قصّة أصحاب القرية

قصّة أصحاب القرية

من القصص المذكورة في القرآن الكريم، قصّة "أصحاب القرية". يقول تعالى في محكم آياته المباركة: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[يس:13-17].

يخاطب المولى عزّ وجلّ رسوله الكريم(ص)، بأن يضرب لقومه الّذين كذّبوه مثلاً "أصحاب القرية"، وهؤلاء، بحسب بعض الرّواة والمفسّرين، أهل مدينة أنطاكية القريبة من مدينة حلب اليوم، وكان بها كما يروي ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، ملك يقال له "أنطيخس بن أنطيخس"، وكان يعبد الأصنام، فبعث إليه ثلاثة من الرّسل، وهم "صادق" و"صدوق" و"شلوم"، فكذّبهم، وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة والزّهري، أنّ القرية هي "أنطاكية" وقد استشكل بعض العلماء في أن تكون أنطاكية.

قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرّسولين الأولين شمعون ويوحنا، واسم الثّالث بولس، والقرية أنطاكية.

وأنطاكية من أقدم مدن الشّام، بنيت بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد، ويقال بأنّ السيّد المسيح(ع) أرسل رسله إليها لنشر تعاليمه فيها.

ويحدّثنا الله تعالى في هذه الواقعة التاريخيّة، عن الإيمان القويّ لهؤلاء الرّسل، وعزيمتهم الصّلبة في مواجهة تحدّيات المشركين، وفي دعوتهم لعبادة الواحد الأحد، وتوحيده والإخلاص له، ولقد تحمّلوا الكثير من المشاقّ والعذابات، وصبروا على الأذى في سبيل خدمة الرّسالة وفدائها بالموقف والسّلوك العمليّ الّذي يصدم الواقع المتحجّر نتيجة سيطرة العقلية الوثنيّة في تلك النواحي.

وفي معرض تفسيره للآيات المباركات، يقول سماحة المرجع الإسلامي السيّد محمد حسين فضل الله(رض): وهكذا ينقلنا القرآن إلى التّاريخ، حيث واجه المرسلون الدّعاة إلى الله المواقف الصعبة التي تتحدّاهم فيها قوى الكفر بكلّ أساليب التمرّد والجحود، فلا تستمع إليهم، ولا توافق على الدّخول في حوار معهم، ولكنّهم لا يتراجعون، بل يستمرّون في الدّعوة وإعلان الموقف، لأنّ كلمة الرّسالة لا بدّ من أن تُقال وتتحرّك مع الآذان الصمّاء والمواقف الرّافضة، لتفرض نفسها على الجوّ، أو لتنفذ من خلال ثغرةٍ طارئةٍ من هنا، ونافذةٍ مفتوحة على القلب من هناك، لتبدأ الطّريق من الموقع الصّغير، فالتّراجع في البداية أمام تحدّيات الآخرين، يفرض أن لا تبدأ الرّسالة، باعتبار أنّ القوى المضادّة تقف أمام البدايات لتهزمها، حتّى لا تفرض نفسها على السّاحة بعد ذلك.

وهكذا يريد القرآن أن يحدّثنا عن تاريخ الحركة الرّساليّة، من دون دخولٍ في التّفاصيل، لنستلهم من ذلك صلابة الموقف أمام التحدّي، وطبيعة الذهنيّة الكافرة المتحجّرة التي لا تنفتح للحقّ والحوار.

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} الّذين أغفل الله ذكر ملامحهم الشخصيّة في أسمائهم وصفاتهم، كما أغفل ذكر اسم القرية وموقعها، لأنّ القصّة ليست لتفصيل التّاريخ، بل لأخذ العبرة. وتحدّث المفسّرون عن أنّ هؤلاء المرسلين هم من حواريّي عيسى(ع)، ولكنّهم ذكروا تفاصيل القصّة بما لا يتّفق مع أجواء هذه الآيات، مما لا جدوى في تحقيقه والجدل فيه.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} وقيل: إنّهم ضربوهما وعذّبوهما وكادوا يقتلونهما.

{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وقيل: إنّه شمعون وصيّ عيسى الّذي أرسله ليخلّصهما، {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}، لندعوكم إلى توحيد الله وعبادته والسّير على نهجه القويم وصراطه المستقيم، ولكنّ القوم من أهل القرية كانوا خاضعين لفكرة خاطئة في تصوّر شخصيّة الرّسول الّذي ينبغي أن يكون ملاكاً في نظرهم، ولا يمتّ إلى البشر بصلة.

وعلى ضوء ذلك، لا يمكن أن يكون هؤلاء رسلاً، لأنهم بشر كبقيّة البشر، فـ{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ} مما تدّعونه من الوحي الّذي تحملونه وتريدون أن تبلّغونا إيّاه {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}، لتحصلوا على مكانة اجتماعيّة مميّزة بيننا، من خلال القداسة الّتي تصفون بها موقعكم.

{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فليست القضيّة موضع تردّدٍ لدينا، بل هي الحقيقة الواضحة، ولذلك فلن يجعلنا هذا الأسلوب الرّافض للرّسالة في موقع التّراجع، لأنّنا نملك شهادة الله الّتي هي فوق كلّ شهادة، فهو الّذي أرسلنا، وهو الّذي يعلم صفتنا الرّساليّة، فلا قيمة لتكذيب أيّ مكذّب أو تشكيك أيّ مشكّك، وستظهر الحقيقة في نهاية المطاف، وسنتابع السّير على هذا الأساس، {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}، فتلك هي مهمّتنا الّتي نقوم بها في ساحتكم، لتقوم الحجّة عليكم من الله الّذي سوف يحاسبكم على كلّ ما تقومون به من جحود وكفران...[تفسير من وحي القرآن، ج19، ص:134].

وتلك هي مسؤوليّة الدّعاة إلى الله في كلّ عصر ومكان، في الثّبات والصّبر ومواجهة التحدّيات، والتمسّك بالحقّ، والعمل على إعلاء كلمة الله، كلمة التوحيد، في مواجهة الظّالمين والمنحرفين عن خطّ عبادة الله، الّذين سيطرت الغفلة على عقولهم وقلوبهم، فتمادوا في معصية الخالق من دون إعمال العقل والفطرة السّليمة الدالّة على وجوده ونعمه وسلطانه.

إنّها التّضحية المستمرّة في سبيل نصرة الحقّ والحقيقة، وقول كلمة العدل، رغم غفلة النّاس وسبات العقل الجمعيّ في صنميّات الأشخاص وسلطان المظاهر...

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


من القصص المذكورة في القرآن الكريم، قصّة "أصحاب القرية". يقول تعالى في محكم آياته المباركة: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[يس:13-17].

يخاطب المولى عزّ وجلّ رسوله الكريم(ص)، بأن يضرب لقومه الّذين كذّبوه مثلاً "أصحاب القرية"، وهؤلاء، بحسب بعض الرّواة والمفسّرين، أهل مدينة أنطاكية القريبة من مدينة حلب اليوم، وكان بها كما يروي ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، ملك يقال له "أنطيخس بن أنطيخس"، وكان يعبد الأصنام، فبعث إليه ثلاثة من الرّسل، وهم "صادق" و"صدوق" و"شلوم"، فكذّبهم، وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة والزّهري، أنّ القرية هي "أنطاكية" وقد استشكل بعض العلماء في أن تكون أنطاكية.

قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرّسولين الأولين شمعون ويوحنا، واسم الثّالث بولس، والقرية أنطاكية.

وأنطاكية من أقدم مدن الشّام، بنيت بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد، ويقال بأنّ السيّد المسيح(ع) أرسل رسله إليها لنشر تعاليمه فيها.

ويحدّثنا الله تعالى في هذه الواقعة التاريخيّة، عن الإيمان القويّ لهؤلاء الرّسل، وعزيمتهم الصّلبة في مواجهة تحدّيات المشركين، وفي دعوتهم لعبادة الواحد الأحد، وتوحيده والإخلاص له، ولقد تحمّلوا الكثير من المشاقّ والعذابات، وصبروا على الأذى في سبيل خدمة الرّسالة وفدائها بالموقف والسّلوك العمليّ الّذي يصدم الواقع المتحجّر نتيجة سيطرة العقلية الوثنيّة في تلك النواحي.

وفي معرض تفسيره للآيات المباركات، يقول سماحة المرجع الإسلامي السيّد محمد حسين فضل الله(رض): وهكذا ينقلنا القرآن إلى التّاريخ، حيث واجه المرسلون الدّعاة إلى الله المواقف الصعبة التي تتحدّاهم فيها قوى الكفر بكلّ أساليب التمرّد والجحود، فلا تستمع إليهم، ولا توافق على الدّخول في حوار معهم، ولكنّهم لا يتراجعون، بل يستمرّون في الدّعوة وإعلان الموقف، لأنّ كلمة الرّسالة لا بدّ من أن تُقال وتتحرّك مع الآذان الصمّاء والمواقف الرّافضة، لتفرض نفسها على الجوّ، أو لتنفذ من خلال ثغرةٍ طارئةٍ من هنا، ونافذةٍ مفتوحة على القلب من هناك، لتبدأ الطّريق من الموقع الصّغير، فالتّراجع في البداية أمام تحدّيات الآخرين، يفرض أن لا تبدأ الرّسالة، باعتبار أنّ القوى المضادّة تقف أمام البدايات لتهزمها، حتّى لا تفرض نفسها على السّاحة بعد ذلك.

وهكذا يريد القرآن أن يحدّثنا عن تاريخ الحركة الرّساليّة، من دون دخولٍ في التّفاصيل، لنستلهم من ذلك صلابة الموقف أمام التحدّي، وطبيعة الذهنيّة الكافرة المتحجّرة التي لا تنفتح للحقّ والحوار.

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} الّذين أغفل الله ذكر ملامحهم الشخصيّة في أسمائهم وصفاتهم، كما أغفل ذكر اسم القرية وموقعها، لأنّ القصّة ليست لتفصيل التّاريخ، بل لأخذ العبرة. وتحدّث المفسّرون عن أنّ هؤلاء المرسلين هم من حواريّي عيسى(ع)، ولكنّهم ذكروا تفاصيل القصّة بما لا يتّفق مع أجواء هذه الآيات، مما لا جدوى في تحقيقه والجدل فيه.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} وقيل: إنّهم ضربوهما وعذّبوهما وكادوا يقتلونهما.

{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وقيل: إنّه شمعون وصيّ عيسى الّذي أرسله ليخلّصهما، {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}، لندعوكم إلى توحيد الله وعبادته والسّير على نهجه القويم وصراطه المستقيم، ولكنّ القوم من أهل القرية كانوا خاضعين لفكرة خاطئة في تصوّر شخصيّة الرّسول الّذي ينبغي أن يكون ملاكاً في نظرهم، ولا يمتّ إلى البشر بصلة.

وعلى ضوء ذلك، لا يمكن أن يكون هؤلاء رسلاً، لأنهم بشر كبقيّة البشر، فـ{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ} مما تدّعونه من الوحي الّذي تحملونه وتريدون أن تبلّغونا إيّاه {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}، لتحصلوا على مكانة اجتماعيّة مميّزة بيننا، من خلال القداسة الّتي تصفون بها موقعكم.

{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فليست القضيّة موضع تردّدٍ لدينا، بل هي الحقيقة الواضحة، ولذلك فلن يجعلنا هذا الأسلوب الرّافض للرّسالة في موقع التّراجع، لأنّنا نملك شهادة الله الّتي هي فوق كلّ شهادة، فهو الّذي أرسلنا، وهو الّذي يعلم صفتنا الرّساليّة، فلا قيمة لتكذيب أيّ مكذّب أو تشكيك أيّ مشكّك، وستظهر الحقيقة في نهاية المطاف، وسنتابع السّير على هذا الأساس، {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}، فتلك هي مهمّتنا الّتي نقوم بها في ساحتكم، لتقوم الحجّة عليكم من الله الّذي سوف يحاسبكم على كلّ ما تقومون به من جحود وكفران...[تفسير من وحي القرآن، ج19، ص:134].

وتلك هي مسؤوليّة الدّعاة إلى الله في كلّ عصر ومكان، في الثّبات والصّبر ومواجهة التحدّيات، والتمسّك بالحقّ، والعمل على إعلاء كلمة الله، كلمة التوحيد، في مواجهة الظّالمين والمنحرفين عن خطّ عبادة الله، الّذين سيطرت الغفلة على عقولهم وقلوبهم، فتمادوا في معصية الخالق من دون إعمال العقل والفطرة السّليمة الدالّة على وجوده ونعمه وسلطانه.

إنّها التّضحية المستمرّة في سبيل نصرة الحقّ والحقيقة، وقول كلمة العدل، رغم غفلة النّاس وسبات العقل الجمعيّ في صنميّات الأشخاص وسلطان المظاهر...

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير