التَّكافلُ الاجتماعيُّ بالإنفاقِ الواجبِ والمستحبِّ

التَّكافلُ الاجتماعيُّ بالإنفاقِ الواجبِ والمستحبِّ

قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الشّورى: 38].

الإنفاقُ في سبيلِ الله

إنَّ صفة الإنفاق في سبيل الله، هي من الصفات الَّتي جعلها الله أساساً للقرب إليه، وأساساً للوصول إلى رحمته، لأنَّ الله يحدّثنا أنّ ما عنده خير وأبقى للمؤمنين المتوكِّلين على الله، الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والّذين يذكرون الله إذا غضبوا، والذين يستجيبون لربهم ويقيمون الصَّلاة وأمرهم شورى بينهم، والّذين ينفقون مما رزقهم الله.

هذه الصفة هي من الصّفات الأساسيّة التي يريد الله للمؤمن أن يتَّصف بها ويمارسها في الحياة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للحياة أن تعيش على أساس التَّكافل الاجتماعيّ، بمعنى أن يشعر المجتمع بأنَّه مسؤول بعضه عن بعض، لا أن يشعر كلّ واحد من الناس بأنه يمثّل شخصية مالية منفصلة عن الآخرين، بل أن يشعر بأنَّ شخصيَّته الماليَّة وغير الماليَّة مرتبطة بالآخرين.

فإذا كنت تملك مالاً، وكان الله قد وسَّع عليك في مالك، ورأيت أنَّ هناك من يحتاج إلى مالك في المجتمع، فإنَّ الله قد كلَّفك بأن تنفق من هذا المال، وعندما تنفق من مالك، فأنت لا تنفق من مالك الشخصيّ، لأنَّ مالك هو الَّذي رزقك الله إيَّاه، فأنت تنفق مما رزقك الله. ولهذا، قال الله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، أي أنَّنا أعطيناهم هذا المال، وكلَّفناهم بأن ينفقوا منه على أنفسهم وعلى عيالهم وعلى الآخرين أيضاً الذين يحتاجون إلى الإنفاق.

إنفاقاتٌ واجبةٌ

ونحن نعلم أنَّ هناك من الإنفاقات الَّتي كلَّف الله النَّاس بها، إنفاقات واجبة وإنفاقات مستحبّة، فمن الإنفاقات الواجبة، الضَّرائب الشرعيّة، كالزكاة والخمس، وما إلى ذلك من الأمور، مثل الكفَّارات الَّتي أوجبها الله على الإنسان. والَّذي لا يدفع الزكاة عندما تجب عليه، يعتبر إنساناً سارقاً في الإسلام، والإنسان الَّذي لا يدفع الخمس عندما يجب عليه، يعتبر إنساناً غاصباً في الإسلام، لأنَّ الحديث الوارد عن أئمَّة أهل البيت (ع) يقول: "إنَّ الله عزّ وجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو علم أنَّ الذي فرض لهم لم يكفهم، لزادهم"1.

ولهذا، يريد الله من الإنسان أن يشعر بأنَّ الواجبات الماليَّة بالنِّسبة إليه تماماً كالواجبات العباديَّة.. كيف بك إذا تركت الصَّلاة أو الصَّوم أو الحجَّ؟ كذلك إذا تركت الزكاة حيث تجب عليك، وإذا تركت الخمس حيث يجب عليك، فإنَّك تكون تماماً قد تركت واجباً أساسياً من الواجبات.

وأكثر من هذا، الإنسان الَّذي يكون ماله متعلَّقاً للخمس أو للزكاة، لا يجوز له التصرّف في ماله، لأنَّ ماله ليس له، وإنما هو شركة بينه وبين الفقراء... الثَّوب الّذي تصلّي به، إذا لم يكن من مالٍ مخمَّسٍ، أو إذا كان متعلَّقاً للخمس، لا يجوز لك أن تصلِّي به، فهو بمنزلةِ الثَّوبِ المغصوبِ، تماماً كما لو أنَّك سرقْتَ ثوباً من إنسانٍ ولبسْتَه وصلَّيْت به، فالثَّوب الّذي تصلِّي به، إذا كان متعلَّقاً للخمس، ولم تدفع الخمس الّذي يجب عليك، يعتبر ثوباً مغصوباً، ولا يجوز الصَّلاة بالثَّوب المغصوب.

وهكذا مالك، إذا فرضنا أنَّه كان فيه خمس، لا يجوز أن تتاجر به، لأنَّك بهذه الحالة كأنّك تتاجر بمالك ومال غيرك، كما لو أنَّ أحداً وضع عندك أمانة، فاستخدمتها دون رضا صاحبها، الأمر ذاته في هذا المجال.

بالنّسبة إلى موضوع الخمس والزكاة، هو واجبٌ، فمقدار الخمس ليس ملكك أنت، فالله يقول لك إنَّ هناك من كلّ خمسة مما يفضل من مؤنة سنتك، واحداً ليس لك، كلّ واحد من خمسة ليس لك، بل للفقراء الَّذين فرض الله عليك المال تجاههم.

الصَّدقات المستحبَّة

هذه بالنِّسبة إلى الواجبات، وهناك صدقات مستحبَّة، فلو فرضنا ليس عليه خمس، ولكنَّه رأى هناك حالات معيَّنة في المجتمع؛ هناك أيتام، مساكين، مرضى، أشخاص يحتاجون إلى الإعانة... والله منعم عليه في هذا المجال، فليس بالضَّرورة أن يدفع الإنسان فقط ما هم مرغم على دفعه، بل يدفع لأجل أن يحصل على رضا الله سبحانه وتعالى.

بعض النَّاس يدفعون لكي يرضى عنهم هذا الزّعيم وذاك، وهكذا بعض النَّاس يدفعون لمن يحبّون؛ أنت تدفع لزوجتك، وتدفع لولدك، غير الإنفاقات الواجبة عليك، وتدفع لمن حولك ممن تحبّ، فلماذا لا تدفع لله سبحانه وتعالى؟! أنت تحبّ زوجتك أكثر من الله، وتحبّ ولدك أكثر من الله، وتحبّ أخاك أكثر من الله، لأنَّ الله يقول لك أعطني، فتقول له اسمح لي، عندي عائلة وأطفال، والله سبحانه وتعالى يطلب منك {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[البقرة: 245]، الله يقول لك أنا لست بحاجة إليك، ولكن أقرضني قرضاً فأحفظه لك يوم القيامة، فنحن المحتاجون إلى الله، والله غنيّ عنا...

البعض يرفض باعتبار أنَّ عنده أزمات ماليَّة ومشاكل، وهكذا، فبعض الأغنياء كلّ تفكيرهم وعواطفهم، في اللَّيل وفي النَّهار، في المال، هؤلاء يقول الإمام عليّ (سلام الله عليه) عنهم: "إنَّ أعظمَ الحسراتِ يومَ القيامةِ، حسرةُ رجلٍ كسبَ مالا في غيرِ طاعةِ اللهِ، فورثَهُ رجلٌ، فأنفقَهُ في طاعةِ اللهِ سبحانَه، فدخلَ به الجنّةَ ودخلَ الأوّلُ به النارَ"2.

بعض الناس يتعبون في جمع المال، وليسوا مستعدّين لأن يدفعوا حقوقاً وصدقات، وأن يتقرَّبوا إلى الله، ثمّ يورّثون هذا المال لإنسانٍ ينفق ويعمل به الخير، فهذا الشَّخص يدخل بالمال الجنَّة، والَّذي شقي به يدخل به النَّار. هذا أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة.

بعض النَّاس لا يفكِّرون في ذلك، ففي الصَّدقات المستحبَّة، أنت تتصدَّق لكي تحتفظ بما عند الله، أنت تتصدَّق لأنَّ الله يحبُّ الصَّدقة.

القرضُ إنفاقٌ مستحبّ

أيضاً، من الإنفاقات المستحبَّة في الإسلام، القرض. إذا جاءك شخصٌ ضاقت عليه الدّنيا، ولا يريد صدقةً، بل يريد أن تقرضه من مالك لييسِّر أموره، وأنت مدَّخر بعض الأموال ولا تحتاجهم حاليّاً، وأنت تعرف أنَّ هذا الإنسان وفي ويردّ دينه، ففي هذه الحال، أغلب الناس لا يقرضون، ومن يقرض يفكِّر ماذا يأخذ في مقابل هذا.

أغلب النَّاس هكذا، ومنهم المؤمنون المصلّون الحاجّون المعتمرون، عندما يأتي إليهم شخص مؤمن يريد قرضاً، كأنَّما أسقطت عليه غيمة سوداء، والله سبحانه وتعالى، يقول، كما بيّنَّا مراراً: "القرض بثمانية عشر"3. يعني لو فرضنا أنَّك أقرضت إنساناً، بحيث أعطيته مئة ليرة، فإنَّ فائدتها عند الله سبحانه وتعالى ألف وثمانمائة ليرة... فإذا جاء شخص وقال لك أعطني مئة ليرة وأردّها إليك ألفاً وثمانمائة ليرة، فهل هناك من يمتنع؟ ليس هناك من يمتنع، لأنّ هذه ليرات دنيويّة وليست ليرات أخرويّة، وهذا يعني أنّ حسابات الله غير موجودة عند البعض...

هذا دليلٌ على نقصانِ إيمانِنا، ومعناه أنَّنا لا نثقُ بالله ولا بما عندَ الله، فإذا كنت تؤمن بالآخرة، أليست الآخرة بحاجة إلى رصيد؟! فالله يقول لك: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]، ويقول لك: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[البقرة: 245]، ومع ذلك، لا يتحرَّك قلبك، ولا فكرك، ولا حياتك على أساس نداءات الله لك، فمعنى ذلك أنَّك لا تشعر بأهميّة الله في حياتك، ولا تشعر بأهميّة الدار الآخرة {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع}[الكهف: 103- 104]، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]، {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمَّد: 38].

أنت إذا لم تعط الفقير أو المحتاج، فسيهيِّئ له الله عطاءً من غيرك، لكنَّك تكون قد خسرت فرصة أن تنال رضا الله سبحانه، وأن تبعث حوالة بيد هذا الفقير إلى الدَّار الآخرة حتى يكون عندك رصيد. الله يقول: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ}[البقرة: 110].

استحبابُ الإعارة

ومن الإنفاقات المستحبَّة أيضاً، الإعارة؛ عندك جيران، مثلاً، يحتاجون إلى كراسي من عندك، طناجر، صحون، إلى سجَّاد... عادةً، قد تصير عند الجيران حالات طارئة، فيحتاج بعضهم إلى بعض.. ورد عن أحد أئمَّة أهل البيت (ع) في تفسير قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذَّاريات: 19]، قال له شخص: هل هناك حقّ غير الزكاة؟ قال له: "نعم، هو في القرض يقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يعيره"4. يعني هذا استحباب مؤكَّد.

فالله يريد منا التَّكافل الاجتماعي في هذا المجال، أنت الآن بدل أن يستأجر جارك كراسي وأنت عندك كراسي، وفّر عليه، وهكذا، كما يحتاجك جارك اليوم قد تحتاج إلى جارك غداً. والحياة يراد لها في الإسلام أن تكون مظهراً للتكافل الاجتماعي، أن يشعر كلُّ إنسان بآلام غيره وبمشاكل غيره. هذه الحياة الاجتماعيَّة الَّتي تخلو من الأنانيَّة: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]، يعني من يوق حالة البخل في نفسه، فهو من المفلحين.

فإذاً، الجنَّة لا يكفي لها أن نصلِّي ونصوم {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الشّورى: 36 – 38].. لا يكفي الصَّلاة والحجّ إذا لم تكن نفسك مفتوحة ويدك مفتوحة، وهذا لا يعني أن تعطي كلَّ ما عندك صدقة، بل أن تعطي مقداراً وتترك لنفسك مقداراً، كما فسَّر الإمام الصَّادق (ع) الآية: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُور}[الإسراء: 29]، لا أن تربط يديك في رقبتك، ولا أن تبسطها كلَّ البسط بحيث لا يبقى معك شيء، بل إنّ من المكروه أن يتصدَّق الإنسان بكلّ ماله ويترك أطفاله.

ردُّ الظّلمِ والعدوانِ

هذه صفة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. الصِّفة الأخرى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}[الشّورى: 39].

الإنسان المسلم والمؤمن، والإنسان الَّذي يحبَّه الله، هو الإنسان الّذي لا يشعر بالضّعف والانهزام أمام سطوة البغي والظّلم والعدوان...

فالإنسان المؤمن لا يشعر بالرّضوخ للظّلم، ولا يشعر بالسقوط أمام الظّالم، ولا يشعر بالهزيمة النفسيَّة والانسحاق النفسيّ، بل إنَّ الإنسان المؤمن إذا أصابه البغي والظّلم والعدوان، يكون موقفه موقف الانتصار لنفسه ولأمَّته ولدينه والانتصار لقضاياه.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}. البغي هو العدوان والظّلم.. المؤمن هو القويّ، المؤمن هو المنتصر، هو الَّذي يشعر بأنَّ من واجبه أن يقف ضدَّ البغي وينتصر عليه ولو بعد حين، فالمؤمن لا يشعر بالانسحاق والانسحاب من السَّاحة، يظلّ في السَّاحة، ولكن يبقى في المجال الَّذي يحقِّق له الانتصار، فإذا لم يتحقَّق الانتصار اليوم، فعليه أن يهيِّئ للانتصار غداً، وإن لم يتحقَّق غداً، فعليه أن يهيّئ الانتصار لبعد غد...

لأنَّ المؤمنين إذا تركوا البغي والعدوان في أيّ صورة من صوره، وتركوه يتقدَّم ويفرض نفسه على الساحة، فإنَّ الحياة تكون ساحة مفتوحة للظّلم وللبغي، والله لا يريد للحياة أن تبقى ساحة مفتوحة للظلم وللبغي وللعدوان، ولكنه يريد للظالمين والباغين والطغاة والمعتدين أن يشعروا بأنَّ هناك قوّة تقف أمامهم من موقع المسؤوليَّة، لا من موقع الحالات الانفعاليَّة الطَّارئة.

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ}[الشّورى: 40]. فإذا انتصر الإنسان لنفسه، فإنَّ عليه أن لا ينتصر لنفسه بأكثر مما فرض الله له.

الردُّ بالمثلِ

عندما أراد الله لك أن تردَّ العدوان، وأن تردَّ السيَّئة بمثلها، أراد لك أن تردَّها مماثلة، لا تزيد على ما اعتدي عليك. ففي أكثر من آية يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}[النَّحل: 126]، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ...}[البقرة: 194]، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}[الشّورى: 40].

يعني عندما يكون لك الحقُّ في أن تنتصر لنفسِك، وعندما تكون لك المقدرة في الانتصار، فإذا رأيت صلاحاً في العفو، فإنّ بإمكانك أن تعفو، والله يعطيك الأجر الكبير الَّذي لا حساب له.

هذا في الحالات الشخصيَّة، الحالات الاجتماعيَّة، يعني مشاكل النَّاس بعضهم ببعض، فهذا له حساب. أمَّا في حالة العدوان الَّذي ينطلق على الأمَّة وعلى الدِّين وعلى المجتمع، فهذا له حسابٌ آخر {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}.. فعندما يكون هناك عدوان من الظّالمين والطّغاة من الفئات الَّتي تريد أن تهزم الأمَّة وتهزم عزَّتها وكرامتها، هنا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}...

في العلاقات الإنسانيّة؛ زوج أساءت إليه زوجته، وبالعكس، أخ أساء إليه أخوه، جار أساء إليه جاره، قريب أساء إليه قريبه، هنا {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ} أي مماثلة، أن لا تقتصّ لنفسك بأكثرَ مما اعتُدِيَ عليك.

أنا ذكرت سابقاً، أنَّ على الإنسان أن يواجه القضايا بشكل هادئ، حتى عندما تكون أعصابه في أقصى درجات التوتّر، فالإنسان المتشرّع الذي يقف عند حكم الله، هو الإنسان الَّذي يهدِّئه حكم الله، أن تكون أعصابنا منسجمةً مع حكم الله سبحانه وتعالى.. لا يمكن أن تتوتَّر أعصابك بحيث تنسى حكم الله وتنسى طاعة الله، لا تستطيع أن تتصرَّف بطريقة حرَّة غير منضبطة.. عندما تستحضر قدرتك على الآخرين، تذكَّر قدرة الله عليك.

قصَّة عليٍّ (ع) مع الخارجيّ

الإمام عليّ (سلام الله عليه) كان جالساً ذات يوم مع أصحابه، وكان معهم رجل من الخوارج الَّذين حاربوا الإمام وحاربهم، فمرَّت أمرأه جميلة - وهذا الحديث موجود في "نهج البلاغة" - فرمقها القوم بأبصارهم، فكيف واجه الإمام (ع) الموقف؟ قال لهم: "إنَّ أبصار هذه الفحول – يعبِّر عن الرّجال الَّذين يعيشون حالة الغريزة بشكل غير هادئ - طوامح – تطمح إلى ما عند غيرها في المال وفي الغريزة وفي غير ذلك - وإنَّ ذلك سبب هَبابها – انحرافها - فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه - أي إذا وجد في نفسه حالة شهوة، أو أي حالة غريزيّة عندما يرى امرأةً أجنبيَّةً عنه - فليلامس أهله، فإنَّما هي امرأة كامرأة"، أي أن لا يعيش الأجواء الخياليَّة، ولكنّ الإنسان يغذّي الغريزة من الخيال ومن الأجواء غير الواقعيَّة، ما يجعله ينطلق بعيداً من حاجته الطبيعيَّة وأكثر، وينحرف شرعيّاً. فقال الرَّجل الخارجيّ بعد أن أعجبته الكلمة: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!".

الآن، أيّ أحد من عندنا، صغيراً كان أو كبيراً، يأتي أحد ويقول أمامه لعالمٍ أو زعيمٍ أو رئيسٍ: أنت كافر ولكنّك تفهم، بحسب عقليَّتنا، ألا نقطِّعه إرباً إرباً؟ نفعل ذلك ونقول هذا نصرة للدِّين وللإسلام ويجب أن يقتل ويقطَّع؟! لأنَّ عقليَّتنا لم تتربَّ على الحكم الشرعيّ، بل على العصبيّة والانفعال والذاتيَّة والأنانيَّة، أمَّا الإمام (ع)، فقد تربَّى على الحكم الشرعيّ منذ أن كان عمره عشر سنوات، فما دام الأمرُ أمرَ الله، فليس عنده مشكلة وينتهي الموضوع عنده، فالإمام ليس بينه وبين أن يرمي نفسه في قلب الموت، إلَّا أن يعرف أنَّ في ذلك لله رضا. فالقضيّة عنده قضيّة حقّ.

بعض الكلمات نأخذها بشكل مضخَّم من دون وعي، هل هناك أحد يقول أنا لست مع الحقّ؟ لكن كم نخالف الحكم الشَّرعيّ؟! كم نرتكب من المحرَّمات، وكم نترك من الواجبات، ومع ذلك نقول: "أنا إنسان حقّاوي"... لا لست حقّاويّاً، لأنّ الحقاوي هو الذي لا يترك شيئاً من الحقّ...

فالإمام عليّ (ع) تربَّى على الإيمان، يقول: "وثب إليه القوم ليقتلوه" أخذتهم الغيرة، فقال الإمام (ع) بكلّ وداعة: "رويداً"، لماذا ثارت أعصابكم؟ فنحن عندنا قانون، ونحن لا نحكم بشريعة الغاب، ولسنا كالظَّالمين الطُّغاة البغاة الّذين إذا ارتفعوا إلى كرسيِّ المسؤوليَّة، حكموا النَّاس بمزاجهم، وسيَّروا القانون لحسابهم، وقد قال رسول الله (ص): "إنَّما أهلك الَّذين قبلَكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ...".

"رويداً إنَّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب"5... هذه الآية طبَّقها الإمام (ع) على نفسه: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُه} سبٌّ بسبٍّ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أو عفو عن ذنب، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشّورى: 40]. فالله كما يقول لك إنَّ لك أن تنتصر على ظالمك، يقول لك لا تظلم ظالمك، لأنَّك إذا أخذْتَ أكثرَ من حقِّك، فقد ظلمْتَه.

ما هو الظّلم؟ هو أن تتصرَّف تصرّفاً ليس من حقّك، فالله لا يحبّ الإنسان الذي يعتدي على الآخر بغير حقّ، أمّا الإنسان الذي يأخذ بحقّه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}[الشّورى: 41] الإنسان الَّذي ينتصر بعدما ظُلِم، ليس عليه سبيل...

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشّورى: 42]، هذه مسؤوليَّة على الَّذي يظلم النَّاس؛ يستخدم قوَّته، ماله، جاهه، ويستخدم عضلاته، يستخدم كلّ ذلك في ظلم النَّاس والاعتداء عليهم.

العدالةُ أوّلاً

الإسلام يبدأ من العدالة في الدَّاخل، الآن كلّنا نطالب بالعدالة؛ بالدّولة العادلة، بالمجتمع العادل... لكن قبل كلّ شيء، نحتاج إلى الفرد العادل، الّذي يفرز المجتمع العادل، والمجتمع العادل هو الذي يفرز الدَّولة العادلة، لأنّه "كما تكونون يولَّى عليكم".

القانون مهما كان صلباً وصعباً، لا يحمي نفسه إذا لم يكن هناك أشخاصٌ يعيشون روحيَّةَ القانونِ ومسؤوليَّتَه، تستطيع أنت أن تغربل القانون وتنخله وتجد فيه عشرين ثغرة، أليس عندنا في القضايا محام يتولَّى شؤون الدِّفاع ومحام يتولَّى شؤون الاتّهام؟! هذا يأتي بمادّة قانونيّة تدين ذاك الشّخص، وذاك يقدِّم مادة قانونيّة تبرّئه... لماذا؟ لأنّ القانون لا يستطيع أن يحمي نفسه، القانون نفوس وكلمات وموادّ، وكلّ إنسان يملك حريَّة الحركة في إطار تنفيذ القانون، يستطيع أن يلعب بالقانون كما يشاء.

لهذا، اهتمَّ الإسلام بالإنسان القانونيّ.. لماذا نردِّد دائماً: "الصَّلاة عمود الدّين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن رُدَّتْ رُدَّ ما سواها"، لماذا؟ الإسلام الَّذي هو هذا الدّين العظيم، والّذي يتضمَّن قوانين الحياة كلّها، كيف تكون الصّلاة هي عموده؟ ولماذا؟ لأنَّ الصَّلاة عندما تكون صلاة حقيقيّة، تجعل منك إنساناً يخاف الله، وتجعل منك إنساناً يحبُّ الله ويتَّقي الله، وإذا حصلْتَ على تقوى الله، فإنَّ معنى ذلك أنَّك ستكون منضبطاً بكلِّ جوانب حياتك القانونيَّة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}[النّساء: 1]، {وتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197]... لماذا كلّ هذه الآيات الّتي تدعو إلى التّقوى؟ لأنَّ الله يريد أن يركِّز الشخصيَّة التي تعيش الخوف من الله والمحبَّة لله، ليحقِّق لها ذلك الانضباط أمام كلِّ أوامر الله ونواهيه.

فالمهمّ أن يكون عندنا الشخصيَّة الإسلاميَّة العادلة الَّتي لا تتحرَّك إلَّا من خلال أمر الله، حتَّى لو كانت أعصابها في أقصى درجات التوتّر، ولا تقف إلَّا من خلال أمر الله ونهيه.

هذا هو الَّذي يريحنا في الدّنيا ويريحنا في الآخرة، أمَّا حالات العصبيَّة والأنانيّة والانفعال، فهذه الحالات تتعبنا في الدّنيا وتتعبنا في الآخرة.

فمن يفكّر في الراحة في الدنيا والآخرة، فإنَّ عليه أن يفكِّر أن يكون مسلماً كما يريده الله سبحانه وتعالى.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*محاضرة لسماحته بتاريخ: 12/ 5/ 1983م.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج93، ص 21.

[2]ميزان الحكمة، محمّد الرّيشهري، ج4، ص 220.

[3]ميزان الحكمة، ج3، ص 699.

[4]رياض السّالكين، السيّد علي خان المدني الشّيرازي، ج6، ص 57.

[5]نهج البلاغة، ج4، ص 99.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الشّورى: 38].

الإنفاقُ في سبيلِ الله

إنَّ صفة الإنفاق في سبيل الله، هي من الصفات الَّتي جعلها الله أساساً للقرب إليه، وأساساً للوصول إلى رحمته، لأنَّ الله يحدّثنا أنّ ما عنده خير وأبقى للمؤمنين المتوكِّلين على الله، الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والّذين يذكرون الله إذا غضبوا، والذين يستجيبون لربهم ويقيمون الصَّلاة وأمرهم شورى بينهم، والّذين ينفقون مما رزقهم الله.

هذه الصفة هي من الصّفات الأساسيّة التي يريد الله للمؤمن أن يتَّصف بها ويمارسها في الحياة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للحياة أن تعيش على أساس التَّكافل الاجتماعيّ، بمعنى أن يشعر المجتمع بأنَّه مسؤول بعضه عن بعض، لا أن يشعر كلّ واحد من الناس بأنه يمثّل شخصية مالية منفصلة عن الآخرين، بل أن يشعر بأنَّ شخصيَّته الماليَّة وغير الماليَّة مرتبطة بالآخرين.

فإذا كنت تملك مالاً، وكان الله قد وسَّع عليك في مالك، ورأيت أنَّ هناك من يحتاج إلى مالك في المجتمع، فإنَّ الله قد كلَّفك بأن تنفق من هذا المال، وعندما تنفق من مالك، فأنت لا تنفق من مالك الشخصيّ، لأنَّ مالك هو الَّذي رزقك الله إيَّاه، فأنت تنفق مما رزقك الله. ولهذا، قال الله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، أي أنَّنا أعطيناهم هذا المال، وكلَّفناهم بأن ينفقوا منه على أنفسهم وعلى عيالهم وعلى الآخرين أيضاً الذين يحتاجون إلى الإنفاق.

إنفاقاتٌ واجبةٌ

ونحن نعلم أنَّ هناك من الإنفاقات الَّتي كلَّف الله النَّاس بها، إنفاقات واجبة وإنفاقات مستحبّة، فمن الإنفاقات الواجبة، الضَّرائب الشرعيّة، كالزكاة والخمس، وما إلى ذلك من الأمور، مثل الكفَّارات الَّتي أوجبها الله على الإنسان. والَّذي لا يدفع الزكاة عندما تجب عليه، يعتبر إنساناً سارقاً في الإسلام، والإنسان الَّذي لا يدفع الخمس عندما يجب عليه، يعتبر إنساناً غاصباً في الإسلام، لأنَّ الحديث الوارد عن أئمَّة أهل البيت (ع) يقول: "إنَّ الله عزّ وجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو علم أنَّ الذي فرض لهم لم يكفهم، لزادهم"1.

ولهذا، يريد الله من الإنسان أن يشعر بأنَّ الواجبات الماليَّة بالنِّسبة إليه تماماً كالواجبات العباديَّة.. كيف بك إذا تركت الصَّلاة أو الصَّوم أو الحجَّ؟ كذلك إذا تركت الزكاة حيث تجب عليك، وإذا تركت الخمس حيث يجب عليك، فإنَّك تكون تماماً قد تركت واجباً أساسياً من الواجبات.

وأكثر من هذا، الإنسان الَّذي يكون ماله متعلَّقاً للخمس أو للزكاة، لا يجوز له التصرّف في ماله، لأنَّ ماله ليس له، وإنما هو شركة بينه وبين الفقراء... الثَّوب الّذي تصلّي به، إذا لم يكن من مالٍ مخمَّسٍ، أو إذا كان متعلَّقاً للخمس، لا يجوز لك أن تصلِّي به، فهو بمنزلةِ الثَّوبِ المغصوبِ، تماماً كما لو أنَّك سرقْتَ ثوباً من إنسانٍ ولبسْتَه وصلَّيْت به، فالثَّوب الّذي تصلِّي به، إذا كان متعلَّقاً للخمس، ولم تدفع الخمس الّذي يجب عليك، يعتبر ثوباً مغصوباً، ولا يجوز الصَّلاة بالثَّوب المغصوب.

وهكذا مالك، إذا فرضنا أنَّه كان فيه خمس، لا يجوز أن تتاجر به، لأنَّك بهذه الحالة كأنّك تتاجر بمالك ومال غيرك، كما لو أنَّ أحداً وضع عندك أمانة، فاستخدمتها دون رضا صاحبها، الأمر ذاته في هذا المجال.

بالنّسبة إلى موضوع الخمس والزكاة، هو واجبٌ، فمقدار الخمس ليس ملكك أنت، فالله يقول لك إنَّ هناك من كلّ خمسة مما يفضل من مؤنة سنتك، واحداً ليس لك، كلّ واحد من خمسة ليس لك، بل للفقراء الَّذين فرض الله عليك المال تجاههم.

الصَّدقات المستحبَّة

هذه بالنِّسبة إلى الواجبات، وهناك صدقات مستحبَّة، فلو فرضنا ليس عليه خمس، ولكنَّه رأى هناك حالات معيَّنة في المجتمع؛ هناك أيتام، مساكين، مرضى، أشخاص يحتاجون إلى الإعانة... والله منعم عليه في هذا المجال، فليس بالضَّرورة أن يدفع الإنسان فقط ما هم مرغم على دفعه، بل يدفع لأجل أن يحصل على رضا الله سبحانه وتعالى.

بعض النَّاس يدفعون لكي يرضى عنهم هذا الزّعيم وذاك، وهكذا بعض النَّاس يدفعون لمن يحبّون؛ أنت تدفع لزوجتك، وتدفع لولدك، غير الإنفاقات الواجبة عليك، وتدفع لمن حولك ممن تحبّ، فلماذا لا تدفع لله سبحانه وتعالى؟! أنت تحبّ زوجتك أكثر من الله، وتحبّ ولدك أكثر من الله، وتحبّ أخاك أكثر من الله، لأنَّ الله يقول لك أعطني، فتقول له اسمح لي، عندي عائلة وأطفال، والله سبحانه وتعالى يطلب منك {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[البقرة: 245]، الله يقول لك أنا لست بحاجة إليك، ولكن أقرضني قرضاً فأحفظه لك يوم القيامة، فنحن المحتاجون إلى الله، والله غنيّ عنا...

البعض يرفض باعتبار أنَّ عنده أزمات ماليَّة ومشاكل، وهكذا، فبعض الأغنياء كلّ تفكيرهم وعواطفهم، في اللَّيل وفي النَّهار، في المال، هؤلاء يقول الإمام عليّ (سلام الله عليه) عنهم: "إنَّ أعظمَ الحسراتِ يومَ القيامةِ، حسرةُ رجلٍ كسبَ مالا في غيرِ طاعةِ اللهِ، فورثَهُ رجلٌ، فأنفقَهُ في طاعةِ اللهِ سبحانَه، فدخلَ به الجنّةَ ودخلَ الأوّلُ به النارَ"2.

بعض الناس يتعبون في جمع المال، وليسوا مستعدّين لأن يدفعوا حقوقاً وصدقات، وأن يتقرَّبوا إلى الله، ثمّ يورّثون هذا المال لإنسانٍ ينفق ويعمل به الخير، فهذا الشَّخص يدخل بالمال الجنَّة، والَّذي شقي به يدخل به النَّار. هذا أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة.

بعض النَّاس لا يفكِّرون في ذلك، ففي الصَّدقات المستحبَّة، أنت تتصدَّق لكي تحتفظ بما عند الله، أنت تتصدَّق لأنَّ الله يحبُّ الصَّدقة.

القرضُ إنفاقٌ مستحبّ

أيضاً، من الإنفاقات المستحبَّة في الإسلام، القرض. إذا جاءك شخصٌ ضاقت عليه الدّنيا، ولا يريد صدقةً، بل يريد أن تقرضه من مالك لييسِّر أموره، وأنت مدَّخر بعض الأموال ولا تحتاجهم حاليّاً، وأنت تعرف أنَّ هذا الإنسان وفي ويردّ دينه، ففي هذه الحال، أغلب الناس لا يقرضون، ومن يقرض يفكِّر ماذا يأخذ في مقابل هذا.

أغلب النَّاس هكذا، ومنهم المؤمنون المصلّون الحاجّون المعتمرون، عندما يأتي إليهم شخص مؤمن يريد قرضاً، كأنَّما أسقطت عليه غيمة سوداء، والله سبحانه وتعالى، يقول، كما بيّنَّا مراراً: "القرض بثمانية عشر"3. يعني لو فرضنا أنَّك أقرضت إنساناً، بحيث أعطيته مئة ليرة، فإنَّ فائدتها عند الله سبحانه وتعالى ألف وثمانمائة ليرة... فإذا جاء شخص وقال لك أعطني مئة ليرة وأردّها إليك ألفاً وثمانمائة ليرة، فهل هناك من يمتنع؟ ليس هناك من يمتنع، لأنّ هذه ليرات دنيويّة وليست ليرات أخرويّة، وهذا يعني أنّ حسابات الله غير موجودة عند البعض...

هذا دليلٌ على نقصانِ إيمانِنا، ومعناه أنَّنا لا نثقُ بالله ولا بما عندَ الله، فإذا كنت تؤمن بالآخرة، أليست الآخرة بحاجة إلى رصيد؟! فالله يقول لك: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]، ويقول لك: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[البقرة: 245]، ومع ذلك، لا يتحرَّك قلبك، ولا فكرك، ولا حياتك على أساس نداءات الله لك، فمعنى ذلك أنَّك لا تشعر بأهميّة الله في حياتك، ولا تشعر بأهميّة الدار الآخرة {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع}[الكهف: 103- 104]، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]، {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمَّد: 38].

أنت إذا لم تعط الفقير أو المحتاج، فسيهيِّئ له الله عطاءً من غيرك، لكنَّك تكون قد خسرت فرصة أن تنال رضا الله سبحانه، وأن تبعث حوالة بيد هذا الفقير إلى الدَّار الآخرة حتى يكون عندك رصيد. الله يقول: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ}[البقرة: 110].

استحبابُ الإعارة

ومن الإنفاقات المستحبَّة أيضاً، الإعارة؛ عندك جيران، مثلاً، يحتاجون إلى كراسي من عندك، طناجر، صحون، إلى سجَّاد... عادةً، قد تصير عند الجيران حالات طارئة، فيحتاج بعضهم إلى بعض.. ورد عن أحد أئمَّة أهل البيت (ع) في تفسير قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذَّاريات: 19]، قال له شخص: هل هناك حقّ غير الزكاة؟ قال له: "نعم، هو في القرض يقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يعيره"4. يعني هذا استحباب مؤكَّد.

فالله يريد منا التَّكافل الاجتماعي في هذا المجال، أنت الآن بدل أن يستأجر جارك كراسي وأنت عندك كراسي، وفّر عليه، وهكذا، كما يحتاجك جارك اليوم قد تحتاج إلى جارك غداً. والحياة يراد لها في الإسلام أن تكون مظهراً للتكافل الاجتماعي، أن يشعر كلُّ إنسان بآلام غيره وبمشاكل غيره. هذه الحياة الاجتماعيَّة الَّتي تخلو من الأنانيَّة: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]، يعني من يوق حالة البخل في نفسه، فهو من المفلحين.

فإذاً، الجنَّة لا يكفي لها أن نصلِّي ونصوم {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الشّورى: 36 – 38].. لا يكفي الصَّلاة والحجّ إذا لم تكن نفسك مفتوحة ويدك مفتوحة، وهذا لا يعني أن تعطي كلَّ ما عندك صدقة، بل أن تعطي مقداراً وتترك لنفسك مقداراً، كما فسَّر الإمام الصَّادق (ع) الآية: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُور}[الإسراء: 29]، لا أن تربط يديك في رقبتك، ولا أن تبسطها كلَّ البسط بحيث لا يبقى معك شيء، بل إنّ من المكروه أن يتصدَّق الإنسان بكلّ ماله ويترك أطفاله.

ردُّ الظّلمِ والعدوانِ

هذه صفة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. الصِّفة الأخرى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}[الشّورى: 39].

الإنسان المسلم والمؤمن، والإنسان الَّذي يحبَّه الله، هو الإنسان الّذي لا يشعر بالضّعف والانهزام أمام سطوة البغي والظّلم والعدوان...

فالإنسان المؤمن لا يشعر بالرّضوخ للظّلم، ولا يشعر بالسقوط أمام الظّالم، ولا يشعر بالهزيمة النفسيَّة والانسحاق النفسيّ، بل إنَّ الإنسان المؤمن إذا أصابه البغي والظّلم والعدوان، يكون موقفه موقف الانتصار لنفسه ولأمَّته ولدينه والانتصار لقضاياه.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}. البغي هو العدوان والظّلم.. المؤمن هو القويّ، المؤمن هو المنتصر، هو الَّذي يشعر بأنَّ من واجبه أن يقف ضدَّ البغي وينتصر عليه ولو بعد حين، فالمؤمن لا يشعر بالانسحاق والانسحاب من السَّاحة، يظلّ في السَّاحة، ولكن يبقى في المجال الَّذي يحقِّق له الانتصار، فإذا لم يتحقَّق الانتصار اليوم، فعليه أن يهيِّئ للانتصار غداً، وإن لم يتحقَّق غداً، فعليه أن يهيّئ الانتصار لبعد غد...

لأنَّ المؤمنين إذا تركوا البغي والعدوان في أيّ صورة من صوره، وتركوه يتقدَّم ويفرض نفسه على الساحة، فإنَّ الحياة تكون ساحة مفتوحة للظّلم وللبغي، والله لا يريد للحياة أن تبقى ساحة مفتوحة للظلم وللبغي وللعدوان، ولكنه يريد للظالمين والباغين والطغاة والمعتدين أن يشعروا بأنَّ هناك قوّة تقف أمامهم من موقع المسؤوليَّة، لا من موقع الحالات الانفعاليَّة الطَّارئة.

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ}[الشّورى: 40]. فإذا انتصر الإنسان لنفسه، فإنَّ عليه أن لا ينتصر لنفسه بأكثر مما فرض الله له.

الردُّ بالمثلِ

عندما أراد الله لك أن تردَّ العدوان، وأن تردَّ السيَّئة بمثلها، أراد لك أن تردَّها مماثلة، لا تزيد على ما اعتدي عليك. ففي أكثر من آية يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}[النَّحل: 126]، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ...}[البقرة: 194]، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}[الشّورى: 40].

يعني عندما يكون لك الحقُّ في أن تنتصر لنفسِك، وعندما تكون لك المقدرة في الانتصار، فإذا رأيت صلاحاً في العفو، فإنّ بإمكانك أن تعفو، والله يعطيك الأجر الكبير الَّذي لا حساب له.

هذا في الحالات الشخصيَّة، الحالات الاجتماعيَّة، يعني مشاكل النَّاس بعضهم ببعض، فهذا له حساب. أمَّا في حالة العدوان الَّذي ينطلق على الأمَّة وعلى الدِّين وعلى المجتمع، فهذا له حسابٌ آخر {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}.. فعندما يكون هناك عدوان من الظّالمين والطّغاة من الفئات الَّتي تريد أن تهزم الأمَّة وتهزم عزَّتها وكرامتها، هنا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}...

في العلاقات الإنسانيّة؛ زوج أساءت إليه زوجته، وبالعكس، أخ أساء إليه أخوه، جار أساء إليه جاره، قريب أساء إليه قريبه، هنا {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ} أي مماثلة، أن لا تقتصّ لنفسك بأكثرَ مما اعتُدِيَ عليك.

أنا ذكرت سابقاً، أنَّ على الإنسان أن يواجه القضايا بشكل هادئ، حتى عندما تكون أعصابه في أقصى درجات التوتّر، فالإنسان المتشرّع الذي يقف عند حكم الله، هو الإنسان الَّذي يهدِّئه حكم الله، أن تكون أعصابنا منسجمةً مع حكم الله سبحانه وتعالى.. لا يمكن أن تتوتَّر أعصابك بحيث تنسى حكم الله وتنسى طاعة الله، لا تستطيع أن تتصرَّف بطريقة حرَّة غير منضبطة.. عندما تستحضر قدرتك على الآخرين، تذكَّر قدرة الله عليك.

قصَّة عليٍّ (ع) مع الخارجيّ

الإمام عليّ (سلام الله عليه) كان جالساً ذات يوم مع أصحابه، وكان معهم رجل من الخوارج الَّذين حاربوا الإمام وحاربهم، فمرَّت أمرأه جميلة - وهذا الحديث موجود في "نهج البلاغة" - فرمقها القوم بأبصارهم، فكيف واجه الإمام (ع) الموقف؟ قال لهم: "إنَّ أبصار هذه الفحول – يعبِّر عن الرّجال الَّذين يعيشون حالة الغريزة بشكل غير هادئ - طوامح – تطمح إلى ما عند غيرها في المال وفي الغريزة وفي غير ذلك - وإنَّ ذلك سبب هَبابها – انحرافها - فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه - أي إذا وجد في نفسه حالة شهوة، أو أي حالة غريزيّة عندما يرى امرأةً أجنبيَّةً عنه - فليلامس أهله، فإنَّما هي امرأة كامرأة"، أي أن لا يعيش الأجواء الخياليَّة، ولكنّ الإنسان يغذّي الغريزة من الخيال ومن الأجواء غير الواقعيَّة، ما يجعله ينطلق بعيداً من حاجته الطبيعيَّة وأكثر، وينحرف شرعيّاً. فقال الرَّجل الخارجيّ بعد أن أعجبته الكلمة: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!".

الآن، أيّ أحد من عندنا، صغيراً كان أو كبيراً، يأتي أحد ويقول أمامه لعالمٍ أو زعيمٍ أو رئيسٍ: أنت كافر ولكنّك تفهم، بحسب عقليَّتنا، ألا نقطِّعه إرباً إرباً؟ نفعل ذلك ونقول هذا نصرة للدِّين وللإسلام ويجب أن يقتل ويقطَّع؟! لأنَّ عقليَّتنا لم تتربَّ على الحكم الشرعيّ، بل على العصبيّة والانفعال والذاتيَّة والأنانيَّة، أمَّا الإمام (ع)، فقد تربَّى على الحكم الشرعيّ منذ أن كان عمره عشر سنوات، فما دام الأمرُ أمرَ الله، فليس عنده مشكلة وينتهي الموضوع عنده، فالإمام ليس بينه وبين أن يرمي نفسه في قلب الموت، إلَّا أن يعرف أنَّ في ذلك لله رضا. فالقضيّة عنده قضيّة حقّ.

بعض الكلمات نأخذها بشكل مضخَّم من دون وعي، هل هناك أحد يقول أنا لست مع الحقّ؟ لكن كم نخالف الحكم الشَّرعيّ؟! كم نرتكب من المحرَّمات، وكم نترك من الواجبات، ومع ذلك نقول: "أنا إنسان حقّاوي"... لا لست حقّاويّاً، لأنّ الحقاوي هو الذي لا يترك شيئاً من الحقّ...

فالإمام عليّ (ع) تربَّى على الإيمان، يقول: "وثب إليه القوم ليقتلوه" أخذتهم الغيرة، فقال الإمام (ع) بكلّ وداعة: "رويداً"، لماذا ثارت أعصابكم؟ فنحن عندنا قانون، ونحن لا نحكم بشريعة الغاب، ولسنا كالظَّالمين الطُّغاة البغاة الّذين إذا ارتفعوا إلى كرسيِّ المسؤوليَّة، حكموا النَّاس بمزاجهم، وسيَّروا القانون لحسابهم، وقد قال رسول الله (ص): "إنَّما أهلك الَّذين قبلَكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ...".

"رويداً إنَّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب"5... هذه الآية طبَّقها الإمام (ع) على نفسه: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُه} سبٌّ بسبٍّ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أو عفو عن ذنب، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشّورى: 40]. فالله كما يقول لك إنَّ لك أن تنتصر على ظالمك، يقول لك لا تظلم ظالمك، لأنَّك إذا أخذْتَ أكثرَ من حقِّك، فقد ظلمْتَه.

ما هو الظّلم؟ هو أن تتصرَّف تصرّفاً ليس من حقّك، فالله لا يحبّ الإنسان الذي يعتدي على الآخر بغير حقّ، أمّا الإنسان الذي يأخذ بحقّه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}[الشّورى: 41] الإنسان الَّذي ينتصر بعدما ظُلِم، ليس عليه سبيل...

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشّورى: 42]، هذه مسؤوليَّة على الَّذي يظلم النَّاس؛ يستخدم قوَّته، ماله، جاهه، ويستخدم عضلاته، يستخدم كلّ ذلك في ظلم النَّاس والاعتداء عليهم.

العدالةُ أوّلاً

الإسلام يبدأ من العدالة في الدَّاخل، الآن كلّنا نطالب بالعدالة؛ بالدّولة العادلة، بالمجتمع العادل... لكن قبل كلّ شيء، نحتاج إلى الفرد العادل، الّذي يفرز المجتمع العادل، والمجتمع العادل هو الذي يفرز الدَّولة العادلة، لأنّه "كما تكونون يولَّى عليكم".

القانون مهما كان صلباً وصعباً، لا يحمي نفسه إذا لم يكن هناك أشخاصٌ يعيشون روحيَّةَ القانونِ ومسؤوليَّتَه، تستطيع أنت أن تغربل القانون وتنخله وتجد فيه عشرين ثغرة، أليس عندنا في القضايا محام يتولَّى شؤون الدِّفاع ومحام يتولَّى شؤون الاتّهام؟! هذا يأتي بمادّة قانونيّة تدين ذاك الشّخص، وذاك يقدِّم مادة قانونيّة تبرّئه... لماذا؟ لأنّ القانون لا يستطيع أن يحمي نفسه، القانون نفوس وكلمات وموادّ، وكلّ إنسان يملك حريَّة الحركة في إطار تنفيذ القانون، يستطيع أن يلعب بالقانون كما يشاء.

لهذا، اهتمَّ الإسلام بالإنسان القانونيّ.. لماذا نردِّد دائماً: "الصَّلاة عمود الدّين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن رُدَّتْ رُدَّ ما سواها"، لماذا؟ الإسلام الَّذي هو هذا الدّين العظيم، والّذي يتضمَّن قوانين الحياة كلّها، كيف تكون الصّلاة هي عموده؟ ولماذا؟ لأنَّ الصَّلاة عندما تكون صلاة حقيقيّة، تجعل منك إنساناً يخاف الله، وتجعل منك إنساناً يحبُّ الله ويتَّقي الله، وإذا حصلْتَ على تقوى الله، فإنَّ معنى ذلك أنَّك ستكون منضبطاً بكلِّ جوانب حياتك القانونيَّة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}[النّساء: 1]، {وتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197]... لماذا كلّ هذه الآيات الّتي تدعو إلى التّقوى؟ لأنَّ الله يريد أن يركِّز الشخصيَّة التي تعيش الخوف من الله والمحبَّة لله، ليحقِّق لها ذلك الانضباط أمام كلِّ أوامر الله ونواهيه.

فالمهمّ أن يكون عندنا الشخصيَّة الإسلاميَّة العادلة الَّتي لا تتحرَّك إلَّا من خلال أمر الله، حتَّى لو كانت أعصابها في أقصى درجات التوتّر، ولا تقف إلَّا من خلال أمر الله ونهيه.

هذا هو الَّذي يريحنا في الدّنيا ويريحنا في الآخرة، أمَّا حالات العصبيَّة والأنانيّة والانفعال، فهذه الحالات تتعبنا في الدّنيا وتتعبنا في الآخرة.

فمن يفكّر في الراحة في الدنيا والآخرة، فإنَّ عليه أن يفكِّر أن يكون مسلماً كما يريده الله سبحانه وتعالى.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*محاضرة لسماحته بتاريخ: 12/ 5/ 1983م.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج93، ص 21.

[2]ميزان الحكمة، محمّد الرّيشهري، ج4، ص 220.

[3]ميزان الحكمة، ج3، ص 699.

[4]رياض السّالكين، السيّد علي خان المدني الشّيرازي، ج6، ص 57.

[5]نهج البلاغة، ج4، ص 99.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير