الولاية التكوينيـَّة

الولاية التكوينيـَّة
إنَّ الولاية التكوينية، وهو مبحث جديد طرح بشكل كبير بين العلماء المتأخرين، من أبرز المباحث الَّتي تناولها العلماء بالنقاش، وأعطى كل واحد منهم رأيه فيها، فهي كمصطلح ومفهوم مفتوحة على احتمالات متعددة. من هنا تطرح الأسئلة حولها: هل للولي، من إمام أو نبي، سلطة وولاية إدارية وتنفيذية على هذا الكون؟ وهل فوَّض الله تعالى إلى الأنبياء والأئمة تدبير شؤون الكون، أو أنَّ الله تعالى أعطى الأنبياء والأئمَّة القدرات التكوينيَّة الَّتي يحتاجونها في نبوتهم وإمامتهم فقط، وفي حدود الوسائل التي يمكن أن يستخدموها، بحيث يتصرفون في الأشياء في هذه الدائرة، كما يقول سماحة المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله(رض)؟!
ومن الَّذين تناولوا هذا الموضوع من العلماء، الشيخ كاظم الحائري، الذي يعتبر أنَّ الولاية التكوينية للأئمة(ع)، إذا كان المقصود بها خرق نواميس الطّبيعة والإتيان بالمعجزة، فلا شكّ في أن الأئمة أظهروا الكثير من المعجزات، فإنّ الفرض الأول وهو أنّ الله تعالى أرشد الأئمة(ع) إلى علل الحوادث والأحداث، ليتصرفوا في العالم وفق تحريك العلل، فهذه كلام، في الوقت الذي لم أجد دليلاً عليه لا في كتاب ولا في سنّة، لا يوجد عليه دليل مخالف ومعارض في الكتاب والسنّة، ولا توجد لدينا ضرورة دينيَّة تمنع عن القول بذلك.
أما لو قصدنا المعنى الثاني، وهو أنَّ الله فوّض إليهم الأمور، فكما أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما شاء، وبإرادته يسيّر العالم، كذلك نفترض الإمام(ع) وكأنه يحل محل الله تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته، فهذا في روحه يرجع إلى التفويض أو إلى شقّ من شقوق التفويض الذي ننكره، كما ننكر الجبر، ونقول لا جبر ولا تفويض... (1) .
وما يتصل بهذا البحث، إخبار الأئمة(ع) ببعض المغيبات، حيث يستغل الحاقدون بعض المرويات لإلصاق التهم الواهية بالتشيع، وقد أشار إلى ذلك العلامة المقدس السيد هاشم معروف الحسني، حيث أوضح أن الأئمة(ع) كانوا يخبرون ببعض المغيبات، ولكنه علم من ذي علم، وأنه الجائز أن يكون المصدر في إلصاق هذه الانحرافات بالشيعة بعض الفرق التي انحرفت عن التشيع الصحيح، كالسبعية والخطابية وغيرها.
ولكن وجود فِرَقٍ من هذا النوع تنتمي إلى التشيع، لا يبرر تلك الهجمات الصاعقة على الشيعة الإمامية، لمجرد أن بعض الذين كانوا مندسين في صفوفهم خرجوا عن مخطط التشيّع، أو ألحدوا في آرائهم ومعتقداتهم، وقالوا في النبي والأئمة ما يتنافى مع أصول الإسلام ومبادئه... (2).
وما يتفرّع عن مبحث الولاية التكوينية، من وجوب علم الإمام أو النبي بسائر المعلومات وبالغيب، فإن السيد المرتضى علم الهدى(قده)، حين سُئِل عما يجب اعتقاده في النبي(ص)، هل كان يحسن الكتابة وقراءة الكتب أو لا؟ فأجاب: بأن كِلا الأمرين محتملان من دون القطع بأحدها"... [رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص 104].
أما الشيخ الطوسي فيقول: "فأما قولهم إنه يجب أن يكون عالماً بسائر المعلومات وبالغيب، فلا شبهة في بطلانه، لأن من المعلوم أن جميع ذلك لا تعلّق له بباب الدين، ولا الإمام حاكم في شيء من ذلك، فكيف يلزم ما الإمام حاكم فيه شيء ليس هو إماماً فيه ولا حاكماً؟"... (3).
والشيخ المفيد(قده) يقول في السياق ذاته: "وليس من شرط الأنبياء(ع) أن يحيطوا بكل علم، ولا أن يقفوا على باطن كلّ ظاهر، وقد كان نبينا محمد(ص) أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم، ولا متعرضاً لذلك، ولا يتأتى منه قول الشعر ولا ينبغي له.. وكان أمياً بنصّ التنزيل، ولم يتعاطَ معرفة الصنائع، ولما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق، وكان يسأل عن الأخبار ويخفى عليه منها ما لم يأتِ به إليه صادق من الناس"... (4).
وممن علّق على ذلك من العلماء المتأخرين، السيد محسن الأمين(قده)، بقوله: أما ما ذكره المفيد أعلى الله مقامه، من أنّ الإمام(ع) لا يعلم جميع ما يكون إلا في الأحكام، فهو الحق الذي لا شبهة فيه، وكذلك النبي، إذ لم يدل على ذلك دليل من عقل ولا نقل، وإنما قام الدليل على عدم جواز جهل النبي أو الإمام شيئاً من الأحكام عند حاجة العباد إليه، ولا يجب أن يعلم النَّبي(ص) الأحكام كلها قبل الحاجة إليها.
وقد كانت الأحكام تنزل على النَّبي(ص) تدريجياً بحسب الحاجة، بل الدليل من النقل على عدم علم الإمام، بل والنَّبي(ص)، لبعض ما يحدث من غير الأحكام، موجود، بل لعلَّه متواتر، كما أنه لا شكَّ في أنهم كانوا يعلمون بعض ما يحدث بتعليمٍ من الله عزَّ وجلَّ.
وما دلّ من الآثار على أنهم يعلمون علم ما كان وما يأتي، محمول على أنهم إذا أرادوا أن يعلموا علموا بإقدار من الله تعالى أو بسؤال ملك يقال له المسدِّد، كما يدل عليه بعض الأخبار جمعاً بين ذلك وبين ما دلّ على عدم علمهم ببعض ما يكون... (5).
يتبيَّن من خلال عرض ما تقدّم من آراء متصلة بالولاية التكوينية، أنه إذا كان الأمر يتعلق بمعاجز الأنبياء والأئمة، لجهة ما يحتاجونه لتأكيد إمامتهم أو نبوتهم، وما تقتضيه الأمور، فذلك موضع تسالم واتفاق بين المسلمين، أما في غير ذلك، فهو محل نقاش وبحث.
وحتى ابن تيمية يقرّ بكرامات الأولياء، فيقول: "ومن أصول أهل السنة والجماعة، التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن الأمم...". (6).
ولكن بعض العلماء رأوا أن الله تعالى جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينية، يتصرفون من خلالها، فيغيرون الأشياء وينقلونها من حال إلى حال بإذن الله، بما أعطاهم من السلطة على الكون في حركة التكوين، كما أعطاهم السلطة الشرعيَّة في إدارة شؤون أناس وحكمهم، حتى إن البعض يرى أن الله فوّض إلى الأنبياء والأئمة(ع) أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة، بحيث إنهم يملكون القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون وفي الإنسان، من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها.
وبقيت مسألة "الولاية التكوينية" موضع تأييد ومعارضة بين أوساط العلماء، فقد أصرّ العلامة الشيخ محمد جواد مغنية(قده) في كتابه "فلسفات إسلامية"، على عدم كونها من ضرورات المذهب، وأنه لا دليل عليها، فكل شيء ممكن بإذن الله، ولكن العبرة بالوقوع لا بالإمكان، وبالإثبات لا بالثبوت، فوجوب الإيمان بولاية التكوين ليس من ضرورات الدين ولا المذهب.
وهذا أيضاً ما ذهب إليه المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، الذي أكَّد أن الولاية التكوينية ليست من المعتقدات الأساسيَّة، فلا يضرّ عدم الاعتقاد بها في إسلام الشخص وصحة معتقده، ولم يدّع أحد من العلماء، ومنهم القائلون بها، أنها من أصول المذهب أو ضرورياته.
ويعرّفها المرجع فضل الله بقوله: "هي السلطة على عالم التكوين تصرّفاً وتحريكاً، وهي غير ثابتة لأحدٍ من البشر، حتى الأنبياء والأئمة(ع)، لعدم الحاجة إليها في المهام الرساليَّة، والقول بها مخالف للقرآن الكريم، بل القول بها ينافي خالص التوحيد.". (7).
هل للأنبياء والرسل ولاية تكوينية؟ يقول سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) في معرض تفسيره للآية المباركة {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}(8) "ربما يتصوَّر بعض العلماء أنَّ هذه الآية تدلّ على أنَّ الله جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينيَّة يتصرفون من خلالها بالكون، فيغيّرون الأشياء وينقلونها من حالٍ إلى حال، ويجمدون الأسباب، ويضعون أسباباً جديدة للأشياء بإذن الله، من خلال ما أعطاهم السلطة الشرعية في إدارة شؤون الناس وحكمهم، وبثّ قوانين الشَّريعة بينهم وهدايتهم إلى دينه.
وقد أخذت نظرية "الولاية التكوينية" بعداً عقائدياً حاسماً متنوّعاً في تضييق المسألة لتبقى في دائرة المعجزة، وفي توسيعها لتشمل كل الكون، حتى إن البعض يرى أن الله فوّض للأنبياء والأئمة أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة دون أية قدرة ذاتية مستقلة، بل من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها، فهم القادرون بقدرة الله، الأولياء على الكون بولايته، وهذا ما يبعد المسألة عن الشرك والغلوّ والانحراف عن خط العقيدة المستقيم...". (9).
ويتابع بأن القول بها ـ الولاية التكوينيَّة ـ يخالف ظاهر القرآن الكريم، الَّذي يدلّ على أن الله تعالى لم يجعل أمر التصرُّف في الكون وعلم الغيب لأحد، وليس من شؤون الرسول والإمام والولاية على عالم الكون، بل لهم الولاية التشريعية، ثم إن ولاية الله على الكون كاملة لا نقص فيها، فما الحاجة إلى إعطاء الولاية على الكون لشخص آخر، وقد تكاثرت الآيات القرآنية الدالة على أن الرسول لا يملك القدرة على تغيير الواقع، بل هو مبشرّ وداعٍ إلى الله. وعلى ضوء هذا، فلا يؤخذ بالروايات المخالفة للقرآن.(10) .
ويضيف سماحته(رض): "وإذا كان بعض الناس يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية، بل وإنّ الله هو الذي يمنحه ذلك، فإننا نجيب أن النبي إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره، فإنّ الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}(11). فإنّ هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول(ص)، وبأنّ كل ما لديه إنما هو من الله تعالى، يمنحه إياه بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة... ومن خلال هذا، نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للأنبياء والأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر ـ ولكن يبقى في المسألة أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها والله العالم".(12) .
وعن إمكان الولاية التكوينية وضرورتها، يرى سماحته(رض) أن لا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ، لأن الله القادر على الوجود كلّه، يملك ـ في مضمون ألوهيته المطلقة ـ أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها، فهو الذي جعل لهم القدرة في دائرة إنسانيتهم في أوضاعهم الخاصة والعامة، من خلال ما أوكل الله إليهم من مهمات تتصل بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم.. ولا بد من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون، لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحددها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.
وهناك جانب الحاجة أو الضرورة، والسؤال: لماذا يجعل الله لهم هذه الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقّف على ذلك، أو هي قضية تشريف إلهي لهم، حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟ فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ، وإذا كان لهم دور تنفيذي، فإنهم يتحرّكون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية، فإذا جاء التحدي الكبير، فإنَّ المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ الرسالة في موقع الرسول.
أما التشريف، فإنه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية، أو توسيع السلطة من دون مسؤولية.. ولا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدي، مع احتمال أنها ليست من قدرتهم، ولكنَّها قدرة الله بصورة مباشرة. (13).
إنَّ قيمة الولاية في خطِّ الرسالة والإمامة، تكمن في ملاحقتها للإنسان في مفاهيمه وحركيته، لتمنحه الوضوح في الخطِّ والسداد في الرأي، والسلامة في الحياة، والاستقامة في الطريق، والرعاية في الحركة السائرة إلى الله تعالى.. ولذلك، فإنَّ الارتباط بها يحمي الإنسان من الانحراف ويقوده إلى الصّراط السوي.
فالولاية ـ بحسب تصوّر سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) ـ تتمثّل في الالتزام بالإسلام كله عقيدةً وشريعةً ومنهجاً، في حركتنا في الحياة، وذلك باعتباره رسالتنا التي نحملها إلى العالم لنعمّق الالتزام الإنساني به، فدور الأنبياء والأئمة(ع) هو أن يربطوا الناس برسالة الله، لا أن يربطوهم بأشخاصهم في عملية استغراق في الذات بعيداً عن أصالة الإسلام في الوعي، فقيمة الرسول(ص) والأئمة(ع) أنهم أولياء الله تعالى، حتى لا ننسى الله عندما نذكرهم، ولا ننسى الإسلام عندما نلتفت إلى خطهم، فليس هناك خط للولاية خارج عن نطاق الإسلام في قيمه الفكرية والروحية والأخلاقية.
وأخيراً وليس آخراً، ترى الكاتبة ريتا فرج، في مقال لها في جريدة الحياة "اللندنية"، بتاريخ 20-8-2011، علقت فيه على دراسة لسماحته(رض) تحت عنوان "نظرة إسلامية حول الولاية التكوينية": إن هذه الدراسة تكتسب أهميتها من عدة مؤشرات:
أ ـ أنسنة الأنبياء والأئمة، أي عدم إعطائهم مواصفات خارقة تتخطّى قدرتهم الإنسانية، والتأكيد بالتالي على بشريهم.
ب ـ مقارعة كلّ الأساطير التي أسقطها المتخيّل الشعبي على الرسل في اليهودية والمسيحية والإسلام.
ج ـ التأكيد أنَّ هدف الأنبياء في الأساس هو تبليغ الدعوة، وأنهم ليسوا مفوّضين بتدبير شؤون الكون.
الهوامش:
 
(1) : [الإمامة وقيادة المجتمع ـ الحائري، ص 126 وما بعدها].
(2) : [الحديث والمحدثون، ص 308]
(3) : [تلخيص الشافي، ص 252]
(4) : [المسائل العكبرية، ص 34]
(5) : [نزهة الخواطر، ج1، ص 383]
(6) : [مجموع فتاوى ابن تيمية، ج3، ص 156]
(7) : [استفتاءات]
(8) : [المائدة: 110]
(9) : [من وحي القرآن، ج 6، ص 26]
(10) : [استفتاءات].
(11) : [الأنعام: 50].
(12) : [تفسير من وحي القرآن، ج 6، ص: 28 ـ 34].
(13) : [من وحي القرآن، ج6، ص 26 ـ 28].
إنَّ الولاية التكوينية، وهو مبحث جديد طرح بشكل كبير بين العلماء المتأخرين، من أبرز المباحث الَّتي تناولها العلماء بالنقاش، وأعطى كل واحد منهم رأيه فيها، فهي كمصطلح ومفهوم مفتوحة على احتمالات متعددة. من هنا تطرح الأسئلة حولها: هل للولي، من إمام أو نبي، سلطة وولاية إدارية وتنفيذية على هذا الكون؟ وهل فوَّض الله تعالى إلى الأنبياء والأئمة تدبير شؤون الكون، أو أنَّ الله تعالى أعطى الأنبياء والأئمَّة القدرات التكوينيَّة الَّتي يحتاجونها في نبوتهم وإمامتهم فقط، وفي حدود الوسائل التي يمكن أن يستخدموها، بحيث يتصرفون في الأشياء في هذه الدائرة، كما يقول سماحة المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله(رض)؟!
ومن الَّذين تناولوا هذا الموضوع من العلماء، الشيخ كاظم الحائري، الذي يعتبر أنَّ الولاية التكوينية للأئمة(ع)، إذا كان المقصود بها خرق نواميس الطّبيعة والإتيان بالمعجزة، فلا شكّ في أن الأئمة أظهروا الكثير من المعجزات، فإنّ الفرض الأول وهو أنّ الله تعالى أرشد الأئمة(ع) إلى علل الحوادث والأحداث، ليتصرفوا في العالم وفق تحريك العلل، فهذه كلام، في الوقت الذي لم أجد دليلاً عليه لا في كتاب ولا في سنّة، لا يوجد عليه دليل مخالف ومعارض في الكتاب والسنّة، ولا توجد لدينا ضرورة دينيَّة تمنع عن القول بذلك.
أما لو قصدنا المعنى الثاني، وهو أنَّ الله فوّض إليهم الأمور، فكما أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما شاء، وبإرادته يسيّر العالم، كذلك نفترض الإمام(ع) وكأنه يحل محل الله تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته، فهذا في روحه يرجع إلى التفويض أو إلى شقّ من شقوق التفويض الذي ننكره، كما ننكر الجبر، ونقول لا جبر ولا تفويض... (1) .
وما يتصل بهذا البحث، إخبار الأئمة(ع) ببعض المغيبات، حيث يستغل الحاقدون بعض المرويات لإلصاق التهم الواهية بالتشيع، وقد أشار إلى ذلك العلامة المقدس السيد هاشم معروف الحسني، حيث أوضح أن الأئمة(ع) كانوا يخبرون ببعض المغيبات، ولكنه علم من ذي علم، وأنه الجائز أن يكون المصدر في إلصاق هذه الانحرافات بالشيعة بعض الفرق التي انحرفت عن التشيع الصحيح، كالسبعية والخطابية وغيرها.
ولكن وجود فِرَقٍ من هذا النوع تنتمي إلى التشيع، لا يبرر تلك الهجمات الصاعقة على الشيعة الإمامية، لمجرد أن بعض الذين كانوا مندسين في صفوفهم خرجوا عن مخطط التشيّع، أو ألحدوا في آرائهم ومعتقداتهم، وقالوا في النبي والأئمة ما يتنافى مع أصول الإسلام ومبادئه... (2).
وما يتفرّع عن مبحث الولاية التكوينية، من وجوب علم الإمام أو النبي بسائر المعلومات وبالغيب، فإن السيد المرتضى علم الهدى(قده)، حين سُئِل عما يجب اعتقاده في النبي(ص)، هل كان يحسن الكتابة وقراءة الكتب أو لا؟ فأجاب: بأن كِلا الأمرين محتملان من دون القطع بأحدها"... [رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص 104].
أما الشيخ الطوسي فيقول: "فأما قولهم إنه يجب أن يكون عالماً بسائر المعلومات وبالغيب، فلا شبهة في بطلانه، لأن من المعلوم أن جميع ذلك لا تعلّق له بباب الدين، ولا الإمام حاكم في شيء من ذلك، فكيف يلزم ما الإمام حاكم فيه شيء ليس هو إماماً فيه ولا حاكماً؟"... (3).
والشيخ المفيد(قده) يقول في السياق ذاته: "وليس من شرط الأنبياء(ع) أن يحيطوا بكل علم، ولا أن يقفوا على باطن كلّ ظاهر، وقد كان نبينا محمد(ص) أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم، ولا متعرضاً لذلك، ولا يتأتى منه قول الشعر ولا ينبغي له.. وكان أمياً بنصّ التنزيل، ولم يتعاطَ معرفة الصنائع، ولما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق، وكان يسأل عن الأخبار ويخفى عليه منها ما لم يأتِ به إليه صادق من الناس"... (4).
وممن علّق على ذلك من العلماء المتأخرين، السيد محسن الأمين(قده)، بقوله: أما ما ذكره المفيد أعلى الله مقامه، من أنّ الإمام(ع) لا يعلم جميع ما يكون إلا في الأحكام، فهو الحق الذي لا شبهة فيه، وكذلك النبي، إذ لم يدل على ذلك دليل من عقل ولا نقل، وإنما قام الدليل على عدم جواز جهل النبي أو الإمام شيئاً من الأحكام عند حاجة العباد إليه، ولا يجب أن يعلم النَّبي(ص) الأحكام كلها قبل الحاجة إليها.
وقد كانت الأحكام تنزل على النَّبي(ص) تدريجياً بحسب الحاجة، بل الدليل من النقل على عدم علم الإمام، بل والنَّبي(ص)، لبعض ما يحدث من غير الأحكام، موجود، بل لعلَّه متواتر، كما أنه لا شكَّ في أنهم كانوا يعلمون بعض ما يحدث بتعليمٍ من الله عزَّ وجلَّ.
وما دلّ من الآثار على أنهم يعلمون علم ما كان وما يأتي، محمول على أنهم إذا أرادوا أن يعلموا علموا بإقدار من الله تعالى أو بسؤال ملك يقال له المسدِّد، كما يدل عليه بعض الأخبار جمعاً بين ذلك وبين ما دلّ على عدم علمهم ببعض ما يكون... (5).
يتبيَّن من خلال عرض ما تقدّم من آراء متصلة بالولاية التكوينية، أنه إذا كان الأمر يتعلق بمعاجز الأنبياء والأئمة، لجهة ما يحتاجونه لتأكيد إمامتهم أو نبوتهم، وما تقتضيه الأمور، فذلك موضع تسالم واتفاق بين المسلمين، أما في غير ذلك، فهو محل نقاش وبحث.
وحتى ابن تيمية يقرّ بكرامات الأولياء، فيقول: "ومن أصول أهل السنة والجماعة، التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن الأمم...". (6).
ولكن بعض العلماء رأوا أن الله تعالى جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينية، يتصرفون من خلالها، فيغيرون الأشياء وينقلونها من حال إلى حال بإذن الله، بما أعطاهم من السلطة على الكون في حركة التكوين، كما أعطاهم السلطة الشرعيَّة في إدارة شؤون أناس وحكمهم، حتى إن البعض يرى أن الله فوّض إلى الأنبياء والأئمة(ع) أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة، بحيث إنهم يملكون القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون وفي الإنسان، من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها.
وبقيت مسألة "الولاية التكوينية" موضع تأييد ومعارضة بين أوساط العلماء، فقد أصرّ العلامة الشيخ محمد جواد مغنية(قده) في كتابه "فلسفات إسلامية"، على عدم كونها من ضرورات المذهب، وأنه لا دليل عليها، فكل شيء ممكن بإذن الله، ولكن العبرة بالوقوع لا بالإمكان، وبالإثبات لا بالثبوت، فوجوب الإيمان بولاية التكوين ليس من ضرورات الدين ولا المذهب.
وهذا أيضاً ما ذهب إليه المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، الذي أكَّد أن الولاية التكوينية ليست من المعتقدات الأساسيَّة، فلا يضرّ عدم الاعتقاد بها في إسلام الشخص وصحة معتقده، ولم يدّع أحد من العلماء، ومنهم القائلون بها، أنها من أصول المذهب أو ضرورياته.
ويعرّفها المرجع فضل الله بقوله: "هي السلطة على عالم التكوين تصرّفاً وتحريكاً، وهي غير ثابتة لأحدٍ من البشر، حتى الأنبياء والأئمة(ع)، لعدم الحاجة إليها في المهام الرساليَّة، والقول بها مخالف للقرآن الكريم، بل القول بها ينافي خالص التوحيد.". (7).
هل للأنبياء والرسل ولاية تكوينية؟ يقول سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) في معرض تفسيره للآية المباركة {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}(8) "ربما يتصوَّر بعض العلماء أنَّ هذه الآية تدلّ على أنَّ الله جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينيَّة يتصرفون من خلالها بالكون، فيغيّرون الأشياء وينقلونها من حالٍ إلى حال، ويجمدون الأسباب، ويضعون أسباباً جديدة للأشياء بإذن الله، من خلال ما أعطاهم السلطة الشرعية في إدارة شؤون الناس وحكمهم، وبثّ قوانين الشَّريعة بينهم وهدايتهم إلى دينه.
وقد أخذت نظرية "الولاية التكوينية" بعداً عقائدياً حاسماً متنوّعاً في تضييق المسألة لتبقى في دائرة المعجزة، وفي توسيعها لتشمل كل الكون، حتى إن البعض يرى أن الله فوّض للأنبياء والأئمة أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة دون أية قدرة ذاتية مستقلة، بل من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها، فهم القادرون بقدرة الله، الأولياء على الكون بولايته، وهذا ما يبعد المسألة عن الشرك والغلوّ والانحراف عن خط العقيدة المستقيم...". (9).
ويتابع بأن القول بها ـ الولاية التكوينيَّة ـ يخالف ظاهر القرآن الكريم، الَّذي يدلّ على أن الله تعالى لم يجعل أمر التصرُّف في الكون وعلم الغيب لأحد، وليس من شؤون الرسول والإمام والولاية على عالم الكون، بل لهم الولاية التشريعية، ثم إن ولاية الله على الكون كاملة لا نقص فيها، فما الحاجة إلى إعطاء الولاية على الكون لشخص آخر، وقد تكاثرت الآيات القرآنية الدالة على أن الرسول لا يملك القدرة على تغيير الواقع، بل هو مبشرّ وداعٍ إلى الله. وعلى ضوء هذا، فلا يؤخذ بالروايات المخالفة للقرآن.(10) .
ويضيف سماحته(رض): "وإذا كان بعض الناس يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية، بل وإنّ الله هو الذي يمنحه ذلك، فإننا نجيب أن النبي إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره، فإنّ الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}(11). فإنّ هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول(ص)، وبأنّ كل ما لديه إنما هو من الله تعالى، يمنحه إياه بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة... ومن خلال هذا، نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للأنبياء والأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر ـ ولكن يبقى في المسألة أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها والله العالم".(12) .
وعن إمكان الولاية التكوينية وضرورتها، يرى سماحته(رض) أن لا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ، لأن الله القادر على الوجود كلّه، يملك ـ في مضمون ألوهيته المطلقة ـ أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها، فهو الذي جعل لهم القدرة في دائرة إنسانيتهم في أوضاعهم الخاصة والعامة، من خلال ما أوكل الله إليهم من مهمات تتصل بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم.. ولا بد من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون، لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحددها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.
وهناك جانب الحاجة أو الضرورة، والسؤال: لماذا يجعل الله لهم هذه الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقّف على ذلك، أو هي قضية تشريف إلهي لهم، حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟ فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ، وإذا كان لهم دور تنفيذي، فإنهم يتحرّكون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية، فإذا جاء التحدي الكبير، فإنَّ المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ الرسالة في موقع الرسول.
أما التشريف، فإنه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية، أو توسيع السلطة من دون مسؤولية.. ولا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدي، مع احتمال أنها ليست من قدرتهم، ولكنَّها قدرة الله بصورة مباشرة. (13).
إنَّ قيمة الولاية في خطِّ الرسالة والإمامة، تكمن في ملاحقتها للإنسان في مفاهيمه وحركيته، لتمنحه الوضوح في الخطِّ والسداد في الرأي، والسلامة في الحياة، والاستقامة في الطريق، والرعاية في الحركة السائرة إلى الله تعالى.. ولذلك، فإنَّ الارتباط بها يحمي الإنسان من الانحراف ويقوده إلى الصّراط السوي.
فالولاية ـ بحسب تصوّر سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) ـ تتمثّل في الالتزام بالإسلام كله عقيدةً وشريعةً ومنهجاً، في حركتنا في الحياة، وذلك باعتباره رسالتنا التي نحملها إلى العالم لنعمّق الالتزام الإنساني به، فدور الأنبياء والأئمة(ع) هو أن يربطوا الناس برسالة الله، لا أن يربطوهم بأشخاصهم في عملية استغراق في الذات بعيداً عن أصالة الإسلام في الوعي، فقيمة الرسول(ص) والأئمة(ع) أنهم أولياء الله تعالى، حتى لا ننسى الله عندما نذكرهم، ولا ننسى الإسلام عندما نلتفت إلى خطهم، فليس هناك خط للولاية خارج عن نطاق الإسلام في قيمه الفكرية والروحية والأخلاقية.
وأخيراً وليس آخراً، ترى الكاتبة ريتا فرج، في مقال لها في جريدة الحياة "اللندنية"، بتاريخ 20-8-2011، علقت فيه على دراسة لسماحته(رض) تحت عنوان "نظرة إسلامية حول الولاية التكوينية": إن هذه الدراسة تكتسب أهميتها من عدة مؤشرات:
أ ـ أنسنة الأنبياء والأئمة، أي عدم إعطائهم مواصفات خارقة تتخطّى قدرتهم الإنسانية، والتأكيد بالتالي على بشريهم.
ب ـ مقارعة كلّ الأساطير التي أسقطها المتخيّل الشعبي على الرسل في اليهودية والمسيحية والإسلام.
ج ـ التأكيد أنَّ هدف الأنبياء في الأساس هو تبليغ الدعوة، وأنهم ليسوا مفوّضين بتدبير شؤون الكون.
الهوامش:
 
(1) : [الإمامة وقيادة المجتمع ـ الحائري، ص 126 وما بعدها].
(2) : [الحديث والمحدثون، ص 308]
(3) : [تلخيص الشافي، ص 252]
(4) : [المسائل العكبرية، ص 34]
(5) : [نزهة الخواطر، ج1، ص 383]
(6) : [مجموع فتاوى ابن تيمية، ج3، ص 156]
(7) : [استفتاءات]
(8) : [المائدة: 110]
(9) : [من وحي القرآن، ج 6، ص 26]
(10) : [استفتاءات].
(11) : [الأنعام: 50].
(12) : [تفسير من وحي القرآن، ج 6، ص: 28 ـ 34].
(13) : [من وحي القرآن، ج6، ص 26 ـ 28].
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير