زين العابدين (ع): الإمام الّذي واجه كلَّ التحدّيات

زين العابدين (ع): الإمام الّذي واجه كلَّ التحدّيات

كان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) الإنسان الصّامد إزاء مأساة كربلاء بالرغم من كلّ قساوتها...1وعاش [بعدها] مسؤوليّته في مستوى الظّروف التي كانت تحيط به، فانطلق ليكون أستاذاً للثقافة الإسلاميَّة آنذاك، وهذا ما نقرأه من خلال الرّواة الذين رووا عنه، ومن خلال تنوّع الأحاديث التي رويت عنه، بما يتّصل بعلم الكلام أو علم الفقه أو الأخلاقيّات أو الجوانب الاجتماعيّة والحركيّة، وما إلى ذلك، بحيث إنّنا عندما نقرأ الإمام زين العابدين (ع)، فإنّنا نقرأ علماً وفكراً وحركةً، في الوقت الّذي كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من الاستغراق في اللّهو، بحيث كانت مكّة والمدينة تشكّلان في ذلك الوقت عاصمتين لأهل الفسق والمجون، كما كانت تنتشر فيهما أيضاً مظاهر الزّهد والتصوّف. وفي ظلّ هذه الأجواء، عمل الإمام (ع) على إيجاد حالة من التّوازن الرّوحيّ بين المسلمين كي لا ينجرفوا خلف التيّارات المنحرفة، حيث أدخل في الجانب الرّوحيّ العناصر الإسلاميّة الثقافيّة على مستوى القيم الأخلاقيّة الثقافيّة والفكريّة، فعندما تقرأ الصّحيفة السجاديّة، تشعر بأنّك تدخل في مدرسة تربطك بالله، وتحرّك كلّ قيمك الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة وأنت بين يدي الله، وبهذه الحالة تتأصّل العقيدة الإسلاميّة وتتأصّل الخطة الإسلاميّة2.

ولقد جاء في سيرة الإمام (ع)، أنَّه كان يشتري العبيد والإماء ـ حيث كان نظام العبيد موجوداً في الواقع الإسلامي ـ ويحرّرهم بعد أن يتعهّدهم بالتربية والتوجيه، لينطلقوا إلى المجتمع مؤمنين صالحين، حيث يكون قد فقّههم ورفع من مستواهم، ثم يعتقهم في يوم الفطر بعد أن يغنيهم بما لا يحتاجون إلى النّاس...

ومما يُروى عنه (ع)، وقوفه إلى جانب المستضعفين والمحرومين الذين يأخذ بأيديهم نحو الحياة الكريمة، وليكفَّ وجوههم عن النّاس.. ومما جاء في صدقته، ما رويَ في الحلية عن الباقر (ع) أنّه، "كان يحمل جراب الخبز على ظهره باللّيل فيتصدّق به"3. وعن عائشة أيضاً أنَّها سمعت أهل المدينة يقولون: "مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بن الحسين (ع)"4...

وكان (ع) يردّد في دعائه: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ صُحْبَةَ الْفُقَرَاءِ"5، لأنَّهم الفئة الإنسانيّة التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة الإنسانيّة، ولأنَّهم لا يزالون يعيشون معنى القِيَم في كلِّ ما يتحرّكون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد أحسن (ع) إلى كلِّ مَن قصده بحاجته، أو رأى أنَّه بحاجة...

إنَّ الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يمثّل كلَّ الروحانيّة والزّهد والخوف من الله، كان القويَّ في موقفه أمام جميع الطغاة، كما كان القويَّ بالله، هذا ما يتضح لنا من خلال موقفه من عبد الملك بن مروان الذي بعث إلى الإمام رسالةً وطلب منه فيها أن يهب له سيف رسول الله (ص)، وعندما رفض الإمام (ع) طلب ابن مروان وأبى عليه، كتب إليه يهدِّده بأن يمنع عنه ما يستحقّه من بيت المال، فأجابه الإمام (ع): "أمّا بعد، فإنَّ الله أمّن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون {ومَن يتّقِ الله يجعلْ له مخرجاً}[الطّلاق: 2]، وقال جلَّ ذكره: {إنَّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ خوّان كفور}[الحجّ: 38] فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية"6.

ولم يركن (ع) إلى الظّالمين في عصره على الإطلاق، فيروي الزّهري أنَّه عندما حاول بعض أقربائه أن يأخذوا صدقات أمير المؤمنين عليّ (ع) في عهد الوليد بن عبد الملك، قيل له: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبةً، لكشف عنك ذلك وأعاد إليك حقَّك، وكان هو (ع) بمكّة والوليد فيها، فقال لمن أشار عليه بذلك: "ويحك، أفي حَرَمِ الله أسأل غيرَ الله عزَّ وجلَّ؟ إنّي آنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟!"7، وقال الزهري: لا جرم إنَّ الله عزَّ وجلَّ ألقى هيبته في قلب الوليد حتى حَكَم له...

إننا نرى أنَّ سيرة الإمام زين العابدين (ع) بحاجة إلى دراسة توثيقيّة واسعة تقف أمام كلِّ المفردات الّتي يحفل بها تاريخ هذا الإمام العظيم، لنستوحي منها أكثر من خطٍّ فكريّ وأخلاقيّ وروحيّ واجتماعيّ على مستوى النظريّة في النهج العام، ولتلتقي بالخطوط التفصيليّة في حركة السلوك العمليّ في هذه المسيرة على مستوى التطبيق، لتجد الإنسان تجسيداً للقيمة الروحيّة المثلى، ولتكتشف في عمق هذه القيمة وامتدادها عمق الإنسان وامتداد أبعاده في السرِّ الكامن في الفكر والعقل والرّوح في مداها الواسع8 ...

[1]من كتاب "النّدوة"، ج 2.

[2]من كتاب "النّدوة"، ج 10.

[3]بحار الأنوار: ج 36، ص 88.

[4]المصدر نفسه.

[5]من دعائه (ع) في طلب المعونة على قضاء الدّين.

[6]بحار الأنوار، ج 46، ص 97.

[7]المصدر نفسه، ج42، ص 76.

[8]من كتاب "في رحاب أهل البيت"، ج 2.

كان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) الإنسان الصّامد إزاء مأساة كربلاء بالرغم من كلّ قساوتها...1وعاش [بعدها] مسؤوليّته في مستوى الظّروف التي كانت تحيط به، فانطلق ليكون أستاذاً للثقافة الإسلاميَّة آنذاك، وهذا ما نقرأه من خلال الرّواة الذين رووا عنه، ومن خلال تنوّع الأحاديث التي رويت عنه، بما يتّصل بعلم الكلام أو علم الفقه أو الأخلاقيّات أو الجوانب الاجتماعيّة والحركيّة، وما إلى ذلك، بحيث إنّنا عندما نقرأ الإمام زين العابدين (ع)، فإنّنا نقرأ علماً وفكراً وحركةً، في الوقت الّذي كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من الاستغراق في اللّهو، بحيث كانت مكّة والمدينة تشكّلان في ذلك الوقت عاصمتين لأهل الفسق والمجون، كما كانت تنتشر فيهما أيضاً مظاهر الزّهد والتصوّف. وفي ظلّ هذه الأجواء، عمل الإمام (ع) على إيجاد حالة من التّوازن الرّوحيّ بين المسلمين كي لا ينجرفوا خلف التيّارات المنحرفة، حيث أدخل في الجانب الرّوحيّ العناصر الإسلاميّة الثقافيّة على مستوى القيم الأخلاقيّة الثقافيّة والفكريّة، فعندما تقرأ الصّحيفة السجاديّة، تشعر بأنّك تدخل في مدرسة تربطك بالله، وتحرّك كلّ قيمك الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة وأنت بين يدي الله، وبهذه الحالة تتأصّل العقيدة الإسلاميّة وتتأصّل الخطة الإسلاميّة2.

ولقد جاء في سيرة الإمام (ع)، أنَّه كان يشتري العبيد والإماء ـ حيث كان نظام العبيد موجوداً في الواقع الإسلامي ـ ويحرّرهم بعد أن يتعهّدهم بالتربية والتوجيه، لينطلقوا إلى المجتمع مؤمنين صالحين، حيث يكون قد فقّههم ورفع من مستواهم، ثم يعتقهم في يوم الفطر بعد أن يغنيهم بما لا يحتاجون إلى النّاس...

ومما يُروى عنه (ع)، وقوفه إلى جانب المستضعفين والمحرومين الذين يأخذ بأيديهم نحو الحياة الكريمة، وليكفَّ وجوههم عن النّاس.. ومما جاء في صدقته، ما رويَ في الحلية عن الباقر (ع) أنّه، "كان يحمل جراب الخبز على ظهره باللّيل فيتصدّق به"3. وعن عائشة أيضاً أنَّها سمعت أهل المدينة يقولون: "مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بن الحسين (ع)"4...

وكان (ع) يردّد في دعائه: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ صُحْبَةَ الْفُقَرَاءِ"5، لأنَّهم الفئة الإنسانيّة التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة الإنسانيّة، ولأنَّهم لا يزالون يعيشون معنى القِيَم في كلِّ ما يتحرّكون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد أحسن (ع) إلى كلِّ مَن قصده بحاجته، أو رأى أنَّه بحاجة...

إنَّ الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يمثّل كلَّ الروحانيّة والزّهد والخوف من الله، كان القويَّ في موقفه أمام جميع الطغاة، كما كان القويَّ بالله، هذا ما يتضح لنا من خلال موقفه من عبد الملك بن مروان الذي بعث إلى الإمام رسالةً وطلب منه فيها أن يهب له سيف رسول الله (ص)، وعندما رفض الإمام (ع) طلب ابن مروان وأبى عليه، كتب إليه يهدِّده بأن يمنع عنه ما يستحقّه من بيت المال، فأجابه الإمام (ع): "أمّا بعد، فإنَّ الله أمّن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون {ومَن يتّقِ الله يجعلْ له مخرجاً}[الطّلاق: 2]، وقال جلَّ ذكره: {إنَّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ خوّان كفور}[الحجّ: 38] فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية"6.

ولم يركن (ع) إلى الظّالمين في عصره على الإطلاق، فيروي الزّهري أنَّه عندما حاول بعض أقربائه أن يأخذوا صدقات أمير المؤمنين عليّ (ع) في عهد الوليد بن عبد الملك، قيل له: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبةً، لكشف عنك ذلك وأعاد إليك حقَّك، وكان هو (ع) بمكّة والوليد فيها، فقال لمن أشار عليه بذلك: "ويحك، أفي حَرَمِ الله أسأل غيرَ الله عزَّ وجلَّ؟ إنّي آنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟!"7، وقال الزهري: لا جرم إنَّ الله عزَّ وجلَّ ألقى هيبته في قلب الوليد حتى حَكَم له...

إننا نرى أنَّ سيرة الإمام زين العابدين (ع) بحاجة إلى دراسة توثيقيّة واسعة تقف أمام كلِّ المفردات الّتي يحفل بها تاريخ هذا الإمام العظيم، لنستوحي منها أكثر من خطٍّ فكريّ وأخلاقيّ وروحيّ واجتماعيّ على مستوى النظريّة في النهج العام، ولتلتقي بالخطوط التفصيليّة في حركة السلوك العمليّ في هذه المسيرة على مستوى التطبيق، لتجد الإنسان تجسيداً للقيمة الروحيّة المثلى، ولتكتشف في عمق هذه القيمة وامتدادها عمق الإنسان وامتداد أبعاده في السرِّ الكامن في الفكر والعقل والرّوح في مداها الواسع8 ...

[1]من كتاب "النّدوة"، ج 2.

[2]من كتاب "النّدوة"، ج 10.

[3]بحار الأنوار: ج 36، ص 88.

[4]المصدر نفسه.

[5]من دعائه (ع) في طلب المعونة على قضاء الدّين.

[6]بحار الأنوار، ج 46، ص 97.

[7]المصدر نفسه، ج42، ص 76.

[8]من كتاب "في رحاب أهل البيت"، ج 2.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير