تجارة رابحة وميدانٌ للدعاء والتوبة

تجارة رابحة وميدانٌ للدعاء والتوبة

في معنى الاستفادة من فرصة شهر رمضان: تجارة رابحة وميدانٌ للدعاء والتوبة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

التكامل في النفس

يقول الله تعالى: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}، في الخطبة التي استقبل بها رسول الله (ص) شهر رمضان في آخر جمعة من "شعبان" - كما روي عنه - ركّز على عدة جوانب في هذا الشهر، مما أراد للمسلمين أن يحصلوا عليه من مكاسب روحية واجتماعية وأخلاقية، بحيث يشعر كل مؤمن ومؤمنة أنه عندما يدخل هذا الشهر فإنما يدخله من أجل أن يخرج منه وقد حقق كل هذه الأهداف، بحيث يراقب نفسه في كل يوم من أيام هذا الشهر، ويسألها هل أنه كان في اليوم التالي أفضل منه في اليوم الأول ليحقق هذا الهدف أو ذاك ، حتى ينتهي شهر رمضان وقد استطاع أن يحصل على المكاسب التي تنمي شخصيته وتجددها.

فالله تعالى أراد للإنسان أن يتكامل في نفسه بحيث يكون كل يوم أفضل من اليوم الذي قبله، وفي هذا جاء في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "من استوى يوماه فهو مغبون"، كما يفكّر كل واحد منا أن تكون صحته ورصيده المالي ومنزلته الاجتماعية في اليوم الثاني أفضل من اليوم الأول، كذلك أن تكون شخصيته الإسلامية في اليوم والشهر الثاني أفضل من اليوم والشهر الأول، بحيث يدرس الإنسان نموّ شخصيته في عقله وقلبه وأخلاقه وعلاقاته،أن يدرسها دراسة دقيقة في كل يوم ليشعر أنه في طريقه إلى الله تعالى يصعد في كل يوم درجة، حتى يكون قد وصل إلى أعلى درجاته في اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله سبحانه. وقد ورد في الدعاء: "اللهم اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيامي يوم ألقاك فيه"، لا يكفي أن يعتبر الإنسان نفسه مسلماً ليشعر بأنه قد وفّى قسطه للعلى، وأنه انتهى من الجهد والتعب، أو أن يشعر الإنسان عندما ينتمي إلى حزب أو منظمة أو جمعية إسلامية بأنه أصبح يوزّع مواعظ على الناس ولا يستطيع أحد أن يعظه، مع أن هذا الجمود عن التفكّر في أمره ومحاسبة نفسه قد يجعله يتراجع، لأنه أغلق على نفسه باب التغيّر والتطور، وقد يسيء إلى الإسلام من خلال تأكيد صفته في داخل ذاته أكثر مما يحسن إلى الإسلام.

محاسبة النفس ومراقبتها

وهذا ما ركّز الإسلام عليه لكي يبقى الإنسان في حالة حساب لنفسه، بأن يعتبر أنه قد وقف بين يدي الله تعالى للحساب، فيفترض أسئلة لكي يحاسب نفسه، وبذلك يفهم نفسه فيفهم سلبياتها وإيجابياتها، ويفهم نقاط ضعفها وقوتها، لأنني أزعم أننا نفهم الناس من حولنا أكثر مما نفهم أنفسنا، والسبب أننا لا نجلس مع أنفسنا ولا نحدّق بها بل نحدّق بالآخرين، ولذلك من السهل أن يغشّنا الناس في أنفسنا، ولدى الإمام عليّ(ع) كلمة رائعة جداً في هذا المقام - وأوصيكم أن تقرأوا بتمعّن الكلمات القصار في آخر "نهج البلاغة" فهي خلاصة تجاربه (ع) - يقول: "لا يغرنّك سواد الناس عن نفسك - بحيث يصوّرون لك نفسك على غير صورتها - فإن الأمر يصل إليك دونهم".

وهذا ما أؤكده لنفسي ولكم، وهو أننا مجتمع يخرّب قياداته ويضللّها، لأننا لا نملك إلا المدائح لشخصيات قياداتنا، وبذلك تتحوّل هذه القيادات - بفعل المدّاحين - إلى شخصيات لا تقبل النقد ولا تسمح لأحد أن يدلّها على أخطائها، كم من القيادات التي غششناها بأنفسها فتقبّلت الغش وأصبحت تغش أنفسها بفعل ذلك. لذلك، على الإنسان أن يكون ديّاناً لنفسه، بحيث يحاسبها ويوزنها لكي يعرف حجم نفسه.. وقيمة الإنسان هي بمقدار ما يحسن، وبما يملك من خبرة وعلم ووعي، أما المال والعقارات فهي ليست أنت، إنها تكبّر فرص حياتك ولكنها لا تكبّر شخصيتك، لذلك عليك أن تعمل لكي يحترمك الناس لشخصيتك لا لمالك..

شهر التكامل والرحمة

فلنتابع خطبة النبي (ع) لكي نتعرّف على ما أراده منا، فبعد أن بيّن (ص) أننا ضيوف الله تعالى في هذا الشهر، قال: "فاسألوا ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه" - أن نقرأ القرآن في شهر رمضان، وليس المراد قراءة الكلمات بل تدبّرها، وعندما لا تفهم كلمة فاكتبها لكي تسأل عنها، وبذلك نحصل على ثقافة القرآن وبالتالي على ثقافة الإسلام، وقد ورد في موضع آخر من الخطبة: "من تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره"، والقرآن هو نور القلب والعقل - وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، وكل إنسان لديه أقرباء وجيران وأصدقاء فقراء، فعليه أن يتصدّق عليهم، ونتائج الصدّقة كبيرة جداً، ففي الحديث: "داووا مرضاكم بالصدقة"، لأن الله تعالى قد يرحمه بالعافية بفعل هذه الصدقة.

أما النقطة الرابعة التي أثارها رسول الله (ص) فهي "توقير الكبار ورحمة الصغار"، إن علينا أن نحترم الجيل الماضي والكبار منا، لأنهم سبقونا بالإسلام والإيمان بالله، إن علينا أن نحترم سنّهم ونوقرهم حتى إذا أردنا أن ننبههم إلى أيّ خطأ أن ننبههم برفق كما فعل الإمامان الحسنين (ع) مع الشيخ الكبير الذي علّماه الوضوء.. وعلى الكبار أن يدرسوا الظروف النفسية والمستوى الثقافي والروحي عندما يتحدثون مع الصغار، لا أن تكلمه كما لو كان كبيراً، وقد ورد عن النبي (ص): "من كان له صبي فليتصابّ له"، بحيث يتقمّص شخصيته ليتحدث معه بلغته وعلى طريقته.

أما المسألة الخامسة فهي "صلة الأرحام"، قال (ص): "من وصل في هذا الشهر رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه"، وعلى كل إنسان أن يدبّر نفسه. والسادسة فهي التقوى في غض البصر والسمع عما لا يحلّ له: "وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم". السابعة التحنن على الأيتام: "وتحننوا على أيتام الناس يتحنن الله على أيتامكم"، فقد يستأثر الله بك ويكون لك أيتام، وعندما يتحرك الأفراد في جو التحنن على الأيتام يتحوّل ذلك إلى حالة اجتماعية عامة، وسوف تصل إلى أيتامك بعد ذلك، "من أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"، ونحن نحب - بهذه المناسبة - أن نذكّر أن هناك أكثر من جهة تعتني بالأيتام، وهناك مشاريع لرعاية الأيتام في بيوتهم، فينبغي أن لا نجعل هذه المؤسسات تتعب في تحصيل ميزانيتها لرعاية هؤلاء الأيتام، بل أن يفرض كل واحد منا - بقدر ما يستطيع - المشاركة في رعاية الأيتام وكفالتهم ومساعدة دور الأيتام ومشاريع رعاية الأيتام والمعاقين في بيوتهم، بحيث يشعر أن الله تعالى قد رزقه ولداً جديداً، ولن يضيع ذلك عند الله تعالى.

أما المسألة الثامنة فهي التوبة من الذنوب، استحضر في كل يوم ذنوبك وأن تتوب إلى الله منها، وتعاهد الله تعالى أن لا تعود إلى مثلها، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوّابين.. والمسألة التاسعة هي أن تدعو الله تعالى في وقت الصلاة، وفي كل وقت بكل ما أهمّك إما من خلال كتاب للدعاء أو أن تنشئ دعاء بلغتك، لأن الله لا يريد "رسميات" بيننا وبينه، ورسول الله(ص) يقول: "ارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله إلى عباده بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه". ثم يدعونا إلى تحسين الأخلاق، بأن يخفف الإنسان من عصبيّته: "من حسّن منكم خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام"، فحُسن الخلق هو جواز المرور على الصراط، فهل يستحق ذلك التعب أم أنك تريد أن تفجّر غيظك كيفما كان، فتبيع جنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين من أجل كلمة غضب، أي عقل يفعل ذلك؟!

وهناك عدة مسائل أخرى أثارها رسول الله (ص) في خطبته، منها: "التخفيف عما ملكت يمينك"، وفي عصرنا الحاضر ليس هناك ملك يمين، ولكن أن يخفف الإنسان عن زوجته وأولاده وعمّاله وكل من تحت يده، "من خفف فيه عمن ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه". ثم كفّ الشر عن الناس: "من كفّ فيه - وفي غيره - كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة"، والإكثار من الصلاة: "من تطوّع فيه بصلاة كتب الله براءة من النار، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ فيه الموازين"، وجاء في نهاية الخطبة عنه(ع): "إن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر"..

هذا الشهر هو شهر الموسم، فتاجروا الله تجارة تنجيكم من عذاب أليم، فإن تجارة الله رابحة، وعلينا أن ننفتح على الله في كل ما يرضيه ويقرّبنا إليه..

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله وانفتحوا عليه في هذا الشهر المبارك، وانطلقوا من أجل أن تعيشوا الحياة الإسلامية الإيمانية الاجتماعية، لنكون كما أرادنا رسول الله (ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، ولنهتم بأمور المسلمين فتعالوا لنتعرّف ماذا هناك مما يصيب الإسلام والمسلمين.

العدو في مأزق الانتفاضة

تتابع الانتفاضة الفلسطينية حركتها وتضحياتها وجهادها في سبيل الاستقلال، ما جعل العدو في مأزق يدفعه إلى المزيد من المجازر المتنوعة التي يرتكبها الجيش والمستوطنين، هذا في الوقت الذي يدور فيه أكثر من حديث عن مفاوضات بين العدو وسلطة الحكم الذاتي بفعل تأثير أكثر من جهة دولية وعربية، لا سيما أن بعض العرب يهمس وراء الكواليس في أذُن السلطة بأن من الضروري إنقاذ "باراك" في الانتخابات الصهيونية المقبلة، لأن البديل عنه ـ كما يقولون ـ هو "الليكود" الذي لا يعترف بما يسمونه سلاماً..

إننا نحذر الشعب الفلسطيني من ذلك كله، لأن العدو ـ بكل أحزانه ـ يخطط لإبعاد الفلسطينيين عن حرية تقرير المصير، وتحويلهم إلى كيان مقطّع الأوصال، وتضييع كل الدماء الطاهرة التي سالت أنهاراً في الانتفاضة، في قوافل الشهداء والجرحى وتدمير البنية التحتية. كما نكرر دعوتنا للشعوب العربية والإسلامية أن تقف في مواجهة العدو، كما حدث في الأردن لأكثر من مرة، وكما نريد له أن يحدث في غيره، لطرد الدبلوماسيين الإسرائيليين من كل بلد عربي وإسلامي، ليكون الموقف السياسي والجهادي واحداً في ساحة المواجهة، فذلك ـ وحده ـ هو الذي يهدد المشروع الوحشي للعدو المتحالف مع أمريكا ضد العرب والمسلمين، وهو الذي يربك كل حلفاءه الذين يدعمون وجوده في العالمَين العربي والإسلامي، لتستمر الانتفاضة الجهادية في فلسطين والانتفاضة السياسية خارجها..

التفاعل مع دعوات المقاطعة

إننا ـ وسط هذه الأجواء ـ نلمح حركة واعدة في الشارع العربي والإسلامي على مستوى مقاطعة البضائع الأمريكية، حيث تتابعت مع فتوانا بالمقاطعة دعوات وفتاوى أكثر من عالم إسلامي أو هيئة إسلامية، لتجد لها موقعاً في الشارع العربي، حيث انخفضت عائدات بيع البضائع الأمريكية في أكثر من بلد وخاصة في مصر، ما دفع بعض الشركات الأمريكية للإعلان عن دعمها لبعض قطاعات الاستشفاء في فلسطين في محاولة لاستعادة زبائنها، وهذا ما يوحي بأن هناك إمكانات للضغط على الشركات الأمريكية بطريقة وبأخرى، ويؤكد بالتالي أن التفاعل الشعبي مع دعوات ومواقف وفتاوى المقاطعة للبضائع الأمريكية يشكل رداً على كل الأصوات التي كانت تعتقد أن لا أرضية حقيقية لهذه المواقف في واقعنا العربي والإسلامي..

إننا نرى في عملية المقاطعة ـ ولو بشكل جزئي ـ موقفاً إسلامياً من مواقف النهي عن المنكر السياسي والاقتصادي والأمني، في مواجهة الدعم المطلق الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني لإبعاده عن قضاياه المشروعة، تحت ضغط الوحشية الصهيونية، وهذا ما سيدفع الشركات الأمريكية التي سوف تتعرّض مصالحها للخطر إذا نجحت المقاطعة، إلى الضغط على الإدارة الأمريكية للتخفيف ـ على الأقل ـ من دعمها للصهاينة.

وفي هذا الاتجاه، فإننا نرحّب بأية خطوة لتفعيل هذه المقاطعة، كاللجان التي تألّفت مؤخراً في مصر والأردن ولبنان واليمن والمغرب لتفعيل الدعوة لمقاطعة البضائع الأمريكية، وندعو إلى تركيز هذه الخطوات وتعميقها لتشترك فيها كل الشرائح الشعبية والفاعليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليكون ذلك جزءً من برامج التربية السياسية والدينية العاملة على محاصرة السياسة الأمريكية المعادية لقضايانا الحيوية، لأن أمريكا لا تضرها الكلمات، بل المواقف، وهكذا تتحرك السياسة في عالم المستكبرين بلغة المصالح التي تحكم الواقع كلّه..

بالوحدة نفشل مخططات العدو

وفي هذا الجو، نسمع حديثاً متزايداً في الإعلام الأمريكية والإسرائيلي عن خطر الحرب الإقليمية، بالإشارة إلى عمليات المقاومة الإسلامية في "مزارع شبعا"، وهذا ما صرّح به السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني، مستعملاً أسلوب التهديد كما لو كان مسؤولاً إسرائيلياً، حيث قال: "سيكون خطأً كبيراً التقليل من رغبة إسرائيل الدفاع عن مصالحها، وهناك خطر كبير ما لم يتم كبح جماح حزب الله"، على حد قوله..

إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى التفكير في هذه الحرب الإعلامية، لا سيما في هذا الوقت الضائع، فإننا نتصور أن ذلك يمثل جزءاً من الحرب الوقائية للضغط على لبنان وسوريا، وإثارة المسؤولين العرب للضغط على المقاومة في لبنان. لذلك، لا بد من متابعة خطوات الاستعداد لمواجهة العدو والضغط عليه للانسحاب من المناطق المحتلة، كما حدث في الماضي، لأن العدو لا يفهم إلا بلغة المقاومة، وهذا ما أخذه المجاهدون على عاتقهم، بالتنسيق مع الجيش اللبناني والقيادة اللبنانية التي أثبتت أنها في مستوى التحدي أمام هذا الواقع..

إننا في هذا الأجواء الملبّدة على مستوى المنطقة، التي تتحرك فيها الاحتمالات في أكثر من اتجاه، ندعو مرة جديدة إلى لملمة الشتات الداخلي من خلال خطاب سياسي جامع وموحد، في مواجهة الخطر الذي ينطلق من العدو، لأن المرحلة تفرض لقاء الجميع على قاعدة الوحدة، لنكون أكثر استعداداً لمواجهة ما يخطط له العدو، كما أسقطنا بالأمس القريب ما كان يخطط له من خلال وحدة المقاومة والدولة والشعب.

في معنى الاستفادة من فرصة شهر رمضان: تجارة رابحة وميدانٌ للدعاء والتوبة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

التكامل في النفس

يقول الله تعالى: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}، في الخطبة التي استقبل بها رسول الله (ص) شهر رمضان في آخر جمعة من "شعبان" - كما روي عنه - ركّز على عدة جوانب في هذا الشهر، مما أراد للمسلمين أن يحصلوا عليه من مكاسب روحية واجتماعية وأخلاقية، بحيث يشعر كل مؤمن ومؤمنة أنه عندما يدخل هذا الشهر فإنما يدخله من أجل أن يخرج منه وقد حقق كل هذه الأهداف، بحيث يراقب نفسه في كل يوم من أيام هذا الشهر، ويسألها هل أنه كان في اليوم التالي أفضل منه في اليوم الأول ليحقق هذا الهدف أو ذاك ، حتى ينتهي شهر رمضان وقد استطاع أن يحصل على المكاسب التي تنمي شخصيته وتجددها.

فالله تعالى أراد للإنسان أن يتكامل في نفسه بحيث يكون كل يوم أفضل من اليوم الذي قبله، وفي هذا جاء في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "من استوى يوماه فهو مغبون"، كما يفكّر كل واحد منا أن تكون صحته ورصيده المالي ومنزلته الاجتماعية في اليوم الثاني أفضل من اليوم الأول، كذلك أن تكون شخصيته الإسلامية في اليوم والشهر الثاني أفضل من اليوم والشهر الأول، بحيث يدرس الإنسان نموّ شخصيته في عقله وقلبه وأخلاقه وعلاقاته،أن يدرسها دراسة دقيقة في كل يوم ليشعر أنه في طريقه إلى الله تعالى يصعد في كل يوم درجة، حتى يكون قد وصل إلى أعلى درجاته في اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله سبحانه. وقد ورد في الدعاء: "اللهم اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيامي يوم ألقاك فيه"، لا يكفي أن يعتبر الإنسان نفسه مسلماً ليشعر بأنه قد وفّى قسطه للعلى، وأنه انتهى من الجهد والتعب، أو أن يشعر الإنسان عندما ينتمي إلى حزب أو منظمة أو جمعية إسلامية بأنه أصبح يوزّع مواعظ على الناس ولا يستطيع أحد أن يعظه، مع أن هذا الجمود عن التفكّر في أمره ومحاسبة نفسه قد يجعله يتراجع، لأنه أغلق على نفسه باب التغيّر والتطور، وقد يسيء إلى الإسلام من خلال تأكيد صفته في داخل ذاته أكثر مما يحسن إلى الإسلام.

محاسبة النفس ومراقبتها

وهذا ما ركّز الإسلام عليه لكي يبقى الإنسان في حالة حساب لنفسه، بأن يعتبر أنه قد وقف بين يدي الله تعالى للحساب، فيفترض أسئلة لكي يحاسب نفسه، وبذلك يفهم نفسه فيفهم سلبياتها وإيجابياتها، ويفهم نقاط ضعفها وقوتها، لأنني أزعم أننا نفهم الناس من حولنا أكثر مما نفهم أنفسنا، والسبب أننا لا نجلس مع أنفسنا ولا نحدّق بها بل نحدّق بالآخرين، ولذلك من السهل أن يغشّنا الناس في أنفسنا، ولدى الإمام عليّ(ع) كلمة رائعة جداً في هذا المقام - وأوصيكم أن تقرأوا بتمعّن الكلمات القصار في آخر "نهج البلاغة" فهي خلاصة تجاربه (ع) - يقول: "لا يغرنّك سواد الناس عن نفسك - بحيث يصوّرون لك نفسك على غير صورتها - فإن الأمر يصل إليك دونهم".

وهذا ما أؤكده لنفسي ولكم، وهو أننا مجتمع يخرّب قياداته ويضللّها، لأننا لا نملك إلا المدائح لشخصيات قياداتنا، وبذلك تتحوّل هذه القيادات - بفعل المدّاحين - إلى شخصيات لا تقبل النقد ولا تسمح لأحد أن يدلّها على أخطائها، كم من القيادات التي غششناها بأنفسها فتقبّلت الغش وأصبحت تغش أنفسها بفعل ذلك. لذلك، على الإنسان أن يكون ديّاناً لنفسه، بحيث يحاسبها ويوزنها لكي يعرف حجم نفسه.. وقيمة الإنسان هي بمقدار ما يحسن، وبما يملك من خبرة وعلم ووعي، أما المال والعقارات فهي ليست أنت، إنها تكبّر فرص حياتك ولكنها لا تكبّر شخصيتك، لذلك عليك أن تعمل لكي يحترمك الناس لشخصيتك لا لمالك..

شهر التكامل والرحمة

فلنتابع خطبة النبي (ع) لكي نتعرّف على ما أراده منا، فبعد أن بيّن (ص) أننا ضيوف الله تعالى في هذا الشهر، قال: "فاسألوا ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه" - أن نقرأ القرآن في شهر رمضان، وليس المراد قراءة الكلمات بل تدبّرها، وعندما لا تفهم كلمة فاكتبها لكي تسأل عنها، وبذلك نحصل على ثقافة القرآن وبالتالي على ثقافة الإسلام، وقد ورد في موضع آخر من الخطبة: "من تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره"، والقرآن هو نور القلب والعقل - وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، وكل إنسان لديه أقرباء وجيران وأصدقاء فقراء، فعليه أن يتصدّق عليهم، ونتائج الصدّقة كبيرة جداً، ففي الحديث: "داووا مرضاكم بالصدقة"، لأن الله تعالى قد يرحمه بالعافية بفعل هذه الصدقة.

أما النقطة الرابعة التي أثارها رسول الله (ص) فهي "توقير الكبار ورحمة الصغار"، إن علينا أن نحترم الجيل الماضي والكبار منا، لأنهم سبقونا بالإسلام والإيمان بالله، إن علينا أن نحترم سنّهم ونوقرهم حتى إذا أردنا أن ننبههم إلى أيّ خطأ أن ننبههم برفق كما فعل الإمامان الحسنين (ع) مع الشيخ الكبير الذي علّماه الوضوء.. وعلى الكبار أن يدرسوا الظروف النفسية والمستوى الثقافي والروحي عندما يتحدثون مع الصغار، لا أن تكلمه كما لو كان كبيراً، وقد ورد عن النبي (ص): "من كان له صبي فليتصابّ له"، بحيث يتقمّص شخصيته ليتحدث معه بلغته وعلى طريقته.

أما المسألة الخامسة فهي "صلة الأرحام"، قال (ص): "من وصل في هذا الشهر رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه"، وعلى كل إنسان أن يدبّر نفسه. والسادسة فهي التقوى في غض البصر والسمع عما لا يحلّ له: "وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم". السابعة التحنن على الأيتام: "وتحننوا على أيتام الناس يتحنن الله على أيتامكم"، فقد يستأثر الله بك ويكون لك أيتام، وعندما يتحرك الأفراد في جو التحنن على الأيتام يتحوّل ذلك إلى حالة اجتماعية عامة، وسوف تصل إلى أيتامك بعد ذلك، "من أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"، ونحن نحب - بهذه المناسبة - أن نذكّر أن هناك أكثر من جهة تعتني بالأيتام، وهناك مشاريع لرعاية الأيتام في بيوتهم، فينبغي أن لا نجعل هذه المؤسسات تتعب في تحصيل ميزانيتها لرعاية هؤلاء الأيتام، بل أن يفرض كل واحد منا - بقدر ما يستطيع - المشاركة في رعاية الأيتام وكفالتهم ومساعدة دور الأيتام ومشاريع رعاية الأيتام والمعاقين في بيوتهم، بحيث يشعر أن الله تعالى قد رزقه ولداً جديداً، ولن يضيع ذلك عند الله تعالى.

أما المسألة الثامنة فهي التوبة من الذنوب، استحضر في كل يوم ذنوبك وأن تتوب إلى الله منها، وتعاهد الله تعالى أن لا تعود إلى مثلها، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوّابين.. والمسألة التاسعة هي أن تدعو الله تعالى في وقت الصلاة، وفي كل وقت بكل ما أهمّك إما من خلال كتاب للدعاء أو أن تنشئ دعاء بلغتك، لأن الله لا يريد "رسميات" بيننا وبينه، ورسول الله(ص) يقول: "ارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله إلى عباده بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه". ثم يدعونا إلى تحسين الأخلاق، بأن يخفف الإنسان من عصبيّته: "من حسّن منكم خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام"، فحُسن الخلق هو جواز المرور على الصراط، فهل يستحق ذلك التعب أم أنك تريد أن تفجّر غيظك كيفما كان، فتبيع جنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين من أجل كلمة غضب، أي عقل يفعل ذلك؟!

وهناك عدة مسائل أخرى أثارها رسول الله (ص) في خطبته، منها: "التخفيف عما ملكت يمينك"، وفي عصرنا الحاضر ليس هناك ملك يمين، ولكن أن يخفف الإنسان عن زوجته وأولاده وعمّاله وكل من تحت يده، "من خفف فيه عمن ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه". ثم كفّ الشر عن الناس: "من كفّ فيه - وفي غيره - كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة"، والإكثار من الصلاة: "من تطوّع فيه بصلاة كتب الله براءة من النار، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ فيه الموازين"، وجاء في نهاية الخطبة عنه(ع): "إن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر"..

هذا الشهر هو شهر الموسم، فتاجروا الله تجارة تنجيكم من عذاب أليم، فإن تجارة الله رابحة، وعلينا أن ننفتح على الله في كل ما يرضيه ويقرّبنا إليه..

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله وانفتحوا عليه في هذا الشهر المبارك، وانطلقوا من أجل أن تعيشوا الحياة الإسلامية الإيمانية الاجتماعية، لنكون كما أرادنا رسول الله (ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، ولنهتم بأمور المسلمين فتعالوا لنتعرّف ماذا هناك مما يصيب الإسلام والمسلمين.

العدو في مأزق الانتفاضة

تتابع الانتفاضة الفلسطينية حركتها وتضحياتها وجهادها في سبيل الاستقلال، ما جعل العدو في مأزق يدفعه إلى المزيد من المجازر المتنوعة التي يرتكبها الجيش والمستوطنين، هذا في الوقت الذي يدور فيه أكثر من حديث عن مفاوضات بين العدو وسلطة الحكم الذاتي بفعل تأثير أكثر من جهة دولية وعربية، لا سيما أن بعض العرب يهمس وراء الكواليس في أذُن السلطة بأن من الضروري إنقاذ "باراك" في الانتخابات الصهيونية المقبلة، لأن البديل عنه ـ كما يقولون ـ هو "الليكود" الذي لا يعترف بما يسمونه سلاماً..

إننا نحذر الشعب الفلسطيني من ذلك كله، لأن العدو ـ بكل أحزانه ـ يخطط لإبعاد الفلسطينيين عن حرية تقرير المصير، وتحويلهم إلى كيان مقطّع الأوصال، وتضييع كل الدماء الطاهرة التي سالت أنهاراً في الانتفاضة، في قوافل الشهداء والجرحى وتدمير البنية التحتية. كما نكرر دعوتنا للشعوب العربية والإسلامية أن تقف في مواجهة العدو، كما حدث في الأردن لأكثر من مرة، وكما نريد له أن يحدث في غيره، لطرد الدبلوماسيين الإسرائيليين من كل بلد عربي وإسلامي، ليكون الموقف السياسي والجهادي واحداً في ساحة المواجهة، فذلك ـ وحده ـ هو الذي يهدد المشروع الوحشي للعدو المتحالف مع أمريكا ضد العرب والمسلمين، وهو الذي يربك كل حلفاءه الذين يدعمون وجوده في العالمَين العربي والإسلامي، لتستمر الانتفاضة الجهادية في فلسطين والانتفاضة السياسية خارجها..

التفاعل مع دعوات المقاطعة

إننا ـ وسط هذه الأجواء ـ نلمح حركة واعدة في الشارع العربي والإسلامي على مستوى مقاطعة البضائع الأمريكية، حيث تتابعت مع فتوانا بالمقاطعة دعوات وفتاوى أكثر من عالم إسلامي أو هيئة إسلامية، لتجد لها موقعاً في الشارع العربي، حيث انخفضت عائدات بيع البضائع الأمريكية في أكثر من بلد وخاصة في مصر، ما دفع بعض الشركات الأمريكية للإعلان عن دعمها لبعض قطاعات الاستشفاء في فلسطين في محاولة لاستعادة زبائنها، وهذا ما يوحي بأن هناك إمكانات للضغط على الشركات الأمريكية بطريقة وبأخرى، ويؤكد بالتالي أن التفاعل الشعبي مع دعوات ومواقف وفتاوى المقاطعة للبضائع الأمريكية يشكل رداً على كل الأصوات التي كانت تعتقد أن لا أرضية حقيقية لهذه المواقف في واقعنا العربي والإسلامي..

إننا نرى في عملية المقاطعة ـ ولو بشكل جزئي ـ موقفاً إسلامياً من مواقف النهي عن المنكر السياسي والاقتصادي والأمني، في مواجهة الدعم المطلق الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني لإبعاده عن قضاياه المشروعة، تحت ضغط الوحشية الصهيونية، وهذا ما سيدفع الشركات الأمريكية التي سوف تتعرّض مصالحها للخطر إذا نجحت المقاطعة، إلى الضغط على الإدارة الأمريكية للتخفيف ـ على الأقل ـ من دعمها للصهاينة.

وفي هذا الاتجاه، فإننا نرحّب بأية خطوة لتفعيل هذه المقاطعة، كاللجان التي تألّفت مؤخراً في مصر والأردن ولبنان واليمن والمغرب لتفعيل الدعوة لمقاطعة البضائع الأمريكية، وندعو إلى تركيز هذه الخطوات وتعميقها لتشترك فيها كل الشرائح الشعبية والفاعليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليكون ذلك جزءً من برامج التربية السياسية والدينية العاملة على محاصرة السياسة الأمريكية المعادية لقضايانا الحيوية، لأن أمريكا لا تضرها الكلمات، بل المواقف، وهكذا تتحرك السياسة في عالم المستكبرين بلغة المصالح التي تحكم الواقع كلّه..

بالوحدة نفشل مخططات العدو

وفي هذا الجو، نسمع حديثاً متزايداً في الإعلام الأمريكية والإسرائيلي عن خطر الحرب الإقليمية، بالإشارة إلى عمليات المقاومة الإسلامية في "مزارع شبعا"، وهذا ما صرّح به السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني، مستعملاً أسلوب التهديد كما لو كان مسؤولاً إسرائيلياً، حيث قال: "سيكون خطأً كبيراً التقليل من رغبة إسرائيل الدفاع عن مصالحها، وهناك خطر كبير ما لم يتم كبح جماح حزب الله"، على حد قوله..

إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى التفكير في هذه الحرب الإعلامية، لا سيما في هذا الوقت الضائع، فإننا نتصور أن ذلك يمثل جزءاً من الحرب الوقائية للضغط على لبنان وسوريا، وإثارة المسؤولين العرب للضغط على المقاومة في لبنان. لذلك، لا بد من متابعة خطوات الاستعداد لمواجهة العدو والضغط عليه للانسحاب من المناطق المحتلة، كما حدث في الماضي، لأن العدو لا يفهم إلا بلغة المقاومة، وهذا ما أخذه المجاهدون على عاتقهم، بالتنسيق مع الجيش اللبناني والقيادة اللبنانية التي أثبتت أنها في مستوى التحدي أمام هذا الواقع..

إننا في هذا الأجواء الملبّدة على مستوى المنطقة، التي تتحرك فيها الاحتمالات في أكثر من اتجاه، ندعو مرة جديدة إلى لملمة الشتات الداخلي من خلال خطاب سياسي جامع وموحد، في مواجهة الخطر الذي ينطلق من العدو، لأن المرحلة تفرض لقاء الجميع على قاعدة الوحدة، لنكون أكثر استعداداً لمواجهة ما يخطط له العدو، كما أسقطنا بالأمس القريب ما كان يخطط له من خلال وحدة المقاومة والدولة والشعب.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير