت توفيقاً محدوداً في هذا المجال، فقد استطاعت أن تعطي الفكرة أنّ الثّورة لا تخاف من الفكر المضادّ، ولهذا، فإنها تمنحه الحرية في دائرة السلامة العامة للأمة، وفي دائرة عدم الإساءة بشكل بالغ إلى عقيدة الأمّة. ولهذا، رأينا أن الثورة في بدايات عهدها، أعطت الحرية لكل الاتجاهات السياسية التي تختلف معها بالكامل، كالنظرية الماركسية، أو التي تختلف معها في التصور السياسي، أو في بعض الأوضاع القانونية العامة، ولم تقيّد حريتها، ولكنها عندما تحولت إلى عنصرٍ يهدّد السلامة العامة للأمة، حدّدت حريتها بطريقة وبأخرى، فلم يكن تحديدها لحرية المعارضين ناشئاً من عدم إيمانها بحرية العمل السياسي المتنوّع، ولكن كان ناشئاً من أن هؤلاء حاولوا أن يختصروا طروحاتهم، فيمارسوا الأعمال الأمنية المضادّة التي تسيء إلى البلد وإلى سلامته بشكلٍ عام.

لا تزال أمام الثّورة الإسلاميّة في إيران أشواط كبيرة تحتاج إلى أن تبلغها حتّى تستطيع أن تصل إلى مستوى الاستقطاب في الساحة العالميّة

أمّا مسألة الحريّة في النطاق السياسي العام، وهي حريّة المسلمين أمام القوى المستكبرة الطّاغية، فقد استطاعت الثورة الإسلاميّة في نطاق سياسة الجمهوريّة، أن تعطي الدّليل الواضح على هذا الخطّ وتؤكّده بكلّ أسلوب، وحتّى إنها عاشت مشاكل كثيرة من خلال العمل على تأكيد هذا الشّعار في ذهنيّة الجمهور، من خلال شعار "لا شرقيّة ولا غربيّة"، أو من خلال شعار "الموت لأمريكا"، و "والموت للاتحاد السوفياتي"، حتى في الحالات التي تتحرّك فيها علاقاتها بشكلٍ معقول، فإنها تعمل على تعميق مسألة الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، وعدم الخضوع له، كما هو الاستقلال عن أميركا في ذهنيّة الجمهوريّة، حتى يستطيع الجمهور من خلال هذه التعبئة السياسية، فيما هي مسألة الحرية، أن يواجه أية إمكانية للانحراف في المستقبل عن خطّ هذه السياسة، ليكون الجمهور هو الأساس في منع الانحراف، وهو القوّة التي تجابه أيّ انحراف.
كما أننا عندما نلاحظ طريقة التحرّك السياسي، فإنها بالرغم من الصّعوبات الكبيرة جداً، والضّغوط المطبقة على الثورة من جميع الجهات، استطاعت أن تضع الحدّ الفاصل بين ما هي السياسة المتحرّرة من الضّغوط، وما هي السياسة الواقعة تحت تأثير الضّغوط.

إنّنا نعتقد أنها استطاعت أن تحقّق الكثير، ولكنّنا نتصوّر أنها تحتاج إلى الكثير من الجهد في المستقبل، لتؤكّد هذه المسألة في الحرية في الداخل والحريّة في الخارج، باعتبار أن طبيعة الظروف العسكرية، ربما تمنع من كثير من حرية الدولة في ممارسة تحريك نظريتها بشكلٍ كامل.

أمّا مسألة العدالة، فإنّنا نتصوّر أنها استطاعت أن تقطع شوطاً كاملاً في هذا المجال، عندما حوّلت اقتصاد البلد إلى اقتصاد يرعى شؤون المستضعفين في الأديان، وشؤون المنكوبين الّذين يعيشون على هامش المدن الكبرى. وقد حقّقت في هذا المجال دوراً كبيراً في تحقيق المشاريع الخدماتية للأمّة، بالمستوى الذي لا يستطيع كلّ العهد الملكي أن يقف أمامه، ولو بنسبة عشرين في المئة فيما حقّقه ذلك العهد، وفيما حقَّقته الثورة.
إنَّني أعتقد أنَّ طريقة الثورة، وتصوّرها فيما يجب أن يكون عليه الحكم، وما يجب أن تكون عليه العدالة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن يهيّئ للبلد ولبلدان أخرى تستفيد من تجربة هذا البلد، الكثير من إمكانات العدالة الإسلامية بشكل جديد، ولكن الظروف الاقتصادية الخانقة التي جاءت من خلال الحرب، هي المسؤولة عن عدم استمرار هذه الخطة، التي نرجو أن تستكمل من خلال ظروف أكثر سعةً، لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يعطي العالم كيف يمكن أن تكون العدالة الإسلامية التي تتحرك في نطاق الحكم الإسلامي، لتجعل الإنسان الذي يعيش في داخل الحكم، إنساناً يشعر باحترام إنسانيّته في كلّ المجالات.

التّوفيق بين الشّعار والواقع
س: منذ تسع سنوات، استطاع حكم الإسلام أن يتبلور في إيران، في إطار الدّولة الإسلامية الأولى في العصر الحديث، واستطاع الحكم الإسلامي أن يكرّس معطيات حديثة وجديدة في مجال العلاقات الدولية. في رأيكم، هل استطاع هذا الحكم الإسلامي أن يكرّس المضامين السياسية، كما أمر بها الإسلام على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأخرى؟

ج: في تصوري، إنّ الطريقة التي أدار فيها الإسلام الحكم في الجمهورية الإسلامية، والمسألة السياسية في نطاق العلاقات، لا تبتعد عما يجب أن يكون النهج السياسي في العلاقات الدولية من وجهة نظر الإسلام، لأنني أفكر من خلال دراسات متعدّدة، في أنّ الإسلام لا يريد للمسلمين أن ينعزلوا عن العالم، وأن يبتعدوا عن حركيته في مجال العلاقات السياسية المعقّدة المتشابكة التي تتصل المواقع الإسلامية بها من أكثر من جانب، لأنه لا يمكن أن يكون عندنا حكم منفصل عن حركة الواقع السياسي في العالم، بل لا بدّ للإنسان من أن يرتبط بطريقةٍ وبأخرى مع كلّ الدول في العالم، باعتبار الروابط الاقتصادية والثقافية والأمنية والاجتماعية التي تتحرك بأجمعها في نطاق العلاقات السياسية.

ومن خلال ذلك، فإنّنا نشعر بأنّه لا بدّ من أن يقيم علاقات مع هذه الدول، لكن مع المحافظة على المواقع الاستراتيجية للنظرية الإسلامية في مسألة التحرر السياسي، وفي مسألة الحفاظ على حقوق المستضعفين، من أن لا تدخل في مصادمات تُسقط حقوقهم، لأجل الوصول إلى تحقيق مكاسب معيّنة، إلا في دائرة الأولويّات الكبيرة التي قد تحتاج إلى أن تجمد بعض معارك مع المحاور السياسية الطاغية، لتستطيع أن تحمي موقعاً إسلامياً معيّناً، وأن تعمل على تقويته، لتنطلق بعد ذلك إلى الموقع الآخر الذي جمّدته لتحرّكه من جديد. إننا نعتقد أنّ الإسلام لا بدّ له من أن ينفتح على كلّ الدول في العالم، من أجل أن يحقّق المصالح الإسلاميّة بطريقة وبأخرى، ونعتقد أنّ الثّورة الإسلاميّة تتحرّك في هذا الخطّ.

لا نريد أن نقول إنها حقّقت كلّ مفردات الخط السياسي الإسلامي في هذا المجال، بحيث إنها استطاعت أن تكوّن نظرية إسلامية واقعية في حركة العلاقات الدولية، لكنّنا نستطيع أن نقول إنها اقتربت من ذلك، وقد تحتاج إلى تجارب كثيرة وإلى ظروف ملائمة أكثر، لكي تبرز الصّورة بشكل أكثر وضوحاً، وأكثر دقّةً وجودةً في هذا المجال.

إنّنا نواجه مشكلة في هذا المجال، فقد نحتاج مع كلّ العاملين في الواقع السياسي في الجمهوريّة الإسلاميّة، إلى أن نوّفق بين حركة الشّعار وحركة الواقع، لأنّ حركة الشّعار التي لا تتوقَّف أمام بعض الحدود والحواجز الّتي يفرضها الواقع، قد تهيّئ للأمّة أنّ الشّعار لا بدّ من أن يتحرك في المطلق، وبذلك، تعيش الأمّة عقليَّة سياسة المطلق. وعندما تؤخذ بالخط السياسي المحدود الَّذي يتحرك فيه الشّعار في الواقع، في نطاق تنتصب أمامه كثير من الحواجز الواقعيّة، فقد يفكّر بعض الأمّة في أنّ الثورة غرقت في مشاكل الدولة، وأن الدولة انحرفت عن خطّ الثورة، باعتبار أنّ الثّورة تمثّل الشّعار الّذي لا يعرف حدوداً، والدّولة تمثّل الحدود، والتي تفرض نفسها على الشّعار.

عندما نفكّر في أننا عندما نعيش في هذا العالم، فليس هناك مطلق في هذا العالم، وليس هناك مطلق فيما هي القيمة الروحية، وليس هناك مطلق فيما هي القيمة السياسية، بل إن الله جعل القيم منطلقة من خلال الحدود التي تحكم وجود الإنسان وحركيته في الواقع. ولهذا، لا بدَّ من أن نبحث عن الطريقة التي تحتفظ للشعار بفاعليته التعبوية في ذهنية الشعب، مع الأوضاع الواقعية التي يُفرض للشعار أن يتحرك فيها، حتى لا تسقط التجربة الواقعية أمام شعارات المطلق.

واقعيّة الثّورة وثوابتها
س: قضيّة المواجهة بين الثّورة الإسلاميّة والمعادلة الدوليّة والاستعماريّة، مرّت بكثير من التطوّرات منذ السنوات التسع الماضية، حتى إنّ الحرب المباشرة كادت تقع بين الثّورة الإسلاميّة ورأس الاستكبار العالمي؛ الشّيطان الأكبر أميركا. هل لكم أن تبيّنوا لنا الثّوابت التي ارتكزت عليها الثورة الإسلاميّة في هذه المواجهة؟ وأين هي مواقع القوّة التي تحقّقت للمسلمين في هذا المجال؟

ج: عندما ندرس الخطوط السياسية التي تحركت فيها الثورة الإسلامية في مواجهتها للاستكبار العالمي، فإننا نجد أنها عملت على إثارة المشكلة حول هذا الاستكبار، وإثارة تعقيدات حول مصالحه، من خلال ما تملكه الثورة من مواقع متقدمة في داخل الأمة الإسلامية في العالم. فقد استطاعت الثورة الإسلامية أن تخلّف حالةً تعبوية سياسية تتحرك من مواقع المفاهيم الدينية التي يلتقي بها المسلم يومياً، كمفهوم الشيطان، وكمفهوم "المستكبرين"، وغيرهما من المفاهيم التي جعلت الإنسان المسلم يستذكر مفاهيمه الإسلامية عندما يريد أن يتحرك في الواقع السياسي. وبهذا، استطاعت هذه الثورة أن تخلق ذهنيةً تعبوية في كثير من مناطق العالم، كما أنها استطاعت أن تربك الكثير من المشاريع الاستعمارية، التي كانت تريد أن تضغط على حرية الشعوب المستضعفة من جهة، أو تريد أن تحاصر الثورة الإسلامية من جهةٍ أخرى، فإننا نلاحظ أن الثورة وفّقت في أكثر من موقع، كما في لبنان وبعض مناطق الخليج وما إلى ذلك، واستطاعت أن تثبت خطها الذي يواجه القوى العالمية بشكلٍ فاعل وجيّد، بحيث شعر الناس في كلّ أنحاء العالم، بأنّ هناك ثورة تواجه الغرب المستعمر، حتى كادت حركيّة الثورة أن تجعل الناس يخلطون بين مواجهة الإدارة السياسية للغرب، والشعب الذي يعيش هناك، مع أنّ المسألة ليست كذلك، لأن الثورة الإسلامية لا تواجه الشعوب الغربية، حتى لو كانت تختلف معها في الفكر والنهج وكثير من المواقع، لكنها لا تواجهها كشعوب، لأننا لسنا معقّدين من الغرب، كعلم وثقافة وحضارة، وإن كنا نختلف مع بعض مفردات علمه وثقافته وحضارته.

ولكن أقول، إنَّ عنف المواجهة قد جعل الكثيرين يخلطون بين هذه المسألة وتلك، ولكن الثورة الإسلامية كانت واقعيةً جداً في دراستها للمساحات الحارة التي تعمل على مواجهة الاستكبار العالمي، فهي تفهم أن مسألة الحرب لا بدّ من أن تتحرك جنباً إلى جنب مع الظروف السياسية وغيرها من الظروف الأمنية، بالمستوى الذي تستطيع فيه الجمهورية الإسلامية أن تواجه الاستكبار العالمي، من دون أن تعطيه فرصةً لأن يسدد إليها ضربات قوية في موقف لم تكن قد تكاملت في قوتها.

لهذا، كانت واقعية بالمستوى الذي لا يبتعد عن الخطوط الإسلاميّة في هذا المجال، فإن الإسلام عندما أراد لنا أن نتحرّك في خطّ الجهاد، وفي خطّ المواجهة للطاغين والمستكبرين، جعل هناك حدوداً لحركة القوّة هذه، ولتفصيلات هذه القوّة، فيما هي مسألة السلم والحرب، والمعاهدة، والموادعة، والمهادنة، وما إلى ذلك من أمور تتفرّع مفرداتها في أكثر من موقع من مواقع الفقه الإسلامي.

لهذا، إنّنا نعتقد أنّ المواجهة التي حدثت في منطقة الخليج بالذّات، بين أميركا وإيران الإسلام، كانت في الصورة المتوازنة الدقيقة جداً، فنحن نلاحظ أنّ إيران كانت تضرب عندما تضرب أميركا، بحيث إنها توحي بأنها لا يمكن أن تتلقّى ضربة وأن تسدّد ضربةً مماثلة، ولكنها كانت تختار الضّربة المماثلة بالطّريقة التي لا تحشر الموقف في الزاوية، ولا تجعل المسألة تؤدي إلى التوتر كله، فكانت تحسب الحسابات السياسية التي تحتفظ لها بقوتها، دون أن تجعلها تخوض معركةً معيّنة لا ترى أن هناك مصلحة للأمة الإسلامية في خوضها، بحسب الظروف الموضوعية في أولويات حركة المعارك، لأنّ المعركة ليست شعاراً سياسياً يمكن أن تتحرك وراءه دون تخطيط، بل المعركة تمثل خطوطاً تفصيلية تتحرك من الخطوط العامة، ولا تتحول إلى حالةٍ واقعية إلا بعد أن تنسجم الخطوط التفصيلية مع الخطوط العامة، أو تنسجم الخطوط العامة مع حركة الواقع. وهذا ما لاحظناه في عملية المواجهة، فإن إيران لم تتراجع وإنما واجهت، ولكن كانت المواجهة مواجهةً خاضعةً للكثير من التوازن فيما هي الشروط الواقعية التي تحتاجها المعركة السياسية والمعركة العسكرية.

الثّورة وولاية الفقيه
س: الإشكاليّة التي يطرحها الكثيرون، بأن الثورة الإسلامية في إيران انطلقت في حكمها السياسي على أساس نظرية ولاية الفقيه، أي بمعنى النظريّة الشيعيّة، وقالوا إن الثورة الإسلامية لن تستطيع أن تصدّر نفسها إلى الخارج إذا انطلقت من هذا المضمون. كيف تقيّمون هذا الموقف؟ وهل الممارسات العمليّة للثّورة الإسلاميّة منذ قيامها توحي بنقيض هذا الموضوع؟

ج: إن نظريّة ولاية الفقيه التي تحرّكت فيها الثورة الإسلامية، يمكن أن تُقدّم بطريقة إسلامية لا تختلف مع كلّ النظريات الإسلاميّة فيما هي مسألة الحكم، لأن مسألة ولاية الفقيه يمكن تقديمها بطريقة لا تقتصر على صفة الفقيه كنائب للإمام الحجّة(عج)، بل يمكن أن تقدّم من خلال الأحاديث المطلقة الشّاملة الواردة عن النبي(ص)، والتي يرويها الفريقان من السنّة والشّيعة، والّتي تقول إنّ العلماء ورثة الأنبياء، أو التي تقول إنّ العلماء أمناء الرسل، التي تجعل العلماء في الواجهة من مسألة وراثة الأنبياء، بحيث يكونون هم الجهة المؤهّلة لقيادة الأمّة، من موقع ثقافتهم الإسلاميّة الواسعة، ومن خلال أمانتهم المرتكزة على أساس عدالتهم الأخلاقيّة والذاتيّة، ومن خلال خبرتهم في الأمور التي هي شرطٌ فيمن يكون فقيهاً وليّاً.

إننا نعتقد أن نظرية ولاية الفقيه، يمكن أن تطرح في الساحة الإسلاميّة بشكلٍ يمكن أن يلتقي مع كل الاتجاهات الإسلامية في مسألة الإمامة. ومن جهةٍ ثانية، فإن التجربة التي عاشتها نظرية ولاية الفقيه، جعلت الفقيه قائداً مشرفاً على الساحة، يراقبها، ويحرّكها من خلال التعاون مع الأمّة. فنحن نجد أنّ الفقيه يمارس ولايته من خلال مجلس الشورى، الذي تنتخبه الأمة من خلال المواقع السياسية، كرئاسة الجمهورية، والوزارة التي تنتخبها الأمة وتراقبها.

ولذلك، فإن هذه النظرية استطاعت أن تخرج بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى، فالفقيه، وإن كانت كفاءته هي التي تفرضه من خلال مصادر النظرية، ولكنه غالباً ما يكون محل ثقة الشعب بشكلٍ كامل أو بشكلٍ كبير جداً، ما يجعله منتخباً من الشعب، ونتيجةً للشورى الشعبية العامة بشكلٍ تلقائي في هذا المجال، كما أنه لا يمارس ولايته بشكلٍ فرديّ يجعل منه ديكتاتوراً، بل ينطلق من خلال الشورى، ومن خلال إشراك الأمّة في عمليّة تحريك المواقع، بحيث تكون نتيجة تفاعلٍ بين إرادة الفقيه وإرادة الأمّة، فالأمة تنتخب رئيس الجمهوريّة حسب الشروط الإسلامية، والفقيه يمضي ذلك عندما يدرس المسألة. وبهذا، فإن الفقيه يعطي الشرعيّة لهذا المنصب، أو لحركة الرئيس في هذا المنصب، بعد أن تقدّم الأمّة مشورتها ورأيها في هذا المجال.

وهكذا بالنّسبة إلى مجلس الشورى الذي تنتجه الأمّة، حتى إن مجلس الشورى عندما يصل إلى نتائج ما، فإن مجلس الخبراء الذي عيّنه الفقيه أيضاً، يدرس للفقيه طبيعة النتائج الشرعيّة، وتكون النتيجة أنّ الفقيه عندما يصدر القرارات، فإنه يُصدرها بعد التّشاور مع أعضاء مجلس الشورى بشكلٍ غير مباشر، ومع مجلس الخبراء بشكل غير مباشر. وبهذا، فإنّ الحكم يكون حكماً شوروياً، وإن كان تحت نظر الفقيه وتحت ولايته، وهذا هو من أفضل أحكام الشورى، باعتبار أن الحكم الشورويّ يتحرّك من خلال أهل الحلّ والعقد في الأمّة، من دون رقابة أخيرة، بينما هنا ينطلق من خلال رقابةٍ أخيرة جيّدة.

إنّنا نعتقد أنّ هذه النظريّة يمكن أن تُقدّم بطريقة إسلاميّة لا تختلف مع كلّ النظريّات الإسلاميّة فيما هي مسألة الحكم، ومن الطبيعي جداً، أنّ أيّة نظريّة إسلاميّة، تنطلق من الاجتهاد، وتعطي الحريّة لبقيّة المسلمين أن يناقشوها، لتكون النتائج للقناعات الأفضل.

ولهذا، فنحن في الوقت الّذي نؤمن بهذه النظريّة، لا نعتبر وضعها شرعاً لا يقبل النقاش ولا يقبل التّغيير، فإذا حدث أنّ الأمّة الإسلاميّة من خلال علمائها، رأت أنّ تطوّر هذه النظريّة من خلال المصادر الشرعيّة أو تغيّرها، فإنّ الذين وضعوا هذه النظريّة، لا يجدون أنّ ذلك يمثّل شيئاً سيّئاً في المجال الإسلامي.

إنّنا في الوقت الّذي نؤمن بنظريّة ولاية الفقيه، لا نعتبر وضعها شرعاً لا يقبل النقاش ولا يقبل التّغيير

أمّا حركة هذه النظريّة في الواقع، فإنّنا نعتقد أنّها نجحت نجاحاً عاماً، ولكن من الطبيعيّ جدّاً لنظريّة جديدة لم يألفها الناس، ولم يألفها الواقع السياسي في العالم، وتدور حولها حتى في داخل الاجتهاد الّذي انطلقت النظرية منه، وهو الاجتهاد الفقهي الإسلامي الشيعي، الكثير من الجدل، من الطبيعي أن تصطدم بكثير من العقبات، وتدور حولها الكثير من أساليب الجدل الفقهي، ما يخلق لها الكثير من المشاكل في ساحة الواقع، كأيّة نظرية جديدة في حركة الفكر الفقهي وجديده في حركة الواقع السياسي.

إنّ أيّة نظريّة لا بدّ من أن تصطدم في حركيتها في الذهن وفي الواقع، بكثير من الآراء المضادة، أو بكثير من مشاكل التطبيق، ولكن هذا لا يعني أن لا واقعيّة للنظريّة، بل يعني أنّ واقعيّتها تشقّ درباً جديداً لا بدّ من أن تلتقي فيه بكثير من الأشواك، وبكثير من الأنعام.

متطلّبات الحركة الإسلاميّة
س: ما هي المتطلّبات الّتي تحتاجها الحركة الإسلاميّة الملتزمة، من أجل أن تحقّق ذاتها على مستوى المسلمين في أرجاء الأرض؟
ج:
إنّنا نعتقد أنّ الحركة الإسلاميّة الملتزمة، التي يحاول الإعلام الغربي أن يسمّيها الحركة الأصوليّة، أو الحركة المتطرّفة، أو ما إلى ذلك من كلماتٍ استهلاكيّة في المصطلحات السياسيّة المضادّة، استطاعت أن تأخذ حجمها الكبير في الساحة الإعلاميّة، سواء كان ذلك من خلال المؤيديّن لها، أو من خلال الناقدين، فقد استطاعت أن تثير في العالم الإسلامي وفي كلّ العالم الآخر، سواء كان عالم المستضعفين من غير المسلمين، أو عالم المستكبرين، أنّ الإسلام يمثل حركة متكاملة تشكل خطورة على مكاسب الاستعمار ومواقعه ومصالحه، وتعمل على أساس أن يكون الإسلام هو البديل من كلّ الطروحات الفكرية السياسية في العالم، من مواقعه الفكرية والسياسية.

ومن الطبيعي أن هذه الحركة الإسلامية قد واجهت الكثير من الحصار الإعلامي السياسي والثقافي، وكثيراً من الضغوط الأمنية والعسكرية، ما جعلها تعيش في صورة مشوّهة لدى كثير من المسلمين، فضلاً عن غير المسلمين، وتعيش في وضعٍ أمنيّ صعب في كثير من المواقع، ما يجعلها تجاهد الآن من أجل تحسين صورتها لدى المستضعفين من جهة، ومن أجل أن تربح مواقع متقدّمة في العالم، بكلّ الوسائل الأمنيّة والعسكريّة والسياسية، من جهة ثانية.

ونحن نعتقد أنّ طبيعة حداثة هذه الحركة، وضخامة الدور الذي ينتظرها، وطبيعة الضغوط التي تطبق عليها، والحصار الذي تحاصَر به من جميع القوى، سواء كانت محلية، أو إقليمية، أو دولية، يفرض عليها الوقوع في بعض الأخطاء، ويفرض عليها الكثير من نقاط الضعف، والكثير من بساطة الأساليب، ما يجعلها تحتاج إلى أن تواجه نقاط الضعف لتحوّلها إلى نقاط قوة، وأن تتخفَّف من كثير من الضغوط، أو أن تتعامل مع الضغوط بطريقة لا تجعل الضغوط تفرض عليها الوقوع في أخطار معينة، أو تعمل على أساس التعمق في طبيعة الواقع وخلفياته، حتى لا تكون أساليبها أساليب بسيطة وساذجة.

إننا نعتقد أن الحركة الإسلامية الملتزمة التي ترتبط عفوياً بالحركة الإسلامية في إيران، التي يقودها الإمام الخميني ـ حفظه الله ـ كما يقود كلّ الحركات الإسلاميّة، أن هذه الحركة الإسلامية أعطت نتائج كبيرة أكبر من حجمها الواقعي. ولهذا، فإنها مؤهلة لأن تعطي نتائج أكبر، كما أنها تحتاج إلى قيادات متحركة مباشرة تملك ثقافة الإسلام، وتملك الثقافة الحركية، وتملك الرؤية الواسعة للواقع، لأن مسألة القيادات المباشرة هي مسألة مهمة جداً في هذا الاتجاه، في أي موقعٍ من المواقع، لأنها هي التي تحوّل الخطوط العامة للقيادة العامة إلى واقع عملي، وهي التي تعطيها الصحة أو الفساد، أو تعطيها الخطأ أو الصواب في هذا المجال. إنها حركة تتكامل لا بد لها من أن تبلغ هذه النتائج عاجلاً أو آجلاً، إن شاء الله.

•    مقابلة أجراها التلفزيون الإيراني مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)

يقدّم سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في هذه المقابلة، قراءة في الثورة الإسلامية الإيرانية، ويتطرّق إلى عددٍ من العناوين المتعلّقة بشكل الحكم، ونظريتي ولاية الفقيه والشّورى، وما إلى ذلك. ويرى سماحته أنّ الحكم يكون حكماً شوروياً، وإن كان تحت نظر الفقيه وتحت ولايته، وهذا هو من أفضل أحكام الشّورى ، معتبراً أنّ نظريّة ولاية الفقيه، يمكن أن تطرح في الساحة الإسلاميّة بشكلٍ يمكن أن يلتقي مع كلّ الاتجاهات الإسلاميّة في مسألة الإمامة...

وفيما يلي نصّ المقابلة:
الثّورة والحكم الإسلاميّ

س: كان للثّورة الإسلاميَّة الدّور البارز في طرح النظريَّة الإسلاميّة على مستوى الحكم. في رأيكم، هل استطاعت النظريَّة الإسلاميَّة أن تأخذ موقعاً فاعلاً على مستوى الحكم، في مقابل النظريّات الأخرى؟ وهل استطاعت هذه النظريَّة أن تؤكّد مصداقيَّة السّعي لتحقيق العدالة والحريّة للإنسان، فيما فشلت النّظريّات الأخرى، كالشيوعيَّة والاشتراكيَّة والديمقراطيَّة؟

ج: عندما ندرس حركيّة الثورة الإسلاميَّة في تأكيد نظريّة الإسلام كمشروع كاملٍ شامل يضع مسألة الحكم في عنوان حركته، وعندما نتطلّع إلى هذه الحركيّة، فإنّنا نجد أنّ الثّورة الإسلاميّة استطاعت أن تؤكّد هذا المفهوم كمفهومٍ أصيلٍ متحرّكٍ في ساحة الصراع السياسي، فقد أمكننا من خلال حركة الثورة الإسلامية أن نطرح الإسلام كمشروعٍ سياسيٍ تتقبّله ساحة الصراع السياسي في العالم، بقطع النظر عما إذا كانت توافق عليه أو لا، لأن المسألة كانت سابقاً، أنّ الإسلام دين لا دخل له بالسياسة، وأنّ تدخّله في السياسة يربك الوضع ولا يستطيع أن يقدّم له شيئاً، لأنّ الدين هو الفكر الذي يُطلّ على عالم الغيب، والسياسة هي الحركة التي تنطلق في صعيد الواقع، ولا يمكننا أن نمزج بين الغيب والواقع.

ومن خلال الوسائل السياسية المرتكزة على أساس النظريّة الإسلاميّة، شعر النّاس بأنّ مثل هذا التفكير الإسلامي بهذه الطّريقة، يستحقّ أن يُبحث وأن يُناقش، وبالتّالي، يستحقّ أن يدخل السّاحة ليشكّل محوراً من محاورها، التي قد تلتقي مع بعض المحاور في بعض المواقع، وقد تختلف عنها. وأعتقد أنّ الثورة الإسلامية قد وفّقت من خلال ذلك إلى حدّ كبير في إدخال الإسلام إلى ساحة الصّراع السياسي بقوّة، بعد أن كان خارج نطاق المسألة السياسيّة، فيما هو الفكر السياسي، وفيما هي الحركة السياسيّة.

ولا تزال أمام الثّورة أشواط كبيرة تحتاج إلى أن تبلغها، حتّى تستطيع أن تصل إلى مستوى الاستقطاب في الساحة العالمية، بتحريك الإسلام بشكلٍ أكثر فاعليّةً وأكثر مصداقيّةً، فيما هي قضيّة الفكر السياسي، وفيما هي قضيّة الحركة السياسيّة.

أما مسألة: هل وفِّقت الثورة الإسلامية في نطاق الجمهورية الإسلامية، لأن تؤكّد نظريتها في مسألة الحرية والعدالة في مقابل ما فشل الآخرون في تحقيقه؟ فإنني أتصور أنها قد وفِّقت توفيقاً محدوداً في هذا المجال، فقد استطاعت أن تعطي الفكرة أنّ الثّورة لا تخاف من الفكر المضادّ، ولهذا، فإنها تمنحه الحرية في دائرة السلامة العامة للأمة، وفي دائرة عدم الإساءة بشكل بالغ إلى عقيدة الأمّة. ولهذا، رأينا أن الثورة في بدايات عهدها، أعطت الحرية لكل الاتجاهات السياسية التي تختلف معها بالكامل، كالنظرية الماركسية، أو التي تختلف معها في التصور السياسي، أو في بعض الأوضاع القانونية العامة، ولم تقيّد حريتها، ولكنها عندما تحولت إلى عنصرٍ يهدّد السلامة العامة للأمة، حدّدت حريتها بطريقة وبأخرى، فلم يكن تحديدها لحرية المعارضين ناشئاً من عدم إيمانها بحرية العمل السياسي المتنوّع، ولكن كان ناشئاً من أن هؤلاء حاولوا أن يختصروا طروحاتهم، فيمارسوا الأعمال الأمنية المضادّة التي تسيء إلى البلد وإلى سلامته بشكلٍ عام.

لا تزال أمام الثّورة الإسلاميّة في إيران أشواط كبيرة تحتاج إلى أن تبلغها حتّى تستطيع أن تصل إلى مستوى الاستقطاب في الساحة العالميّة

أمّا مسألة الحريّة في النطاق السياسي العام، وهي حريّة المسلمين أمام القوى المستكبرة الطّاغية، فقد استطاعت الثورة الإسلاميّة في نطاق سياسة الجمهوريّة، أن تعطي الدّليل الواضح على هذا الخطّ وتؤكّده بكلّ أسلوب، وحتّى إنها عاشت مشاكل كثيرة من خلال العمل على تأكيد هذا الشّعار في ذهنيّة الجمهور، من خلال شعار "لا شرقيّة ولا غربيّة"، أو من خلال شعار "الموت لأمريكا"، و "والموت للاتحاد السوفياتي"، حتى في الحالات التي تتحرّك فيها علاقاتها بشكلٍ معقول، فإنها تعمل على تعميق مسألة الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، وعدم الخضوع له، كما هو الاستقلال عن أميركا في ذهنيّة الجمهوريّة، حتى يستطيع الجمهور من خلال هذه التعبئة السياسية، فيما هي مسألة الحرية، أن يواجه أية إمكانية للانحراف في المستقبل عن خطّ هذه السياسة، ليكون الجمهور هو الأساس في منع الانحراف، وهو القوّة التي تجابه أيّ انحراف.
كما أننا عندما نلاحظ طريقة التحرّك السياسي، فإنها بالرغم من الصّعوبات الكبيرة جداً، والضّغوط المطبقة على الثورة من جميع الجهات، استطاعت أن تضع الحدّ الفاصل بين ما هي السياسة المتحرّرة من الضّغوط، وما هي السياسة الواقعة تحت تأثير الضّغوط.

إنّنا نعتقد أنها استطاعت أن تحقّق الكثير، ولكنّنا نتصوّر أنها تحتاج إلى الكثير من الجهد في المستقبل، لتؤكّد هذه المسألة في الحرية في الداخل والحريّة في الخارج، باعتبار أن طبيعة الظروف العسكرية، ربما تمنع من كثير من حرية الدولة في ممارسة تحريك نظريتها بشكلٍ كامل.

أمّا مسألة العدالة، فإنّنا نتصوّر أنها استطاعت أن تقطع شوطاً كاملاً في هذا المجال، عندما حوّلت اقتصاد البلد إلى اقتصاد يرعى شؤون المستضعفين في الأديان، وشؤون المنكوبين الّذين يعيشون على هامش المدن الكبرى. وقد حقّقت في هذا المجال دوراً كبيراً في تحقيق المشاريع الخدماتية للأمّة، بالمستوى الذي لا يستطيع كلّ العهد الملكي أن يقف أمامه، ولو بنسبة عشرين في المئة فيما حقّقه ذلك العهد، وفيما حقَّقته الثورة.
إنَّني أعتقد أنَّ طريقة الثورة، وتصوّرها فيما يجب أن يكون عليه الحكم، وما يجب أن تكون عليه العدالة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن يهيّئ للبلد ولبلدان أخرى تستفيد من تجربة هذا البلد، الكثير من إمكانات العدالة الإسلامية بشكل جديد، ولكن الظروف الاقتصادية الخانقة التي جاءت من خلال الحرب، هي المسؤولة عن عدم استمرار هذه الخطة، التي نرجو أن تستكمل من خلال ظروف أكثر سعةً، لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يعطي العالم كيف يمكن أن تكون العدالة الإسلامية التي تتحرك في نطاق الحكم الإسلامي، لتجعل الإنسان الذي يعيش في داخل الحكم، إنساناً يشعر باحترام إنسانيّته في كلّ المجالات.

التّوفيق بين الشّعار والواقع
س: منذ تسع سنوات، استطاع حكم الإسلام أن يتبلور في إيران، في إطار الدّولة الإسلامية الأولى في العصر الحديث، واستطاع الحكم الإسلامي أن يكرّس معطيات حديثة وجديدة في مجال العلاقات الدولية. في رأيكم، هل استطاع هذا الحكم الإسلامي أن يكرّس المضامين السياسية، كما أمر بها الإسلام على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأخرى؟

ج: في تصوري، إنّ الطريقة التي أدار فيها الإسلام الحكم في الجمهورية الإسلامية، والمسألة السياسية في نطاق العلاقات، لا تبتعد عما يجب أن يكون النهج السياسي في العلاقات الدولية من وجهة نظر الإسلام، لأنني أفكر من خلال دراسات متعدّدة، في أنّ الإسلام لا يريد للمسلمين أن ينعزلوا عن العالم، وأن يبتعدوا عن حركيته في مجال العلاقات السياسية المعقّدة المتشابكة التي تتصل المواقع الإسلامية بها من أكثر من جانب، لأنه لا يمكن أن يكون عندنا حكم منفصل عن حركة الواقع السياسي في العالم، بل لا بدّ للإنسان من أن يرتبط بطريقةٍ وبأخرى مع كلّ الدول في العالم، باعتبار الروابط الاقتصادية والثقافية والأمنية والاجتماعية التي تتحرك بأجمعها في نطاق العلاقات السياسية.

ومن خلال ذلك، فإنّنا نشعر بأنّه لا بدّ من أن يقيم علاقات مع هذه الدول، لكن مع المحافظة على المواقع الاستراتيجية للنظرية الإسلامية في مسألة التحرر السياسي، وفي مسألة الحفاظ على حقوق المستضعفين، من أن لا تدخل في مصادمات تُسقط حقوقهم، لأجل الوصول إلى تحقيق مكاسب معيّنة، إلا في دائرة الأولويّات الكبيرة التي قد تحتاج إلى أن تجمد بعض معارك مع المحاور السياسية الطاغية، لتستطيع أن تحمي موقعاً إسلامياً معيّناً، وأن تعمل على تقويته، لتنطلق بعد ذلك إلى الموقع الآخر الذي جمّدته لتحرّكه من جديد. إننا نعتقد أنّ الإسلام لا بدّ له من أن ينفتح على كلّ الدول في العالم، من أجل أن يحقّق المصالح الإسلاميّة بطريقة وبأخرى، ونعتقد أنّ الثّورة الإسلاميّة تتحرّك في هذا الخطّ.

لا نريد أن نقول إنها حقّقت كلّ مفردات الخط السياسي الإسلامي في هذا المجال، بحيث إنها استطاعت أن تكوّن نظرية إسلامية واقعية في حركة العلاقات الدولية، لكنّنا نستطيع أن نقول إنها اقتربت من ذلك، وقد تحتاج إلى تجارب كثيرة وإلى ظروف ملائمة أكثر، لكي تبرز الصّورة بشكل أكثر وضوحاً، وأكثر دقّةً وجودةً في هذا المجال.

إنّنا نواجه مشكلة في هذا المجال، فقد نحتاج مع كلّ العاملين في الواقع السياسي في الجمهوريّة الإسلاميّة، إلى أن نوّفق بين حركة الشّعار وحركة الواقع، لأنّ حركة الشّعار التي لا تتوقَّف أمام بعض الحدود والحواجز الّتي يفرضها الواقع، قد تهيّئ للأمّة أنّ الشّعار لا بدّ من أن يتحرك في المطلق، وبذلك، تعيش الأمّة عقليَّة سياسة المطلق. وعندما تؤخذ بالخط السياسي المحدود الَّذي يتحرك فيه الشّعار في الواقع، في نطاق تنتصب أمامه كثير من الحواجز الواقعيّة، فقد يفكّر بعض الأمّة في أنّ الثورة غرقت في مشاكل الدولة، وأن الدولة انحرفت عن خطّ الثورة، باعتبار أنّ الثّورة تمثّل الشّعار الّذي لا يعرف حدوداً، والدّولة تمثّل الحدود، والتي تفرض نفسها على الشّعار.

عندما نفكّر في أننا عندما نعيش في هذا العالم، فليس هناك مطلق في هذا العالم، وليس هناك مطلق فيما هي القيمة الروحية، وليس هناك مطلق فيما هي القيمة السياسية، بل إن الله جعل القيم منطلقة من خلال الحدود التي تحكم وجود الإنسان وحركيته في الواقع. ولهذا، لا بدَّ من أن نبحث عن الطريقة التي تحتفظ للشعار بفاعليته التعبوية في ذهنية الشعب، مع الأوضاع الواقعية التي يُفرض للشعار أن يتحرك فيها، حتى لا تسقط التجربة الواقعية أمام شعارات المطلق.

واقعيّة الثّورة وثوابتها
س: قضيّة المواجهة بين الثّورة الإسلاميّة والمعادلة الدوليّة والاستعماريّة، مرّت بكثير من التطوّرات منذ السنوات التسع الماضية، حتى إنّ الحرب المباشرة كادت تقع بين الثّورة الإسلاميّة ورأس الاستكبار العالمي؛ الشّيطان الأكبر أميركا. هل لكم أن تبيّنوا لنا الثّوابت التي ارتكزت عليها الثورة الإسلاميّة في هذه المواجهة؟ وأين هي مواقع القوّة التي تحقّقت للمسلمين في هذا المجال؟

ج: عندما ندرس الخطوط السياسية التي تحركت فيها الثورة الإسلامية في مواجهتها للاستكبار العالمي، فإننا نجد أنها عملت على إثارة المشكلة حول هذا الاستكبار، وإثارة تعقيدات حول مصالحه، من خلال ما تملكه الثورة من مواقع متقدمة في داخل الأمة الإسلامية في العالم. فقد استطاعت الثورة الإسلامية أن تخلّف حالةً تعبوية سياسية تتحرك من مواقع المفاهيم الدينية التي يلتقي بها المسلم يومياً، كمفهوم الشيطان، وكمفهوم "المستكبرين"، وغيرهما من المفاهيم التي جعلت الإنسان المسلم يستذكر مفاهيمه الإسلامية عندما يريد أن يتحرك في الواقع السياسي. وبهذا، استطاعت هذه الثورة أن تخلق ذهنيةً تعبوية في كثير من مناطق العالم، كما أنها استطاعت أن تربك الكثير من المشاريع الاستعمارية، التي كانت تريد أن تضغط على حرية الشعوب المستضعفة من جهة، أو تريد أن تحاصر الثورة الإسلامية من جهةٍ أخرى، فإننا نلاحظ أن الثورة وفّقت في أكثر من موقع، كما في لبنان وبعض مناطق الخليج وما إلى ذلك، واستطاعت أن تثبت خطها الذي يواجه القوى العالمية بشكلٍ فاعل وجيّد، بحيث شعر الناس في كلّ أنحاء العالم، بأنّ هناك ثورة تواجه الغرب المستعمر، حتى كادت حركيّة الثورة أن تجعل الناس يخلطون بين مواجهة الإدارة السياسية للغرب، والشعب الذي يعيش هناك، مع أنّ المسألة ليست كذلك، لأن الثورة الإسلامية لا تواجه الشعوب الغربية، حتى لو كانت تختلف معها في الفكر والنهج وكثير من المواقع، لكنها لا تواجهها كشعوب، لأننا لسنا معقّدين من الغرب، كعلم وثقافة وحضارة، وإن كنا نختلف مع بعض مفردات علمه وثقافته وحضارته.

ولكن أقول، إنَّ عنف المواجهة قد جعل الكثيرين يخلطون بين هذه المسألة وتلك، ولكن الثورة الإسلامية كانت واقعيةً جداً في دراستها للمساحات الحارة التي تعمل على مواجهة الاستكبار العالمي، فهي تفهم أن مسألة الحرب لا بدّ من أن تتحرك جنباً إلى جنب مع الظروف السياسية وغيرها من الظروف الأمنية، بالمستوى الذي تستطيع فيه الجمهورية الإسلامية أن تواجه الاستكبار العالمي، من دون أن تعطيه فرصةً لأن يسدد إليها ضربات قوية في موقف لم تكن قد تكاملت في قوتها.

لهذا، كانت واقعية بالمستوى الذي لا يبتعد عن الخطوط الإسلاميّة في هذا المجال، فإن الإسلام عندما أراد لنا أن نتحرّك في خطّ الجهاد، وفي خطّ المواجهة للطاغين والمستكبرين، جعل هناك حدوداً لحركة القوّة هذه، ولتفصيلات هذه القوّة، فيما هي مسألة السلم والحرب، والمعاهدة، والموادعة، والمهادنة، وما إلى ذلك من أمور تتفرّع مفرداتها في أكثر من موقع من مواقع الفقه الإسلامي.

لهذا، إنّنا نعتقد أنّ المواجهة التي حدثت في منطقة الخليج بالذّات، بين أميركا وإيران الإسلام، كانت في الصورة المتوازنة الدقيقة جداً، فنحن نلاحظ أنّ إيران كانت تضرب عندما تضرب أميركا، بحيث إنها توحي بأنها لا يمكن أن تتلقّى ضربة وأن تسدّد ضربةً مماثلة، ولكنها كانت تختار الضّربة المماثلة بالطّريقة التي لا تحشر الموقف في الزاوية، ولا تجعل المسألة تؤدي إلى التوتر كله، فكانت تحسب الحسابات السياسية التي تحتفظ لها بقوتها، دون أن تجعلها تخوض معركةً معيّنة لا ترى أن هناك مصلحة للأمة الإسلامية في خوضها، بحسب الظروف الموضوعية في أولويات حركة المعارك، لأنّ المعركة ليست شعاراً سياسياً يمكن أن تتحرك وراءه دون تخطيط، بل المعركة تمثل خطوطاً تفصيلية تتحرك من الخطوط العامة، ولا تتحول إلى حالةٍ واقعية إلا بعد أن تنسجم الخطوط التفصيلية مع الخطوط العامة، أو تنسجم الخطوط العامة مع حركة الواقع. وهذا ما لاحظناه في عملية المواجهة، فإن إيران لم تتراجع وإنما واجهت، ولكن كانت المواجهة مواجهةً خاضعةً للكثير من التوازن فيما هي الشروط الواقعية التي تحتاجها المعركة السياسية والمعركة العسكرية.

الثّورة وولاية الفقيه
س: الإشكاليّة التي يطرحها الكثيرون، بأن الثورة الإسلامية في إيران انطلقت في حكمها السياسي على أساس نظرية ولاية الفقيه، أي بمعنى النظريّة الشيعيّة، وقالوا إن الثورة الإسلامية لن تستطيع أن تصدّر نفسها إلى الخارج إذا انطلقت من هذا المضمون. كيف تقيّمون هذا الموقف؟ وهل الممارسات العمليّة للثّورة الإسلاميّة منذ قيامها توحي بنقيض هذا الموضوع؟

ج: إن نظريّة ولاية الفقيه التي تحرّكت فيها الثورة الإسلامية، يمكن أن تُقدّم بطريقة إسلامية لا تختلف مع كلّ النظريات الإسلاميّة فيما هي مسألة الحكم، لأن مسألة ولاية الفقيه يمكن تقديمها بطريقة لا تقتصر على صفة الفقيه كنائب للإمام الحجّة(عج)، بل يمكن أن تقدّم من خلال الأحاديث المطلقة الشّاملة الواردة عن النبي(ص)، والتي يرويها الفريقان من السنّة والشّيعة، والّتي تقول إنّ العلماء ورثة الأنبياء، أو التي تقول إنّ العلماء أمناء الرسل، التي تجعل العلماء في الواجهة من مسألة وراثة الأنبياء، بحيث يكونون هم الجهة المؤهّلة لقيادة الأمّة، من موقع ثقافتهم الإسلاميّة الواسعة، ومن خلال أمانتهم المرتكزة على أساس عدالتهم الأخلاقيّة والذاتيّة، ومن خلال خبرتهم في الأمور التي هي شرطٌ فيمن يكون فقيهاً وليّاً.

إننا نعتقد أن نظرية ولاية الفقيه، يمكن أن تطرح في الساحة الإسلاميّة بشكلٍ يمكن أن يلتقي مع كل الاتجاهات الإسلامية في مسألة الإمامة. ومن جهةٍ ثانية، فإن التجربة التي عاشتها نظرية ولاية الفقيه، جعلت الفقيه قائداً مشرفاً على الساحة، يراقبها، ويحرّكها من خلال التعاون مع الأمّة. فنحن نجد أنّ الفقيه يمارس ولايته من خلال مجلس الشورى، الذي تنتخبه الأمة من خلال المواقع السياسية، كرئاسة الجمهورية، والوزارة التي تنتخبها الأمة وتراقبها.

ولذلك، فإن هذه النظرية استطاعت أن تخرج بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى، فالفقيه، وإن كانت كفاءته هي التي تفرضه من خلال مصادر النظرية، ولكنه غالباً ما يكون محل ثقة الشعب بشكلٍ كامل أو بشكلٍ كبير جداً، ما يجعله منتخباً من الشعب، ونتيجةً للشورى الشعبية العامة بشكلٍ تلقائي في هذا المجال، كما أنه لا يمارس ولايته بشكلٍ فرديّ يجعل منه ديكتاتوراً، بل ينطلق من خلال الشورى، ومن خلال إشراك الأمّة في عمليّة تحريك المواقع، بحيث تكون نتيجة تفاعلٍ بين إرادة الفقيه وإرادة الأمّة، فالأمة تنتخب رئيس الجمهوريّة حسب الشروط الإسلامية، والفقيه يمضي ذلك عندما يدرس المسألة. وبهذا، فإن الفقيه يعطي الشرعيّة لهذا المنصب، أو لحركة الرئيس في هذا المنصب، بعد أن تقدّم الأمّة مشورتها ورأيها في هذا المجال.

وهكذا بالنّسبة إلى مجلس الشورى الذي تنتجه الأمّة، حتى إن مجلس الشورى عندما يصل إلى نتائج ما، فإن مجلس الخبراء الذي عيّنه الفقيه أيضاً، يدرس للفقيه طبيعة النتائج الشرعيّة، وتكون النتيجة أنّ الفقيه عندما يصدر القرارات، فإنه يُصدرها بعد التّشاور مع أعضاء مجلس الشورى بشكلٍ غير مباشر، ومع مجلس الخبراء بشكل غير مباشر. وبهذا، فإنّ الحكم يكون حكماً شوروياً، وإن كان تحت نظر الفقيه وتحت ولايته، وهذا هو من أفضل أحكام الشورى، باعتبار أن الحكم الشورويّ يتحرّك من خلال أهل الحلّ والعقد في الأمّة، من دون رقابة أخيرة، بينما هنا ينطلق من خلال رقابةٍ أخيرة جيّدة.

إنّنا نعتقد أنّ هذه النظريّة يمكن أن تُقدّم بطريقة إسلاميّة لا تختلف مع كلّ النظريّات الإسلاميّة فيما هي مسألة الحكم، ومن الطبيعي جداً، أنّ أيّة نظريّة إسلاميّة، تنطلق من الاجتهاد، وتعطي الحريّة لبقيّة المسلمين أن يناقشوها، لتكون النتائج للقناعات الأفضل.

ولهذا، فنحن في الوقت الّذي نؤمن بهذه النظريّة، لا نعتبر وضعها شرعاً لا يقبل النقاش ولا يقبل التّغيير، فإذا حدث أنّ الأمّة الإسلاميّة من خلال علمائها، رأت أنّ تطوّر هذه النظريّة من خلال المصادر الشرعيّة أو تغيّرها، فإنّ الذين وضعوا هذه النظريّة، لا يجدون أنّ ذلك يمثّل شيئاً سيّئاً في المجال الإسلامي.

إنّنا في الوقت الّذي نؤمن بنظريّة ولاية الفقيه، لا نعتبر وضعها شرعاً لا يقبل النقاش ولا يقبل التّغيير

أمّا حركة هذه النظريّة في الواقع، فإنّنا نعتقد أنّها نجحت نجاحاً عاماً، ولكن من الطبيعيّ جدّاً لنظريّة جديدة لم يألفها الناس، ولم يألفها الواقع السياسي في العالم، وتدور حولها حتى في داخل الاجتهاد الّذي انطلقت النظرية منه، وهو الاجتهاد الفقهي الإسلامي الشيعي، الكثير من الجدل، من الطبيعي أن تصطدم بكثير من العقبات، وتدور حولها الكثير من أساليب الجدل الفقهي، ما يخلق لها الكثير من المشاكل في ساحة الواقع، كأيّة نظرية جديدة في حركة الفكر الفقهي وجديده في حركة الواقع السياسي.

إنّ أيّة نظريّة لا بدّ من أن تصطدم في حركيتها في الذهن وفي الواقع، بكثير من الآراء المضادة، أو بكثير من مشاكل التطبيق، ولكن هذا لا يعني أن لا واقعيّة للنظريّة، بل يعني أنّ واقعيّتها تشقّ درباً جديداً لا بدّ من أن تلتقي فيه بكثير من الأشواك، وبكثير من الأنعام.

متطلّبات الحركة الإسلاميّة
س: ما هي المتطلّبات الّتي تحتاجها الحركة الإسلاميّة الملتزمة، من أجل أن تحقّق ذاتها على مستوى المسلمين في أرجاء الأرض؟
ج:
إنّنا نعتقد أنّ الحركة الإسلاميّة الملتزمة، التي يحاول الإعلام الغربي أن يسمّيها الحركة الأصوليّة، أو الحركة المتطرّفة، أو ما إلى ذلك من كلماتٍ استهلاكيّة في المصطلحات السياسيّة المضادّة، استطاعت أن تأخذ حجمها الكبير في الساحة الإعلاميّة، سواء كان ذلك من خلال المؤيديّن لها، أو من خلال الناقدين، فقد استطاعت أن تثير في العالم الإسلامي وفي كلّ العالم الآخر، سواء كان عالم المستضعفين من غير المسلمين، أو عالم المستكبرين، أنّ الإسلام يمثل حركة متكاملة تشكل خطورة على مكاسب الاستعمار ومواقعه ومصالحه، وتعمل على أساس أن يكون الإسلام هو البديل من كلّ الطروحات الفكرية السياسية في العالم، من مواقعه الفكرية والسياسية.

ومن الطبيعي أن هذه الحركة الإسلامية قد واجهت الكثير من الحصار الإعلامي السياسي والثقافي، وكثيراً من الضغوط الأمنية والعسكرية، ما جعلها تعيش في صورة مشوّهة لدى كثير من المسلمين، فضلاً عن غير المسلمين، وتعيش في وضعٍ أمنيّ صعب في كثير من المواقع، ما يجعلها تجاهد الآن من أجل تحسين صورتها لدى المستضعفين من جهة، ومن أجل أن تربح مواقع متقدّمة في العالم، بكلّ الوسائل الأمنيّة والعسكريّة والسياسية، من جهة ثانية.

ونحن نعتقد أنّ طبيعة حداثة هذه الحركة، وضخامة الدور الذي ينتظرها، وطبيعة الضغوط التي تطبق عليها، والحصار الذي تحاصَر به من جميع القوى، سواء كانت محلية، أو إقليمية، أو دولية، يفرض عليها الوقوع في بعض الأخطاء، ويفرض عليها الكثير من نقاط الضعف، والكثير من بساطة الأساليب، ما يجعلها تحتاج إلى أن تواجه نقاط الضعف لتحوّلها إلى نقاط قوة، وأن تتخفَّف من كثير من الضغوط، أو أن تتعامل مع الضغوط بطريقة لا تجعل الضغوط تفرض عليها الوقوع في أخطار معينة، أو تعمل على أساس التعمق في طبيعة الواقع وخلفياته، حتى لا تكون أساليبها أساليب بسيطة وساذجة.

إننا نعتقد أن الحركة الإسلامية الملتزمة التي ترتبط عفوياً بالحركة الإسلامية في إيران، التي يقودها الإمام الخميني ـ حفظه الله ـ كما يقود كلّ الحركات الإسلاميّة، أن هذه الحركة الإسلامية أعطت نتائج كبيرة أكبر من حجمها الواقعي. ولهذا، فإنها مؤهلة لأن تعطي نتائج أكبر، كما أنها تحتاج إلى قيادات متحركة مباشرة تملك ثقافة الإسلام، وتملك الثقافة الحركية، وتملك الرؤية الواسعة للواقع، لأن مسألة القيادات المباشرة هي مسألة مهمة جداً في هذا الاتجاه، في أي موقعٍ من المواقع، لأنها هي التي تحوّل الخطوط العامة للقيادة العامة إلى واقع عملي، وهي التي تعطيها الصحة أو الفساد، أو تعطيها الخطأ أو الصواب في هذا المجال. إنها حركة تتكامل لا بد لها من أن تبلغ هذه النتائج عاجلاً أو آجلاً، إن شاء الله.

•    مقابلة أجراها التلفزيون الإيراني مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير