الإمام الرِّضا(ع): مثال القيادة الروحية العلمية الحكيمة...

الإمام الرِّضا(ع): مثال القيادة الروحية العلمية الحكيمة...

الإمام الرِّضا(ع): مثال القيادة الروحية العلمية الحكيمة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

علم الإمام الرضا(ع):

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33).

من أهل هذا البيت، الإمام الثامن، علي بن موسى الرضا(ع)، الذي التقينا بذكرى ولادته في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام. وقد عاش الإمام الرِّضا(ع) حياته بطريقة متحرِّكة في كلِّ ما كان يفيض به على الناس من علم، وفي كلِّ ما تحرَّك به في الواقع السياسي، من خلال ممارسته لولاية العهد عن المأمون، التي ربما فُرضت عليه من خلال بعض الظروف التي جعلته يقبل بها من أجل أن يحقِّق الكثير من النّتائج لمصلحة الإسلام والمسلمين من جهة، ولتأصيل خطِّ أهل البيت(ع) من جهة أخرى.

وينقل بعض أصحابه في حديثهم عن إفاضته للعلم، حيث ملأ الدنيا علماً في كلِّ خطوط العلم الذي لم يقتصر على موقع واحد، بل امتدّ من الفقه إلى علم الكلام إلى كلّ الجوانب الأخرى التي تناولها المؤرخون وأصحاب المؤلفات المتنوّعة في روايتهم عنه.

يقول بعض أصحابه في علمه(ع): «ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا، ولا رآه عالمٌ إلاّ شهد بمثل شهادتي. ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين ـ كأن المأمون أراد أن يُظهِر أمام كل هؤلاء الذين ينتسبون إلى الديانات المختلفة، وإلى خطوط الفقه وعلم الكلام، عجزهم، أو أن يظهر عظمته(ع) أمام الآخرين من غير المسلمين ـ فغلبهم عن آخرهم ـ حيث كان الإمام(ع) يجيب عن كل مسائلهم، وكانوا يناقشونه في قضايا تتعلق بأديانهم وبالإسلام، فكان يجيبهم ويناقشهم بكلِّ دقة علمية، حتى لم يستطيعوا أن يقفوا أمام هذا العلم الزاخر ـ حتى ما بقي أحدٌ منهم إلاّ وأقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور».

وكان الإمام الرضا(ع) يجلس في مسجد المدينة؛ مسجد رسول الله(ص)، وكان العلماء يجلسون في هذا المسجد، والناس يقصدونهم ويسألونهم عن مسائل، فإذا عجز هؤلاء العلماء عن إجابة الناس عن مسائلهم أشاروا إليهم: اذهبوا إلى علي بن موسى الرضا(ع)، فإنّه يملك الجواب الشافي الذي لا نملكه. وقد نقل بعض الرواة عنه أنه أحصى من مسائله التي أجاب عنها، في مختلف العلوم، ثمانية عشر ألف مسألة.

ومما يروى عن أحد أصحابه(ع) في بيان أخلاقه، قوله: «ما رأيته جفا أحداً قطّ ـ فقد كان كلامه مع الناس يتميّز باللين واللطف والعاطفة، ولم يكن يصدر عنه أيّ كلام يشتمل على الجفاء والقسوة ـ ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ـ فإذا تكلَّم الناس معه، تركهم حتى يفرغوا من كلامهم، ثم يتحدَّث إليهم احتراماً لهم ـ وما ردَّ أحداً عن حاجة يقدر عليها ـ فكان(ع) إذا قصده الناس في حاجة، وكان قادراً على أن يقضيها لهم، لا يردّهم ـ ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ـ خدمه ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ ـ فقد كان(ع) إذا ضحك، لا يخرج ضحكه في صوته ـ بل كان ضحكه التبسم».

تواضع الإمام الرضا(ع):

وأيضاً عن بعض أصحابه قال: كنت معه في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه ـ خدمه ـ من السودان وغيرهم ـ أصحاب البشرة السوداء ـ فقلت له: لو عزلت لهؤلاء مائدة ـ فأنت في منـزلة كبيرة، ولا يناسبك الجلوس مع الخدم لتأكل معهم ـ فقال(ع): «مه ـ أكفف عن كلامك واسكت ـ إنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحدٌ، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال». فليس هناك فرق بيني وبينهم. وقال(ع) أيضاً: «إني لا أرى أني خير من هذا العبد الأسود بقرابتي من رسول الله، إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه». لقد كان الإمام(ع) لا يتكبَّر على من هم في الطّبقة الاجتماعيّة الأدنى، ولا يحتقرهم بالابتعاد عن الجلوس معهم.

وفي حديث آخر عندما سئل عن قوله في القرآن، قال(ع): «كلام الله فلا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». كان يوصي بقراءة القرآن وبالسير على منهجه في كلِّ المجالات التي يحتاجها الناس في حياتهم العملية والفكرية، وكان حديثه كلّه استنتاجاً واستنباطاً من القرآن، في أيِّ جانب فقهي أو حياتي أو ثقافي، ليعلّم الناس أنّ عليهم أن يأخذوا من القرآن منهجهم الفكري، لأنّه هو النور الذي يضيء لهم طريق الحق، ويقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى.

وصاياه لشيعته:

ومن وصاياه(ع) لشيعته، التي حمّلها للسيد عبد العظيم الحسني، وكان من العلماء الكبار الذين عاصروه، وله مقام كبير في طهران، قال(ع): «يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي ـ شيعتي ـ السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ـ أن لا يعبدوا الشيطان، ولا يخضعوا له، وأن لا يدخلوه في عقولهم ومشاعرهم ليضلّهم عن طريق الله سبحانه وتعالى ـ ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت ـ لأن الصمت يدفع الإنسان إلى التفكير، فإذا أخذ الإنسان بأسباب الصمت والسكوت، فإنّه يستطيع أن يفكّر في كل قضاياه التي يمكن أن يحصل من خلالها على الفكر الناضج ـ وترك الجدال فيما لا يعنيهم ـ أن لا يتجادلوا في الأمور التي لا تعنيهم ولا تتَّصل بحاجاتهم وعقائدهم وأمورهم، فإذا أرادوا أن يتجادلوا، فعليهم أن يجادلوا فيما يفيدهم وينفعهم ويعنيهم ـ وإقبال بعضهم على بعض ـ أن يقبل الشيعة والمسلمون على بعضهم البعض بالتحية وبالرعاية ـ والمزاورة فإنّ ذلك قربة لي. ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً ـ فبعض الشيعة يحاولون تمزيق بعضهم بعضاً بعنف وبما يسيء إليهم ويسقط الوحدة فيما بينهم ـ فإني ـ كناية عن التهديد ـ آليت على نفسي ـ أقسمت ـ أنه من فعل ذلك ـ من مزَّق إخوانه وأثار الفتنة فيما بينهم ـ وأسخط ولياً من أوليائي ـ شيعتي ـ دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشدَّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين. وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مُسيئهم، إلاّ من أشرك به، أو آذى ولياً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه تاب الله عليه، وإلا نزع روح الإيمان من قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك».

وقد كان الإمام الرضا(ع)، يطلب من شيعته وإخوانه أن يعاونوا الضعيف، سواء كان ضعيفاً من ناحية الفكر أو الجسد أو المال، وكان(ع) يقول: «عونك للضعيف أفضل الصدقة».

وكان يريد للناس إذا أرادوا أن يأتمنوا أحداً، أن يأتمنوا الأمين، ولا يأتمنوا الخائن، فكان يقول لبعض الناس الذين كانوا يتذمّرون من خيانة من ائتمنوهم: «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن».

أيُّها الأحبة، إنّ الإمام الرضا(ع) كان يمثّل القيادة الإسلامية الروحية العلمية الحكيمة، وقد عاش حياةً متحركّة من خلال ولاية العهد التي كانت لها ظروف معينة، حيث كان(ع) يضع برنامجاً في علاقته بالمأمون، حتى انتقل إلى رحاب ربه في طوس ـ مشهد ـ حيث قبره الآن، وقد دفنه المأمون إلى جانب قبر أبيه.

وقد قال الشاعر دعبل الخزاعي عن ذلك:

ما ينفع الرِّجس من قرب الزكي وما على الزكي بقرب الرِّجس من ضرر

وهكذا علينا، أيها الأحبة، أن نعيش روحية هذا الإمام، وأن نقتدي بأقواله وأفعاله، وأن ننفتح على ما تركه لنا من تراث علمي، فإنّه(ع) قد ترك لنا الكثير من ذلك، وأراد لنا، فيما روي عنه، أن نحيي أمر أهل البيت بذكر محاسن علومهم وأخلاقهم: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا».

والسلام على الإمام علي بن موسى الرضا(ع) يوم ولد ويوم انتقل إلى رحمة ربه ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله، وانطلقوا من أجل أن يكون الإسلام عقلاً في عقولكم، وروحاً في أرواحكم، ونبضةً في قلوبكم، وحركةً في حياتكم، فإنّ الله قد جعل الإسلام أمانةً لدى المسلمين، وعليهم أن يحفظوا هذه الأمانة، وأن يسيروا بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... فماذا هناك؟

أمريكا: البحث عن نجاحاتٍ شكلية:

في الطريق إلى "أنابوليس"، تجهد الإدارة الأميركية في استدعاء المسؤولين العرب إلى هذا المؤتمر، في ظلِّ المآزق التي تلاحقها في المنطقة، والتي تظهر تباعاً، من المشكلة الكردية – التركية، إلى ما يجري في باكستان، وصولاً إلى العراق فلبنان وفلسطين...

لذلك، فإنّ هذه الإدارة تبدو على عجلة من أمرها، للإيحاء بنجاح شكلي لهذا المؤتمر، وهو ما يفسّر إصرارها على حضور العرب بوزراء خارجيتهم، ورفضها لأيّ تمثيل عادي، لأنّها تبحث عن نجاحات سياسية، حتى وإن كانت شكليةً، كما تريد لعجلة التطبيع بين العرب وإسرائيل أن تسير قدماً بين ركام المشاكل والفوضى التي أحدثتها في المنطقة، ولذلك فهي تستعجل الخطى لجمع العرب على هذا الطريق، لتضع له الأولوية، ولتترك الملفات الأخرى رهينة الزمن وحبيسة الظروف القادمة...

ومن هذه الزاوية، يمكن رصد لقاءات رئيس وزراء العدوّ مع رئيس السلطة الفلسطينية، من دون أن تعطي هذه اللقاءات أية إشارات واضحة للفلسطينيين في مسائل الاستيطان، والقدس، والجدار الفاصل، وعودة اللاجئين، لأنّ أمريكا تريد لهذا المؤتمر أن يعطي إسرائيل فسحةً زمنيةً أكبر لإحكام طوقها الاستيطاني من حول القدس، ولاستمرار مخطَّطها حيال فلسطينيّي الـ48، إلى جانب سعيها لاستهلاك الوقت الضَّائع ريثما تبتعد الأوضاع الدولية عن الضَّغط عليها، وخصوصاً مع حصارها التجويعي والأمني لقطاع غزَّة، واستمرارها في عمليات الاغتيال التي يسقط فيها الفلسطينيون بالسلاح الأميركي الذي يمثِّل آلة القتل والجريمة الأميركية – الإسرائيلية التي يراد لها أن تلاحق شعوب المنطقة وحركات الممانعة فيها تحت ذريعة ملاحقة الإرهاب.

وهكذا، فإنّ منطقة الشرق الأوسط، ولا سيّما المنطقة العربيّة، تعيش الاهتزاز السياسي الحادّ، من خلال ما ينتظرها في المستقبل من الأحداث الأمنيّة والسياسية والانهيارات الاقتصاديّة، بفعل الخطّة الأمريكية التي تنتقل مفاعيلها من موقع إلى موقع آخر.

العراق: لا استقرار أمني ولا استقرار سياسي:

ففي العراق، لا يزال الوضع يُواجه الخطورة في عمليّات القتل اليومي التي تنطلق بها جهات تكفيرية من جهة، وقوّات الاحتلال من جهة أخرى، وبقايا النظام السابق. هذا، إلى جانب الكتل السياسية المنطلقة من الخطّ الطائفي الذي يستخدم الكثير من الأساليب والمواقف السلبيّة لإسقاط الاستقرار السياسي الذي يحتاجه العراق لتأسيس دولته الحرّة المستقلّة، إضافةً إلى الفوضى التي أثارتها خطّة الاحتلال ضمن استراتيجيّة الفوضى البنّاءة، حسب تعبير الرئيس بوش، والتي يستهدف منها خلط كلّ الأوراق لتحقيق مشاريعه السياسية والاقتصاديّة.

باكستان وأفغانستان ضحيتا الفوضى البنَّاءة:

أمّا باكستان الحليفة للإدارة الأمريكية، فإنّها تعيش الفوضى السياسية والمشاكل الأمنيّة من خلال الدكتاتوريّة التي تغطّي حكمها بعناوين ديمقراطيّة، بالرغم من الخطوط التي تلتقي بالسياسة الأمريكية التي اعتبرت هذا البلد قاعدةً لبسط نفوذها على المنطقة كلّها، من خلال حدودها الواسعة مع أكثر من دولة. هذا إلى جانب شعار مكافحة الإرهاب الذي تستخدمه الإدارة الأمريكيّة للضغط على معارضيها، ولا سيما الإسلاميّين.

أمّا في أفغانستان، التي يسيطر عليها الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، فلا تزال الضحايا تسقط في ساحاتها وفي أكثر من منطقة من مناطقها، بحيث لم يستطع الشعب الأفغانيّ أن يحصل على الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي.

إيران: تهديد بعقوبات جديدة:

وتمتدّ المسألة إلى الضغوط الأمريكية والأوروبّية ضدّ إيران، تحت تأثير تهمة عزمها على صنع القنبلة الذرّية في ملفّها النووي السلمي، بالرغم من نفي وكالة الطاقة الذرّية وجود أيِّ دليل على ذلك. وتقوم أمريكا ـ في المقابل ـ بمحاولة إتمام الحصار الاقتصادي من خلال إقرار عقوباتٍ جديدة في مجلس الأمن، إلى جانب التهديد المتحرّك بالحرب ضدّها التي قد تؤدّي إلى كارثة جنونيّة في المنطقة الخليجيّة؛ ولكنّ أمريكا ـ من خلال إدارتها العدوانيّة ـ لا تلقي بالاً للشعوب الأخرى إذا كانت مصالحها تفرض عليها تحريك استراتيجيّتها العدوانيّة بما يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل.

لبنان: عقد داخلية وخارجية:

أمّا في لبنان، فإنّ هناك أكثر من عقدة داخليّة تتحرّك في ملفِّ الاستحقاق الرئاسي، من خلال صراع فريق معيّن هنا أو هناك على السلطة، بفعل إثارة التعقيدات حول هذا الشخص أو ذاك، ما قد يوحي بتكرار خطأ تاريخيٍ سابقٍ، وهو ما نتمثله في التصريحات التي تضع الموانع حول قبول شخصٍ في موقعٍ هنا، أو شخصٍ في موقعٍ هناك.

ولعلّ المشكلة، في خلفيّات الواقع الذي يشغل الجميع، هي الامتدادات الخارجيّة للعقد الداخليّة، ولا سيّما أنّ البعض يتحدّث عن صفقة إقليميّة أو دوليّة لحساب بعض التنازلات الكبرى أو الصغرى في حركة أزمة المنطقة التي تجرّ خلفها أكثر من أزمة داخليّة، وخصوصاً أنّ هناك حديثاً يتكرّر حول واقعيّة البحث عن رئيس توافقي في ظل غياب الوفاق الوطني، أو في ظل شعار "لا غالب ولا مغلوب"، والذي بات يتجسد في الوطن على قاعدة معاكسة يحكمها منطق الغالب والمغلوب.

لبنان: المطلوب دولة شعار أم واقع؟!

أمّا الناس، في هواجسهم وتطلّعاتهم ومخاوفهم، فإنّهم يعيشون الحيرة القاتلة، من خلال التصريحات الاستهلاكيّة المجنونة التي يتحدّث فيها البعض عن خطط أمنيّة، وتنطلق فيها المصالح الدوليّة التي تبحث فيها كلّ دولةٍ عن موطئ قدمٍ في لبنان، لتأكيد موقعها السياسي في ساحة اللعبة التي ترى في هذا البلد منطلقاً للصراع في دائرة التجاذبات الدوليّة والإقليميّة. ويبقى الغلاء الفاحش الذي لا ضوابط له يفترس مداخيل الناس، ويُهاجم أوضاعهم الاقتصاديّة، ويثير مخاوفهم الأمنيّة.

إنّه لبنان المزرعة التي لا يخضع فيها القائمون على إدارته لأيّ نظامٍ يحترمون فيه شعبهم، فيما الناس يبحثون عن لبنان الدولة التي ترتفع كشعار، بينما تسقط كواقع عمليّ يسدُّ الآمال أمام الإنسان كلّه والوطن كلّه.

هل عاش لبنان الاستقلال الأصيل؟:

وأخيراً، في ذكرى الاستقلال، يتساءل اللبنانيّون: هل بقي لهم استقلال أمام التدخّلات الدولية والإقليمية في الاستحقاق الرئاسي الذي تمتدّ فيه الوصاية التاريخية التي اعتادها البلد، من خلال انتظار كلمة السرّ التي تنطلق من الاتفاقات على الرئيس الذي تلتقي عنده مصالح هذا المحور الدولي أو ذاك؛ لأنّ اللبنانيّين لا يملكون اختيار رئيسهم بشكل حر متوازن؟ ويحدّثونك بعد ذلك، وفي كلّ هذا الجنون السياسي، والسجن النيابي، عن السيادة والاستقلال الجديد، والجميع يعرفون أنّ الوطن لم يعرف الاستقلال الأصيل الذي يولد لبنانيّاً ويمتدّ في كلّ موقع سياسيّ لبناني، وإذا عرفوه يوماً، فإنّهم لا يلبثون أن يتنكّروا له في متاهات التعقيدات السياسية الضيّقة.

الإمام الرِّضا(ع): مثال القيادة الروحية العلمية الحكيمة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

علم الإمام الرضا(ع):

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33).

من أهل هذا البيت، الإمام الثامن، علي بن موسى الرضا(ع)، الذي التقينا بذكرى ولادته في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام. وقد عاش الإمام الرِّضا(ع) حياته بطريقة متحرِّكة في كلِّ ما كان يفيض به على الناس من علم، وفي كلِّ ما تحرَّك به في الواقع السياسي، من خلال ممارسته لولاية العهد عن المأمون، التي ربما فُرضت عليه من خلال بعض الظروف التي جعلته يقبل بها من أجل أن يحقِّق الكثير من النّتائج لمصلحة الإسلام والمسلمين من جهة، ولتأصيل خطِّ أهل البيت(ع) من جهة أخرى.

وينقل بعض أصحابه في حديثهم عن إفاضته للعلم، حيث ملأ الدنيا علماً في كلِّ خطوط العلم الذي لم يقتصر على موقع واحد، بل امتدّ من الفقه إلى علم الكلام إلى كلّ الجوانب الأخرى التي تناولها المؤرخون وأصحاب المؤلفات المتنوّعة في روايتهم عنه.

يقول بعض أصحابه في علمه(ع): «ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا، ولا رآه عالمٌ إلاّ شهد بمثل شهادتي. ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين ـ كأن المأمون أراد أن يُظهِر أمام كل هؤلاء الذين ينتسبون إلى الديانات المختلفة، وإلى خطوط الفقه وعلم الكلام، عجزهم، أو أن يظهر عظمته(ع) أمام الآخرين من غير المسلمين ـ فغلبهم عن آخرهم ـ حيث كان الإمام(ع) يجيب عن كل مسائلهم، وكانوا يناقشونه في قضايا تتعلق بأديانهم وبالإسلام، فكان يجيبهم ويناقشهم بكلِّ دقة علمية، حتى لم يستطيعوا أن يقفوا أمام هذا العلم الزاخر ـ حتى ما بقي أحدٌ منهم إلاّ وأقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور».

وكان الإمام الرضا(ع) يجلس في مسجد المدينة؛ مسجد رسول الله(ص)، وكان العلماء يجلسون في هذا المسجد، والناس يقصدونهم ويسألونهم عن مسائل، فإذا عجز هؤلاء العلماء عن إجابة الناس عن مسائلهم أشاروا إليهم: اذهبوا إلى علي بن موسى الرضا(ع)، فإنّه يملك الجواب الشافي الذي لا نملكه. وقد نقل بعض الرواة عنه أنه أحصى من مسائله التي أجاب عنها، في مختلف العلوم، ثمانية عشر ألف مسألة.

ومما يروى عن أحد أصحابه(ع) في بيان أخلاقه، قوله: «ما رأيته جفا أحداً قطّ ـ فقد كان كلامه مع الناس يتميّز باللين واللطف والعاطفة، ولم يكن يصدر عنه أيّ كلام يشتمل على الجفاء والقسوة ـ ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ـ فإذا تكلَّم الناس معه، تركهم حتى يفرغوا من كلامهم، ثم يتحدَّث إليهم احتراماً لهم ـ وما ردَّ أحداً عن حاجة يقدر عليها ـ فكان(ع) إذا قصده الناس في حاجة، وكان قادراً على أن يقضيها لهم، لا يردّهم ـ ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ـ خدمه ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ ـ فقد كان(ع) إذا ضحك، لا يخرج ضحكه في صوته ـ بل كان ضحكه التبسم».

تواضع الإمام الرضا(ع):

وأيضاً عن بعض أصحابه قال: كنت معه في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه ـ خدمه ـ من السودان وغيرهم ـ أصحاب البشرة السوداء ـ فقلت له: لو عزلت لهؤلاء مائدة ـ فأنت في منـزلة كبيرة، ولا يناسبك الجلوس مع الخدم لتأكل معهم ـ فقال(ع): «مه ـ أكفف عن كلامك واسكت ـ إنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحدٌ، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال». فليس هناك فرق بيني وبينهم. وقال(ع) أيضاً: «إني لا أرى أني خير من هذا العبد الأسود بقرابتي من رسول الله، إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه». لقد كان الإمام(ع) لا يتكبَّر على من هم في الطّبقة الاجتماعيّة الأدنى، ولا يحتقرهم بالابتعاد عن الجلوس معهم.

وفي حديث آخر عندما سئل عن قوله في القرآن، قال(ع): «كلام الله فلا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». كان يوصي بقراءة القرآن وبالسير على منهجه في كلِّ المجالات التي يحتاجها الناس في حياتهم العملية والفكرية، وكان حديثه كلّه استنتاجاً واستنباطاً من القرآن، في أيِّ جانب فقهي أو حياتي أو ثقافي، ليعلّم الناس أنّ عليهم أن يأخذوا من القرآن منهجهم الفكري، لأنّه هو النور الذي يضيء لهم طريق الحق، ويقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى.

وصاياه لشيعته:

ومن وصاياه(ع) لشيعته، التي حمّلها للسيد عبد العظيم الحسني، وكان من العلماء الكبار الذين عاصروه، وله مقام كبير في طهران، قال(ع): «يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي ـ شيعتي ـ السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ـ أن لا يعبدوا الشيطان، ولا يخضعوا له، وأن لا يدخلوه في عقولهم ومشاعرهم ليضلّهم عن طريق الله سبحانه وتعالى ـ ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت ـ لأن الصمت يدفع الإنسان إلى التفكير، فإذا أخذ الإنسان بأسباب الصمت والسكوت، فإنّه يستطيع أن يفكّر في كل قضاياه التي يمكن أن يحصل من خلالها على الفكر الناضج ـ وترك الجدال فيما لا يعنيهم ـ أن لا يتجادلوا في الأمور التي لا تعنيهم ولا تتَّصل بحاجاتهم وعقائدهم وأمورهم، فإذا أرادوا أن يتجادلوا، فعليهم أن يجادلوا فيما يفيدهم وينفعهم ويعنيهم ـ وإقبال بعضهم على بعض ـ أن يقبل الشيعة والمسلمون على بعضهم البعض بالتحية وبالرعاية ـ والمزاورة فإنّ ذلك قربة لي. ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً ـ فبعض الشيعة يحاولون تمزيق بعضهم بعضاً بعنف وبما يسيء إليهم ويسقط الوحدة فيما بينهم ـ فإني ـ كناية عن التهديد ـ آليت على نفسي ـ أقسمت ـ أنه من فعل ذلك ـ من مزَّق إخوانه وأثار الفتنة فيما بينهم ـ وأسخط ولياً من أوليائي ـ شيعتي ـ دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشدَّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين. وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مُسيئهم، إلاّ من أشرك به، أو آذى ولياً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه تاب الله عليه، وإلا نزع روح الإيمان من قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك».

وقد كان الإمام الرضا(ع)، يطلب من شيعته وإخوانه أن يعاونوا الضعيف، سواء كان ضعيفاً من ناحية الفكر أو الجسد أو المال، وكان(ع) يقول: «عونك للضعيف أفضل الصدقة».

وكان يريد للناس إذا أرادوا أن يأتمنوا أحداً، أن يأتمنوا الأمين، ولا يأتمنوا الخائن، فكان يقول لبعض الناس الذين كانوا يتذمّرون من خيانة من ائتمنوهم: «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن».

أيُّها الأحبة، إنّ الإمام الرضا(ع) كان يمثّل القيادة الإسلامية الروحية العلمية الحكيمة، وقد عاش حياةً متحركّة من خلال ولاية العهد التي كانت لها ظروف معينة، حيث كان(ع) يضع برنامجاً في علاقته بالمأمون، حتى انتقل إلى رحاب ربه في طوس ـ مشهد ـ حيث قبره الآن، وقد دفنه المأمون إلى جانب قبر أبيه.

وقد قال الشاعر دعبل الخزاعي عن ذلك:

ما ينفع الرِّجس من قرب الزكي وما على الزكي بقرب الرِّجس من ضرر

وهكذا علينا، أيها الأحبة، أن نعيش روحية هذا الإمام، وأن نقتدي بأقواله وأفعاله، وأن ننفتح على ما تركه لنا من تراث علمي، فإنّه(ع) قد ترك لنا الكثير من ذلك، وأراد لنا، فيما روي عنه، أن نحيي أمر أهل البيت بذكر محاسن علومهم وأخلاقهم: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا».

والسلام على الإمام علي بن موسى الرضا(ع) يوم ولد ويوم انتقل إلى رحمة ربه ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله، وانطلقوا من أجل أن يكون الإسلام عقلاً في عقولكم، وروحاً في أرواحكم، ونبضةً في قلوبكم، وحركةً في حياتكم، فإنّ الله قد جعل الإسلام أمانةً لدى المسلمين، وعليهم أن يحفظوا هذه الأمانة، وأن يسيروا بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... فماذا هناك؟

أمريكا: البحث عن نجاحاتٍ شكلية:

في الطريق إلى "أنابوليس"، تجهد الإدارة الأميركية في استدعاء المسؤولين العرب إلى هذا المؤتمر، في ظلِّ المآزق التي تلاحقها في المنطقة، والتي تظهر تباعاً، من المشكلة الكردية – التركية، إلى ما يجري في باكستان، وصولاً إلى العراق فلبنان وفلسطين...

لذلك، فإنّ هذه الإدارة تبدو على عجلة من أمرها، للإيحاء بنجاح شكلي لهذا المؤتمر، وهو ما يفسّر إصرارها على حضور العرب بوزراء خارجيتهم، ورفضها لأيّ تمثيل عادي، لأنّها تبحث عن نجاحات سياسية، حتى وإن كانت شكليةً، كما تريد لعجلة التطبيع بين العرب وإسرائيل أن تسير قدماً بين ركام المشاكل والفوضى التي أحدثتها في المنطقة، ولذلك فهي تستعجل الخطى لجمع العرب على هذا الطريق، لتضع له الأولوية، ولتترك الملفات الأخرى رهينة الزمن وحبيسة الظروف القادمة...

ومن هذه الزاوية، يمكن رصد لقاءات رئيس وزراء العدوّ مع رئيس السلطة الفلسطينية، من دون أن تعطي هذه اللقاءات أية إشارات واضحة للفلسطينيين في مسائل الاستيطان، والقدس، والجدار الفاصل، وعودة اللاجئين، لأنّ أمريكا تريد لهذا المؤتمر أن يعطي إسرائيل فسحةً زمنيةً أكبر لإحكام طوقها الاستيطاني من حول القدس، ولاستمرار مخطَّطها حيال فلسطينيّي الـ48، إلى جانب سعيها لاستهلاك الوقت الضَّائع ريثما تبتعد الأوضاع الدولية عن الضَّغط عليها، وخصوصاً مع حصارها التجويعي والأمني لقطاع غزَّة، واستمرارها في عمليات الاغتيال التي يسقط فيها الفلسطينيون بالسلاح الأميركي الذي يمثِّل آلة القتل والجريمة الأميركية – الإسرائيلية التي يراد لها أن تلاحق شعوب المنطقة وحركات الممانعة فيها تحت ذريعة ملاحقة الإرهاب.

وهكذا، فإنّ منطقة الشرق الأوسط، ولا سيّما المنطقة العربيّة، تعيش الاهتزاز السياسي الحادّ، من خلال ما ينتظرها في المستقبل من الأحداث الأمنيّة والسياسية والانهيارات الاقتصاديّة، بفعل الخطّة الأمريكية التي تنتقل مفاعيلها من موقع إلى موقع آخر.

العراق: لا استقرار أمني ولا استقرار سياسي:

ففي العراق، لا يزال الوضع يُواجه الخطورة في عمليّات القتل اليومي التي تنطلق بها جهات تكفيرية من جهة، وقوّات الاحتلال من جهة أخرى، وبقايا النظام السابق. هذا، إلى جانب الكتل السياسية المنطلقة من الخطّ الطائفي الذي يستخدم الكثير من الأساليب والمواقف السلبيّة لإسقاط الاستقرار السياسي الذي يحتاجه العراق لتأسيس دولته الحرّة المستقلّة، إضافةً إلى الفوضى التي أثارتها خطّة الاحتلال ضمن استراتيجيّة الفوضى البنّاءة، حسب تعبير الرئيس بوش، والتي يستهدف منها خلط كلّ الأوراق لتحقيق مشاريعه السياسية والاقتصاديّة.

باكستان وأفغانستان ضحيتا الفوضى البنَّاءة:

أمّا باكستان الحليفة للإدارة الأمريكية، فإنّها تعيش الفوضى السياسية والمشاكل الأمنيّة من خلال الدكتاتوريّة التي تغطّي حكمها بعناوين ديمقراطيّة، بالرغم من الخطوط التي تلتقي بالسياسة الأمريكية التي اعتبرت هذا البلد قاعدةً لبسط نفوذها على المنطقة كلّها، من خلال حدودها الواسعة مع أكثر من دولة. هذا إلى جانب شعار مكافحة الإرهاب الذي تستخدمه الإدارة الأمريكيّة للضغط على معارضيها، ولا سيما الإسلاميّين.

أمّا في أفغانستان، التي يسيطر عليها الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، فلا تزال الضحايا تسقط في ساحاتها وفي أكثر من منطقة من مناطقها، بحيث لم يستطع الشعب الأفغانيّ أن يحصل على الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي.

إيران: تهديد بعقوبات جديدة:

وتمتدّ المسألة إلى الضغوط الأمريكية والأوروبّية ضدّ إيران، تحت تأثير تهمة عزمها على صنع القنبلة الذرّية في ملفّها النووي السلمي، بالرغم من نفي وكالة الطاقة الذرّية وجود أيِّ دليل على ذلك. وتقوم أمريكا ـ في المقابل ـ بمحاولة إتمام الحصار الاقتصادي من خلال إقرار عقوباتٍ جديدة في مجلس الأمن، إلى جانب التهديد المتحرّك بالحرب ضدّها التي قد تؤدّي إلى كارثة جنونيّة في المنطقة الخليجيّة؛ ولكنّ أمريكا ـ من خلال إدارتها العدوانيّة ـ لا تلقي بالاً للشعوب الأخرى إذا كانت مصالحها تفرض عليها تحريك استراتيجيّتها العدوانيّة بما يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل.

لبنان: عقد داخلية وخارجية:

أمّا في لبنان، فإنّ هناك أكثر من عقدة داخليّة تتحرّك في ملفِّ الاستحقاق الرئاسي، من خلال صراع فريق معيّن هنا أو هناك على السلطة، بفعل إثارة التعقيدات حول هذا الشخص أو ذاك، ما قد يوحي بتكرار خطأ تاريخيٍ سابقٍ، وهو ما نتمثله في التصريحات التي تضع الموانع حول قبول شخصٍ في موقعٍ هنا، أو شخصٍ في موقعٍ هناك.

ولعلّ المشكلة، في خلفيّات الواقع الذي يشغل الجميع، هي الامتدادات الخارجيّة للعقد الداخليّة، ولا سيّما أنّ البعض يتحدّث عن صفقة إقليميّة أو دوليّة لحساب بعض التنازلات الكبرى أو الصغرى في حركة أزمة المنطقة التي تجرّ خلفها أكثر من أزمة داخليّة، وخصوصاً أنّ هناك حديثاً يتكرّر حول واقعيّة البحث عن رئيس توافقي في ظل غياب الوفاق الوطني، أو في ظل شعار "لا غالب ولا مغلوب"، والذي بات يتجسد في الوطن على قاعدة معاكسة يحكمها منطق الغالب والمغلوب.

لبنان: المطلوب دولة شعار أم واقع؟!

أمّا الناس، في هواجسهم وتطلّعاتهم ومخاوفهم، فإنّهم يعيشون الحيرة القاتلة، من خلال التصريحات الاستهلاكيّة المجنونة التي يتحدّث فيها البعض عن خطط أمنيّة، وتنطلق فيها المصالح الدوليّة التي تبحث فيها كلّ دولةٍ عن موطئ قدمٍ في لبنان، لتأكيد موقعها السياسي في ساحة اللعبة التي ترى في هذا البلد منطلقاً للصراع في دائرة التجاذبات الدوليّة والإقليميّة. ويبقى الغلاء الفاحش الذي لا ضوابط له يفترس مداخيل الناس، ويُهاجم أوضاعهم الاقتصاديّة، ويثير مخاوفهم الأمنيّة.

إنّه لبنان المزرعة التي لا يخضع فيها القائمون على إدارته لأيّ نظامٍ يحترمون فيه شعبهم، فيما الناس يبحثون عن لبنان الدولة التي ترتفع كشعار، بينما تسقط كواقع عمليّ يسدُّ الآمال أمام الإنسان كلّه والوطن كلّه.

هل عاش لبنان الاستقلال الأصيل؟:

وأخيراً، في ذكرى الاستقلال، يتساءل اللبنانيّون: هل بقي لهم استقلال أمام التدخّلات الدولية والإقليمية في الاستحقاق الرئاسي الذي تمتدّ فيه الوصاية التاريخية التي اعتادها البلد، من خلال انتظار كلمة السرّ التي تنطلق من الاتفاقات على الرئيس الذي تلتقي عنده مصالح هذا المحور الدولي أو ذاك؛ لأنّ اللبنانيّين لا يملكون اختيار رئيسهم بشكل حر متوازن؟ ويحدّثونك بعد ذلك، وفي كلّ هذا الجنون السياسي، والسجن النيابي، عن السيادة والاستقلال الجديد، والجميع يعرفون أنّ الوطن لم يعرف الاستقلال الأصيل الذي يولد لبنانيّاً ويمتدّ في كلّ موقع سياسيّ لبناني، وإذا عرفوه يوماً، فإنّهم لا يلبثون أن يتنكّروا له في متاهات التعقيدات السياسية الضيّقة.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير