لبناء أمَّةٍ معطاءة ومتحابة لنعتصم بحبل الله وندعُ إلى الخير...

لبناء أمَّةٍ معطاءة ومتحابة لنعتصم بحبل الله وندعُ إلى الخير...

لبناء أمَّةٍ معطاءة ومتحابة
لنعتصم بحبل الله وندعُ إلى الخير...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

تقوى الله:

يقول الله تعالى في ندائه للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102). إنَّ الله تعالى يريد أن يثير الإحساس بالإيمان في كلِّ امتداداته في الحياة، وفي العمق النفسي للإنسان، فالإنسان المؤمن هو الذي يرتبط بالله ارتباطاً حقيقياً، لأنَّ الله هو الذي خلقه ورعى حياته وأعطاه من نعمه ما جعل حياته تنمو وتستمر. وهكذا يعيش المؤمن الانفتاح على ربّه، بحيث يفكر في الله سبحانه من خلال معرفته به، ويبتهل إليه في كل حاجاته، ويخشع بين يديه في إظهاره لعبوديته له، ويخضع له في كل أوامره ونواهيه، ويعرف أن البداية منه وأن المرجع والمصير إليه.

لذلك، فإنَّ الله تعالى يخاطب المؤمنين بأن إيمانكم يفرض عليكم أن تتقوا الله حق تقاته؛ أن تخافوه وتراقبوه وتحسبوا حسابه في أفكاركم وأحاسيسكم ومشاعركم ومواقفكم وأقوالكم وأفعالكم وعلاقاتكم، وأن تخافوا مواقعكم بين يديه، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(المطففين/6). {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، أن يطاع فلا يُعصى، وأن يوحَّد فلا يُشرك به شيء، وأن تلتزموا أوامره ونواهيه، ليبقى إسلامكم لله المنطلق من عمق إيمانكم، ومن امتداد طاعتكم، حتى تلاقوا الله مسلمين، لأنَّ الإنسان قد يبدأ مؤمناً، ولكن قد تعترضه بعض الشبهات والغوايات، وربما يواجه الكثير من الصدمات التي تبعده عن إيمانه، فينتهي كافراً. ولذلك، قال يوسف (ع) في دعائه لربِّه عندما التقى بأبيه وأمه وإخوانه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101(.

الاعتصام بحبل الله:

وتنطلق هذه الآيات في فصل جديد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ـ لا بد للإنسان في الحياة من شيء يتمسَّك به عندما يضعف أمام الاهتزازات التي تسقط موقفه وموقعه، وقد دعا الله المؤمنين في خطابه أن يعتصموا بحبله، وحبل الله هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله نوراً وهدى يُخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وهو الإسلام الذي أضاء القرآن شريعته وعقيدته وامتداده في حياة الإنسان. اعتصموا بحبل الله جميعاً كأمَّة، ليكن الإسلام هو الذي يجمعكم، وليكن القرآن هو الذي يؤدِّي بكم إلى الوعي، فتمسّكوا به وتوحّدوا به ـ وَلا تَفَرَّقُوا ـ لا تتفرَّقوا وتكونوا شيعاً وأحزاباً، مذاهب هنا وهناك، يضلِّل بعضها بعضاً، ويكفّر بعضها بعضاً، كونوا أمة واحدة ومذهباً واحداً وخطاً واحداً، تمسكوا بهذا الحبل عندما يريد الآخرون أن يهزوكم ويضيعوكم في المتاهات.

ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ـ لأن النعمة ليست فقط ما يتصل بالجانب المادي للإنسان، بل إنّها ترتفع لتتصل بالجانب المعنوي والاجتماعي والوحدوي له ـ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ـ فقد كان أهل المدينة منقسمين إلى عشيرتي الأوس والخزرج، وكانت الحروب بينهما تمتدُّ إلى عشرات السنين، وجاء الإسلام وآخاهم ووحّدهم ـ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ وهذه الفقرة توحي بمعنى عظيم، وهو أن الإسلام لا يجمع بين الأجساد فقط، لينضمَّ جسد إلى جسد، ولكنه يجمع بين القلوب، فينفتح قلب المؤمن على قلب المؤمن الآخر، لتتصافح القلوب المؤمنة قبل أن تتصافح الأيدي، ولتنفتح القلوب المؤمنة بالمحبة لله ولرسوله وللمؤمنين على بعضها البعض ـ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ـ وقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، وعقد الأخوّة بين كل شخصين، بعد أن أعطى الأخوّة معناها العام في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات/10) ـ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ـ كنتم على وشك الوقوع في النار ـ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ـ بالأخوّة الإسلامية ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران/103).

ويقال إنَّ هذه الآية نزلت عندما جاء شخص من اليهود، وراعه أن يرى المسلمين الذين كان اليهود يستغلون قتالهم بعضهم لبعض قبل الإسلام، ليحصلوا منهم على ما يريدون، راعه أن يصبحوا إخواناً، فأشار إليه بعض كبارهم أن أدخل بين الأوس والخزرج، وحاول أن تثير عصبياتهم من جديد ليعودوا متقاتلين متفرّقين. وجلس هذا اليهودي بينهم، وبدأ يذكّرهم بحروبهم، ويقرأ عليهم أشعارهم في الحروب الّتي كانت بينهم، فثارت الحماسة لدى بعض الأوس ولدى بعض الخزرج، وثارت الحميّة حتى تنادوا: «السلاح السلاح»، بفعل هذه الخطّة اليهودية، فذهب بعض المسلمين إلى رسول الله (ص) وقال: «يا رسول الله، أدرك المسلمين»، وجاء (ص) إليهم وقال: «أكفراً بعد إيمان»، فخشعوا له وأخذهم الحياء، وعادوا إلى أخوَّتهم الإيمانية من جديد، ونزلت هذه الآية، لتؤكد للمسلمين وحدتهم.

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه؛ أن نؤكد أخوَّتنا الإيمانية الإسلامية ووحدتنا، من خلال القلوب المتآلفة، والعقول المنفتحة، والتقوى المستقيمة، فقد يأتي إلينا أعداء الله من اليهود تارةً، ومن المستكبرين أخرى، ومن الكافرين ثالثة، حتى يصنعوا الفتنة بين المسلمين، كما نعيشها الآن عندما يكفّر مذهب مذهباً، وعندما يضلل اجتهاد اجتهاداً، وعندما يتدخّل الشيطان في واقع المسلمين ليستحلَّ بعضهم دماء بعض. هذا هو الخط الإسلامي الذي لا بدَّ من أن يأخذ به المسلمون في العالم الإسلامي كله، حتى يستطيعوا أن يواجهوا كل التحديات الكافرة أو المستكبرة، سواء كانت يهودية صهيونية، أو أمريكية استكبارية.

الدعوة إلى إصلاح الواقع:

ثم يدعو الله تعالى المسلمين إلى أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم في إصلاح الواقع الإسلامي والدعوة إلى الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ـ الخير في العقيدة والشريعة وفي حركة الحياة، على مستوى المواقف والعلاقات والأفعال والأقوال ـ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ـ والمعروف هو كلُّ ما أراد الله للإنسان أن يعمله ليرتفع مستواه بذلك ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ـ والمنكر هو كلُّ ما لا يرضاه الله مما يُنزل مستوى الإنسان ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ لأنَّهم يستجيبون لله في ما يريده منهم ـ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ـ بعدما أقام الله عليهم الحجّة بالبيّنات التي تؤكِّد التزامهم بالإسلام الواحد ـ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ـ متى هذا العذاب؟ ـ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ـ تبيضُّ الوجوه التي عاشت الإيمان والتقوى، وتسودّ وجوه الذين عاشوا الكفر والانحراف ـ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ـ لأن الله يشملهم برحمته بعدما شملوه بتوحيده وعبادته وطاعته ـ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ـ لتبلّغها للناس ـ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ}(آل عمران/104-108).

هذا هو الخط المستقيم الذي يريدنا الله تعالى من خلال آياته، ومن خلال رسله، أن نسير عليه، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

 

عباد الله... اتقوا الله في ما حمّلكم من مسؤولية الاعتصام بحبله، والأخذ بأسباب الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، وواجهوا العدو من موقع واحد كالبنيان المرصوص، لأن أعداء الله يعملون على إسقاط الإسلام وتشويه صورته في العالم. فتعالوا لنعرف ماذا هناك في واقعنا الإسلامي، لنعرف كيف نواجه ذلك.

مصادرة حقوق الشَّعب الفلسطيني:

ماذا في المشهد الفلسطيني، في مواقف قادة العدو الإسرائيلي من حقوق الشعب الفلسطيني؟ فوزير الحرب يعلن أنه لن يتمَّ تسليم الفلسطينيين السيطرة الأمنية على مزيد من مدن الضفة، ما يوحي ببقاء الاحتلال في هذه المواقع. أما شارون، فيعلن صراحةً أمام مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، أنَّ مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية القادمة "ستكون مستحيلة"، بفعل حملة الاعتقالات المنظّمة المتتابعة التي تقوم بها إسرائيل ضد كوادر الحركة ومنتسبيها، من دون أيّ اعتراض من المسؤول الأمريكي الذي يتابع اعتراضه على ما يزعمه من تدخّل سوري في العراق ولبنان وفلسطين ضد ما يسمّيه السلام والديمقراطية، ولكنه لا يتحدث عن تدخّل شارون في منع الفلسطينيين من ممارسة ديمقراطيتهم، لأنه يرى الحق لـه في ذلك، باعتبار أن مجاهدي حماس عنده ينتمون إلى منظمة إرهابية، ولا يريد لهم الدخول في النظام المدني، والانفتاح على الخطوط السياسية في المجتمع الفلسطيني، في وقت يستمر الحليفان الأمريكي والإسرائيلي في ترداد المقولة التي تشترط للمفاوضات إسقاط البنية التحتية للانتفاضة التي يطالب السلطة القيام بها، لإيصال الموقف الفلسطيني إلى حرب أهلية تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، فلا يبقى من فلسطين إلا ما تصادره إسرائيل لحساب استراتيجيتها في إبقاء سيطرتها السياسية والاقتصادية والأمنية على الأرض كلها والإنسان كله.

ونلاحظ في الحديث عن لقاء عبَّاس وشارون، أن الأخير يرفض هذا اللقاء، على الرغم من الإعلان عنه، لأنّه ليس لديه ما يقدّمه لعباس من المطالب الحيوية للشعب الفلسطيني، الذي يريد لـه شارون أن يعلن الاستسلام المطلق لإسرائيل في شروطها العامة.

أما اللجنة الرباعية الدولية، فهي لا تحرّك ساكناً، لأنها لا تملك من الأمر شيئاً، بفعل السيطرة الإسرائيلية ـ الأمريكية المطلقة على حركتها السلحفاتية ومواعيدها العرقوبية، باعتبارها تمثّل الخطة التي تستفيد من عنصر الزمن الطويل الذي يمنح العدو أكثر من فرصة لتثبيت أوضاعه الاستيطانية والاحتلالية.

ديمقراطية المصالح الأمريكية:

والسؤال للمجتمع الدولي الذي تتحدَّث باسمه أمريكا: لماذا يتحمّس لدعوة العراقيين إلى الاستفتاء على الدستور ليحق لهم الإدلاء بأصواتهم، ولا يتحمّس لإفساح المجال للشعب الفلسطيني ليمارس دوره في تقرير مصيره في الانتخابات القادمة بكل أطيافه، بل يمنعه من التصويت للفصائل المجاهدة التي تؤمن بالتحرير واستقلال البلد والإنسان؟

إنها الديمقراطية الأمريكية التي تنسجم مع مصالحها في العراق، ولكنّها تحرق الواقع السياسي الذي ينفتح على مصالح الشعب الفلسطيني، الذي تمنعه من اختيار ممثليه الأحرار تحت عنوان مكافحة الإرهاب. إنهم يريدون أن يقتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً، لترتاح إسرائيل التي تلتزم أمريكا أمنها المطلق ضد أمن الشعوب كلها، وهذا هو العنوان الكبير لسياسة الإدارة الأمريكية في واقع المنطقة كلها، وهذا هو السرّ في كراهية الشعوب لأمريكا في إدارتها الحالية.

إننا نقول للفلسطينيين: إن المرحلة الحاضرة تنذر بخطر كبير في مصادرة الأهداف الوطنية التي تلتزمونها، لأن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي لا يزال يضغط على الواقع السياسي عندكم، ولن تجدوا في زيارة رئيس السلطة لأمريكا أيّ تغيير في السياسة الأمريكية المؤيِّدة للاستراتيجية الإسرائيلية، وسوف تواجهون الضغوط الجديدة عليكم، من خلال الشروط التعجيزية التي تعتبر أن المشكلة الفلسطينية مشكلة أمنية وترتبط بخياراتكم في تحقيق الأمن الإسرائيلي، وليست مشكلة سياسية. ولذلك، فإن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لن تسمح بأيِّ مفاوضات سياسية حول حقوقكم الوطنية ما لم تدمّروا أوضاعكم الأمنية في الفتنة الداخلية، وهو ما لن تحصلوا منه على وطن حرّ مستقل.

صمتٌ فتوائي إزاء التكفيريين:

أما العراق، فإنَّه ينتظر الاستفتاء على ورقة الدستور التي تثير الكثير من الجدل على المستوى السياسي الذي يأخذ أكثر من بُعدٍ طائفي مذهبي، وبرعاية السفير الأمريكي الذي يتدخّل بشكل سافر وضاغط في تغيير مادة هنا أو مادة هناك، وسط أجواء متوترة وتهديدات تفجيرية بالمجازر المتحركة المتنقّلة التي تفجّر المدنيين في أسواقهم ومساجدهم وشوارعهم، بذهنية مذهبية حاقدة لا تعرف الرحمة، وتجد في قتل المسلمين الذين تتهمهم بالارتداد والكفر الهدف الكبير، بدلاً من مواجهة المحتلين الأمريكيين.

إننا نتابع المأساة العراقية التي تتمثل في واقع الشعب العراقي المنكوب، الذي تركه الجميع في المواقع الإقليمية والدولية في معاناته الواقعية اليومية، من دون أن يمدوا لـه يد العون، حتى إنَّ الوفد العربي للجامعة العربيَّة لم يقدّم لـه أطروحة واقعية مدروسة في حلّ مشاكله الصعبة، ولا سيما مشكلة الاحتلال من جهة، والتكفيريين الإلغائيين من جهة أخرى. ومن اللافت أنَّ المواقع الشرعية الفتوائية في البلاد الإسلامية، كما في مصر والسعودية وغيرهما، لا تزال صامتةً من دون أن تبادر إلى إصدار الفتوى الشرعية ضدَّ هؤلاء الذين يكفّرون المسلمين من مذهب معيّن ويستحلّون دماءهم، بل يكتفون بالكلمات الاحتجاجية التي لا تملك الصراحة الشرعية، الأمر الذي قد يمتدُّ إلى أكثر من موقع إسلامي ينفتح على هذه الذهنية، ويتبنى الخطَّ التكفيري الذي سوف يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

إننا نهيب بعلماء الإسلام في العالم، أن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية الإسلامية، لإنقاذ العراق والواقع الإسلامي كلِّه من هذا الاتجاه التكفيري الجاهل الذي لن يقتصر على الموقف من الشيعة، بل سيمتدّ إلى المسلمين جميعاً. إننا لا نطالب بإصدار الفتوى الشرعية لمصلحة مذهب معيّن، بل لمصلحة الإسلام كله، ضد الذين يكفّرون المسلمين ويعتبرون القتل هي الطريقة التي يعارضون بها الرأي الآخر، لأنهم لا يملكون المعرفة في الفرق بين الإيمان والكفر، أو في حدود الله.

ونريد للعراقيين أن يأخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية ووحدة البلد، ورفض أي حالة تقسيمية أو طائفية أو عنصرية، فإن ذلك هو سبيل الخلاص للشعب كله.

بوش يفشل في إدارة حروبه الاحتلالية:

ومن جانب آخر، فإننا نتابع المسؤولين الأمريكيين من خلال الرئيس الأمريكي الذي يعاني من انحسار شعبيته لدى الرأي العام الأمريكي، ولدى أكثر من بلد في العالم، بفعل فشله في إدارة حربه الاحتلالية في أفغانستان والعراق وفلسطين، ومن خلال الموفدين الأمريكيين الذين يعملون على التدخّل في شؤون المنطقة، ولا سيما لبنان، باسم المساعدة الغامضة، ويطلقون التصريحات والمواقف التي تهاجم دول الممانعة وتستهدف شعوب المنطقة في الصميم، تحت عنوان رفض التدخّل السوري في لبنان والمنطقة، مهدِّدةً إيَّاها بالعزلة السياسية، إضافةً إلى مهاجمة إيران في سياستها في المنطقة وفي مشروعها النووي السلمي، في الوقت الذي نرى أنّ الرئيس الأمريكي وإدارته يتدخّلون في كلِّ شؤون المنطقة على جميع المستويات، من أجل تنفيذ استراتيجيتهم في اجتياح شعوبها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ويطالبون الدول فيها أن تستجيب للأوامر الموجَّهة إليها لتنفيذ مخططاتها الاستراتيجية.

لبنان في دوَّامة التقرير:

أمَّا لبنان، فلا يزال يعيشُ في دوّامة التقرير الذي اجتاح كلَّ قضايا الشعب، وجمّد كل أوضاعه، في نطاق السجال السياسي والإعلامي الذي يحرّك الجدل في خطوط العصبيات والمواجهات على مستوى التحليل والتأويل، بحيث أصبح الشعب ينتظر التقرير ليحلّ مشاكله من خلاله، وليتحرك من تمديد إلى تمديد، ليبقى الشغل المتحرّك بالمخاوف والتمنيات والاتهامات، من خلال ملفٍّ يتّهمه البعض بأنه فارغ، بينما يؤكِّد البعض الآخر أنه مملوء.

إن مشكلة هذا البلد، أنَّ المسؤولين فيه لا يتحمّلون مواجهة المشاكل مجتمعة، بل تشغلهم قضيَّةٌ صغيرةٌ عن التحرك في القضايا الأخرى، وبذلك يبقى البلد في المتاهات، ليستقبل وفداً أمريكياً من هنا، ووفداً دولياً من هناك من دون جدوى، لأن الصفر ينتظر الإنتاج اللبناني في كارثة الاقتصاد.

وأخيراً، إننا نتعاطف مع المنكوبين بالزلازل في الهند وباكستان، وندعو الناس إلى مدَّ يد العون إليهم، انسجاماً مع الرحمة الإسلامية الإنسانية، وندعو الله أن يرحم الضحايا برحمته، ويعافي الجرحى والمرضى بعافيته، إنه أرحم الراحمين.

لبناء أمَّةٍ معطاءة ومتحابة
لنعتصم بحبل الله وندعُ إلى الخير...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

تقوى الله:

يقول الله تعالى في ندائه للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102). إنَّ الله تعالى يريد أن يثير الإحساس بالإيمان في كلِّ امتداداته في الحياة، وفي العمق النفسي للإنسان، فالإنسان المؤمن هو الذي يرتبط بالله ارتباطاً حقيقياً، لأنَّ الله هو الذي خلقه ورعى حياته وأعطاه من نعمه ما جعل حياته تنمو وتستمر. وهكذا يعيش المؤمن الانفتاح على ربّه، بحيث يفكر في الله سبحانه من خلال معرفته به، ويبتهل إليه في كل حاجاته، ويخشع بين يديه في إظهاره لعبوديته له، ويخضع له في كل أوامره ونواهيه، ويعرف أن البداية منه وأن المرجع والمصير إليه.

لذلك، فإنَّ الله تعالى يخاطب المؤمنين بأن إيمانكم يفرض عليكم أن تتقوا الله حق تقاته؛ أن تخافوه وتراقبوه وتحسبوا حسابه في أفكاركم وأحاسيسكم ومشاعركم ومواقفكم وأقوالكم وأفعالكم وعلاقاتكم، وأن تخافوا مواقعكم بين يديه، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(المطففين/6). {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، أن يطاع فلا يُعصى، وأن يوحَّد فلا يُشرك به شيء، وأن تلتزموا أوامره ونواهيه، ليبقى إسلامكم لله المنطلق من عمق إيمانكم، ومن امتداد طاعتكم، حتى تلاقوا الله مسلمين، لأنَّ الإنسان قد يبدأ مؤمناً، ولكن قد تعترضه بعض الشبهات والغوايات، وربما يواجه الكثير من الصدمات التي تبعده عن إيمانه، فينتهي كافراً. ولذلك، قال يوسف (ع) في دعائه لربِّه عندما التقى بأبيه وأمه وإخوانه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101(.

الاعتصام بحبل الله:

وتنطلق هذه الآيات في فصل جديد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ـ لا بد للإنسان في الحياة من شيء يتمسَّك به عندما يضعف أمام الاهتزازات التي تسقط موقفه وموقعه، وقد دعا الله المؤمنين في خطابه أن يعتصموا بحبله، وحبل الله هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله نوراً وهدى يُخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وهو الإسلام الذي أضاء القرآن شريعته وعقيدته وامتداده في حياة الإنسان. اعتصموا بحبل الله جميعاً كأمَّة، ليكن الإسلام هو الذي يجمعكم، وليكن القرآن هو الذي يؤدِّي بكم إلى الوعي، فتمسّكوا به وتوحّدوا به ـ وَلا تَفَرَّقُوا ـ لا تتفرَّقوا وتكونوا شيعاً وأحزاباً، مذاهب هنا وهناك، يضلِّل بعضها بعضاً، ويكفّر بعضها بعضاً، كونوا أمة واحدة ومذهباً واحداً وخطاً واحداً، تمسكوا بهذا الحبل عندما يريد الآخرون أن يهزوكم ويضيعوكم في المتاهات.

ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ـ لأن النعمة ليست فقط ما يتصل بالجانب المادي للإنسان، بل إنّها ترتفع لتتصل بالجانب المعنوي والاجتماعي والوحدوي له ـ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ـ فقد كان أهل المدينة منقسمين إلى عشيرتي الأوس والخزرج، وكانت الحروب بينهما تمتدُّ إلى عشرات السنين، وجاء الإسلام وآخاهم ووحّدهم ـ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ وهذه الفقرة توحي بمعنى عظيم، وهو أن الإسلام لا يجمع بين الأجساد فقط، لينضمَّ جسد إلى جسد، ولكنه يجمع بين القلوب، فينفتح قلب المؤمن على قلب المؤمن الآخر، لتتصافح القلوب المؤمنة قبل أن تتصافح الأيدي، ولتنفتح القلوب المؤمنة بالمحبة لله ولرسوله وللمؤمنين على بعضها البعض ـ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ـ وقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، وعقد الأخوّة بين كل شخصين، بعد أن أعطى الأخوّة معناها العام في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات/10) ـ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ـ كنتم على وشك الوقوع في النار ـ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ـ بالأخوّة الإسلامية ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران/103).

ويقال إنَّ هذه الآية نزلت عندما جاء شخص من اليهود، وراعه أن يرى المسلمين الذين كان اليهود يستغلون قتالهم بعضهم لبعض قبل الإسلام، ليحصلوا منهم على ما يريدون، راعه أن يصبحوا إخواناً، فأشار إليه بعض كبارهم أن أدخل بين الأوس والخزرج، وحاول أن تثير عصبياتهم من جديد ليعودوا متقاتلين متفرّقين. وجلس هذا اليهودي بينهم، وبدأ يذكّرهم بحروبهم، ويقرأ عليهم أشعارهم في الحروب الّتي كانت بينهم، فثارت الحماسة لدى بعض الأوس ولدى بعض الخزرج، وثارت الحميّة حتى تنادوا: «السلاح السلاح»، بفعل هذه الخطّة اليهودية، فذهب بعض المسلمين إلى رسول الله (ص) وقال: «يا رسول الله، أدرك المسلمين»، وجاء (ص) إليهم وقال: «أكفراً بعد إيمان»، فخشعوا له وأخذهم الحياء، وعادوا إلى أخوَّتهم الإيمانية من جديد، ونزلت هذه الآية، لتؤكد للمسلمين وحدتهم.

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه؛ أن نؤكد أخوَّتنا الإيمانية الإسلامية ووحدتنا، من خلال القلوب المتآلفة، والعقول المنفتحة، والتقوى المستقيمة، فقد يأتي إلينا أعداء الله من اليهود تارةً، ومن المستكبرين أخرى، ومن الكافرين ثالثة، حتى يصنعوا الفتنة بين المسلمين، كما نعيشها الآن عندما يكفّر مذهب مذهباً، وعندما يضلل اجتهاد اجتهاداً، وعندما يتدخّل الشيطان في واقع المسلمين ليستحلَّ بعضهم دماء بعض. هذا هو الخط الإسلامي الذي لا بدَّ من أن يأخذ به المسلمون في العالم الإسلامي كله، حتى يستطيعوا أن يواجهوا كل التحديات الكافرة أو المستكبرة، سواء كانت يهودية صهيونية، أو أمريكية استكبارية.

الدعوة إلى إصلاح الواقع:

ثم يدعو الله تعالى المسلمين إلى أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم في إصلاح الواقع الإسلامي والدعوة إلى الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ـ الخير في العقيدة والشريعة وفي حركة الحياة، على مستوى المواقف والعلاقات والأفعال والأقوال ـ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ـ والمعروف هو كلُّ ما أراد الله للإنسان أن يعمله ليرتفع مستواه بذلك ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ـ والمنكر هو كلُّ ما لا يرضاه الله مما يُنزل مستوى الإنسان ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ لأنَّهم يستجيبون لله في ما يريده منهم ـ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ـ بعدما أقام الله عليهم الحجّة بالبيّنات التي تؤكِّد التزامهم بالإسلام الواحد ـ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ـ متى هذا العذاب؟ ـ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ـ تبيضُّ الوجوه التي عاشت الإيمان والتقوى، وتسودّ وجوه الذين عاشوا الكفر والانحراف ـ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ـ لأن الله يشملهم برحمته بعدما شملوه بتوحيده وعبادته وطاعته ـ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ـ لتبلّغها للناس ـ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ}(آل عمران/104-108).

هذا هو الخط المستقيم الذي يريدنا الله تعالى من خلال آياته، ومن خلال رسله، أن نسير عليه، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

 

عباد الله... اتقوا الله في ما حمّلكم من مسؤولية الاعتصام بحبله، والأخذ بأسباب الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، وواجهوا العدو من موقع واحد كالبنيان المرصوص، لأن أعداء الله يعملون على إسقاط الإسلام وتشويه صورته في العالم. فتعالوا لنعرف ماذا هناك في واقعنا الإسلامي، لنعرف كيف نواجه ذلك.

مصادرة حقوق الشَّعب الفلسطيني:

ماذا في المشهد الفلسطيني، في مواقف قادة العدو الإسرائيلي من حقوق الشعب الفلسطيني؟ فوزير الحرب يعلن أنه لن يتمَّ تسليم الفلسطينيين السيطرة الأمنية على مزيد من مدن الضفة، ما يوحي ببقاء الاحتلال في هذه المواقع. أما شارون، فيعلن صراحةً أمام مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، أنَّ مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية القادمة "ستكون مستحيلة"، بفعل حملة الاعتقالات المنظّمة المتتابعة التي تقوم بها إسرائيل ضد كوادر الحركة ومنتسبيها، من دون أيّ اعتراض من المسؤول الأمريكي الذي يتابع اعتراضه على ما يزعمه من تدخّل سوري في العراق ولبنان وفلسطين ضد ما يسمّيه السلام والديمقراطية، ولكنه لا يتحدث عن تدخّل شارون في منع الفلسطينيين من ممارسة ديمقراطيتهم، لأنه يرى الحق لـه في ذلك، باعتبار أن مجاهدي حماس عنده ينتمون إلى منظمة إرهابية، ولا يريد لهم الدخول في النظام المدني، والانفتاح على الخطوط السياسية في المجتمع الفلسطيني، في وقت يستمر الحليفان الأمريكي والإسرائيلي في ترداد المقولة التي تشترط للمفاوضات إسقاط البنية التحتية للانتفاضة التي يطالب السلطة القيام بها، لإيصال الموقف الفلسطيني إلى حرب أهلية تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، فلا يبقى من فلسطين إلا ما تصادره إسرائيل لحساب استراتيجيتها في إبقاء سيطرتها السياسية والاقتصادية والأمنية على الأرض كلها والإنسان كله.

ونلاحظ في الحديث عن لقاء عبَّاس وشارون، أن الأخير يرفض هذا اللقاء، على الرغم من الإعلان عنه، لأنّه ليس لديه ما يقدّمه لعباس من المطالب الحيوية للشعب الفلسطيني، الذي يريد لـه شارون أن يعلن الاستسلام المطلق لإسرائيل في شروطها العامة.

أما اللجنة الرباعية الدولية، فهي لا تحرّك ساكناً، لأنها لا تملك من الأمر شيئاً، بفعل السيطرة الإسرائيلية ـ الأمريكية المطلقة على حركتها السلحفاتية ومواعيدها العرقوبية، باعتبارها تمثّل الخطة التي تستفيد من عنصر الزمن الطويل الذي يمنح العدو أكثر من فرصة لتثبيت أوضاعه الاستيطانية والاحتلالية.

ديمقراطية المصالح الأمريكية:

والسؤال للمجتمع الدولي الذي تتحدَّث باسمه أمريكا: لماذا يتحمّس لدعوة العراقيين إلى الاستفتاء على الدستور ليحق لهم الإدلاء بأصواتهم، ولا يتحمّس لإفساح المجال للشعب الفلسطيني ليمارس دوره في تقرير مصيره في الانتخابات القادمة بكل أطيافه، بل يمنعه من التصويت للفصائل المجاهدة التي تؤمن بالتحرير واستقلال البلد والإنسان؟

إنها الديمقراطية الأمريكية التي تنسجم مع مصالحها في العراق، ولكنّها تحرق الواقع السياسي الذي ينفتح على مصالح الشعب الفلسطيني، الذي تمنعه من اختيار ممثليه الأحرار تحت عنوان مكافحة الإرهاب. إنهم يريدون أن يقتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً، لترتاح إسرائيل التي تلتزم أمريكا أمنها المطلق ضد أمن الشعوب كلها، وهذا هو العنوان الكبير لسياسة الإدارة الأمريكية في واقع المنطقة كلها، وهذا هو السرّ في كراهية الشعوب لأمريكا في إدارتها الحالية.

إننا نقول للفلسطينيين: إن المرحلة الحاضرة تنذر بخطر كبير في مصادرة الأهداف الوطنية التي تلتزمونها، لأن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي لا يزال يضغط على الواقع السياسي عندكم، ولن تجدوا في زيارة رئيس السلطة لأمريكا أيّ تغيير في السياسة الأمريكية المؤيِّدة للاستراتيجية الإسرائيلية، وسوف تواجهون الضغوط الجديدة عليكم، من خلال الشروط التعجيزية التي تعتبر أن المشكلة الفلسطينية مشكلة أمنية وترتبط بخياراتكم في تحقيق الأمن الإسرائيلي، وليست مشكلة سياسية. ولذلك، فإن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لن تسمح بأيِّ مفاوضات سياسية حول حقوقكم الوطنية ما لم تدمّروا أوضاعكم الأمنية في الفتنة الداخلية، وهو ما لن تحصلوا منه على وطن حرّ مستقل.

صمتٌ فتوائي إزاء التكفيريين:

أما العراق، فإنَّه ينتظر الاستفتاء على ورقة الدستور التي تثير الكثير من الجدل على المستوى السياسي الذي يأخذ أكثر من بُعدٍ طائفي مذهبي، وبرعاية السفير الأمريكي الذي يتدخّل بشكل سافر وضاغط في تغيير مادة هنا أو مادة هناك، وسط أجواء متوترة وتهديدات تفجيرية بالمجازر المتحركة المتنقّلة التي تفجّر المدنيين في أسواقهم ومساجدهم وشوارعهم، بذهنية مذهبية حاقدة لا تعرف الرحمة، وتجد في قتل المسلمين الذين تتهمهم بالارتداد والكفر الهدف الكبير، بدلاً من مواجهة المحتلين الأمريكيين.

إننا نتابع المأساة العراقية التي تتمثل في واقع الشعب العراقي المنكوب، الذي تركه الجميع في المواقع الإقليمية والدولية في معاناته الواقعية اليومية، من دون أن يمدوا لـه يد العون، حتى إنَّ الوفد العربي للجامعة العربيَّة لم يقدّم لـه أطروحة واقعية مدروسة في حلّ مشاكله الصعبة، ولا سيما مشكلة الاحتلال من جهة، والتكفيريين الإلغائيين من جهة أخرى. ومن اللافت أنَّ المواقع الشرعية الفتوائية في البلاد الإسلامية، كما في مصر والسعودية وغيرهما، لا تزال صامتةً من دون أن تبادر إلى إصدار الفتوى الشرعية ضدَّ هؤلاء الذين يكفّرون المسلمين من مذهب معيّن ويستحلّون دماءهم، بل يكتفون بالكلمات الاحتجاجية التي لا تملك الصراحة الشرعية، الأمر الذي قد يمتدُّ إلى أكثر من موقع إسلامي ينفتح على هذه الذهنية، ويتبنى الخطَّ التكفيري الذي سوف يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

إننا نهيب بعلماء الإسلام في العالم، أن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية الإسلامية، لإنقاذ العراق والواقع الإسلامي كلِّه من هذا الاتجاه التكفيري الجاهل الذي لن يقتصر على الموقف من الشيعة، بل سيمتدّ إلى المسلمين جميعاً. إننا لا نطالب بإصدار الفتوى الشرعية لمصلحة مذهب معيّن، بل لمصلحة الإسلام كله، ضد الذين يكفّرون المسلمين ويعتبرون القتل هي الطريقة التي يعارضون بها الرأي الآخر، لأنهم لا يملكون المعرفة في الفرق بين الإيمان والكفر، أو في حدود الله.

ونريد للعراقيين أن يأخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية ووحدة البلد، ورفض أي حالة تقسيمية أو طائفية أو عنصرية، فإن ذلك هو سبيل الخلاص للشعب كله.

بوش يفشل في إدارة حروبه الاحتلالية:

ومن جانب آخر، فإننا نتابع المسؤولين الأمريكيين من خلال الرئيس الأمريكي الذي يعاني من انحسار شعبيته لدى الرأي العام الأمريكي، ولدى أكثر من بلد في العالم، بفعل فشله في إدارة حربه الاحتلالية في أفغانستان والعراق وفلسطين، ومن خلال الموفدين الأمريكيين الذين يعملون على التدخّل في شؤون المنطقة، ولا سيما لبنان، باسم المساعدة الغامضة، ويطلقون التصريحات والمواقف التي تهاجم دول الممانعة وتستهدف شعوب المنطقة في الصميم، تحت عنوان رفض التدخّل السوري في لبنان والمنطقة، مهدِّدةً إيَّاها بالعزلة السياسية، إضافةً إلى مهاجمة إيران في سياستها في المنطقة وفي مشروعها النووي السلمي، في الوقت الذي نرى أنّ الرئيس الأمريكي وإدارته يتدخّلون في كلِّ شؤون المنطقة على جميع المستويات، من أجل تنفيذ استراتيجيتهم في اجتياح شعوبها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ويطالبون الدول فيها أن تستجيب للأوامر الموجَّهة إليها لتنفيذ مخططاتها الاستراتيجية.

لبنان في دوَّامة التقرير:

أمَّا لبنان، فلا يزال يعيشُ في دوّامة التقرير الذي اجتاح كلَّ قضايا الشعب، وجمّد كل أوضاعه، في نطاق السجال السياسي والإعلامي الذي يحرّك الجدل في خطوط العصبيات والمواجهات على مستوى التحليل والتأويل، بحيث أصبح الشعب ينتظر التقرير ليحلّ مشاكله من خلاله، وليتحرك من تمديد إلى تمديد، ليبقى الشغل المتحرّك بالمخاوف والتمنيات والاتهامات، من خلال ملفٍّ يتّهمه البعض بأنه فارغ، بينما يؤكِّد البعض الآخر أنه مملوء.

إن مشكلة هذا البلد، أنَّ المسؤولين فيه لا يتحمّلون مواجهة المشاكل مجتمعة، بل تشغلهم قضيَّةٌ صغيرةٌ عن التحرك في القضايا الأخرى، وبذلك يبقى البلد في المتاهات، ليستقبل وفداً أمريكياً من هنا، ووفداً دولياً من هناك من دون جدوى، لأن الصفر ينتظر الإنتاج اللبناني في كارثة الاقتصاد.

وأخيراً، إننا نتعاطف مع المنكوبين بالزلازل في الهند وباكستان، وندعو الناس إلى مدَّ يد العون إليهم، انسجاماً مع الرحمة الإسلامية الإنسانية، وندعو الله أن يرحم الضحايا برحمته، ويعافي الجرحى والمرضى بعافيته، إنه أرحم الراحمين.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير