هذا نداء علي (ع) في يوم الغدير

هذا نداء علي (ع) في يوم الغدير
 

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا..."

هذا نداء علي (ع) في يوم الغدير


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة/67). هذه الآية التي يروي الرواة أنها نزلت على النبي(ص) عند رجوعه من حجة الوداع، وهو في الصحراء، والأرض تلتهب من تحت أقدام المسلمين الذين كانوا معه لشدة الحرارة.

ختم الرسالة بأمر الولاية:

إن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية، هو الذي حفظ الإسلام وأهله، وهو الذي جمّد كل حركته في سبيل حقه من دون أن يلغي حقه.

إنها تقول للرسول(ص): لقد بلّغت الرسالة منذ أن بعثك الله تعالى رسولاً وهادياً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ولكنَ هناك أمراً بقي دون إبلاغ في ختام الرسالة، تُحفظ به الرسالة، وتتأصّل وترتبط به، هو أمر الولاية، حيث لا بدَّ من وليّ لهذه المسيرة الإسلامية، وهو ليس مجرد شخص من الصَّحابة، بل يجب أن يكون شخصاً يمثل كل عناصر شخصيتك الرسالية لا الذاتية، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يملك من الرُّوحانية التي تفيض باستمرار من خلال علاقته بالله، لا بدّ من أن يكون إنساناً باع نفسه لله ليكون عبداً له، كما بعت نفسك أنت لله وكنت عبده ورسوله، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يعيش في حياته كل أخلاقيتك وروحانيتك منذ طفولته الأولى حتى شبابه وكهولته، لا بد من أن يكون شخصاً يملك من علمك الذي ألهمك الله إيَّاه وأفاضه عليك من خلال تلمّذه عليك واستماعه لكلِّ ما قلت، ولكل ما أوحى الله به إليك.

لا بدَّ من أن يكون شخصاً أعطى الإسلام كل جهده وحياته وكل عبقريته الفكرية والروحية، وكلّ جهاده من خلال حركة سيفه في سبيل الإسلام، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يتجسّد الإسلام فيه ويفيض من خلال كل عناصر شخصيته حتى يكون الإيمان مجسّداً، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يحبّ الله ورسوله، من خلال التزامه بالله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله من خلال طاعته لله ورسوله، لا بدَّ من أن يكون شخصاً هو أنت في كلِّ مناقبيتك، ويملك كل ثقافة الإدارة للدولة عندما يتسلّمها، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يعيش المسؤولية الكبرى عن المسلمين جميعاً كما عن الإسلام كله، سواء كان في داخل الخلافة أو خارجها، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يمكن أن يواصل مسيرتك ليمنحها كلَّ عناصر شخصيتك، ليرتفع بالناس إلى الله كما ارتفعت بالناس إلى الله، فمَن هو هذا الشخص الّذي يملك المواصفات؟

على نهج الرسول(ص) وخطاه:

وننطلق لنفحص ذلك، هناك الكثيرون من الصحابة الذين أخلصوا لله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}(الفتح/29)، في الصَّحابة الكثيرون ممن جاهدوا ورافقوا وأطاعوا، ولكنَّ عليّاً(ع) وجه آخر، فقد عاش معك منذ طفولته، وانطبعت شخصيته بشخصيتك، كنت تحضنه وتعطيه في كل يوم خلقاً من أخلاقك، كان أول من صلّى لله بعدك، عاش في بيتك وكان يجلس إليك لتحدّثه عن الوحي كله، الوحي الكلمة، والوحي المعنى والتفسير، كان رفيقك، كان الإنسان الذي قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم»، ولم يكن يستظهر هذا العلم استظهاراً في حفظه له، بل كان ينتج من هذا العلم علماً آخر: «يُفتح لي من كلّ باب ألف باب».

وعليّ(ع) هو الإنسان الذي عاش الحقَّ كله، حتى كان الحق هدفه كما كان الحق هدفك، وكان يقول لابن عباس وهو يخصف نعله: «أترى إلى هذه النعل، إنها أعظم من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»، وكان يقول: «لأبقرنَّ الباطل حتى أُخرج الحقَّ من خاصرته». كان لا يهادن ولا يحابي ولا يجامل في الحق، لأنَّ الحق هو الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}(الحج/62)، ورصدتَ أنت ذلك في عليّ، فقلت: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار».

كان الإنسان الذي عاش حروب الإسلام، لم تكن الحرب مهنة لعليّ(ع) أو شهوةً له، بل كانت كما يقول: «والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها»، ورأيناك في معركة الأحزاب تقول لعلي(ع) بعد أنّ برز لعمرو بن عبد ودّ الذي تهيَّبه المسلمون: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»، كان إيماناً يتجسّد ويتحرك، وأعلنتَ عن قيمة علي في موقعك وحياتك ورسالتك: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}(الأنبياء89)، وعندما انتصر على عمرو بن عبد ودّ قلت: «ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»، لأن عمرو لو انتصر على المسلمين آنذاك، لما بقي الإسلام، وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ.

وفي معركة خيبر، عندما تراجع بعض المسلمين عن القلعة اليهودية قلت: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرَّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه»، وكان عليّ أرمد العين، وكان بصاقك هو الدواء الذي فتح عينيه، واندفع عليّ(ع) وقتل مرحب وأخذ الباب بيديه وقلعه، وهو يقول عن ذلك: «والله ما قلعت باب خيبر بقوة بشرية، ولكن بقوة ربانية...».

لقد رأيت وعرفت ـ يا رسول الله ـ أنه ليس هناك كفؤ لابنتك سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع) إلا عليّ (ع)، لأنها تعلّمت من حيث تعلّم، ولأنها عاشت عقلك كما عاش عقلك، ولأنها أخذت من علمك كما أخذ من علمك، وعاشت روحانيتك كما عاش روحانيتك، وقلت: «لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ»، لأنها ليست مجرد شابة تنتسب إليك، ولكنها إنسانة تملك من العلم والوعي والروحانية والعصمة ما لا تملكه امرأة من نساء المسلمين، كانت تحبّ الناس، ولذلك كانت تقول وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات: «الجار ثم الدّار»، وكانت مع عليّ (ع) عندما أنزل الله بهما: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}(الإنسان/8-9).

ولاية علي(ع): وكنت تقول له: «يا علي، إنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، ولذلك أنزل الله إليك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ـ في علي وفي ولايته ـ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ـ وإذا كنت تخاف أن يقول الناس إنه ولّى ابن عمه وصهره ـ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، في نهاية المطاف، كما عصمك من الناس في البداية. ووقف رسول الله، ورفع علياً حتى بان بياض إبطيهما للنَّاس، وقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، فهو يملك من الناس بولايته ما لا يملكونه من أنفسهم، هذه الولاية التي جعلها الله له أراد الله له أن يجعلها لعليّ، فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت وليّه فهذا عليّ وليّه، من كنت أولى به من نفسه فهذا عليّ أولى به من نفسه ـ اللهم والِ من ولاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار»، وأراد للناس أن يبايعوه بإمرة المؤمنين.

هدف عليٍّ(ع) الأسمى حفظ الإسلام:

ودارت الأيام، واختلطت الأوراق، وتحركت العصبيات، وأُبعد عليّ وهُدد في بيته، ولكنه لم يتعقّد، كانت قضيّة عليّ (ع) قضيّة الإسلام، لم تكن قضيّته أن يكون خليفة، بل كيف يحفظ الإسلام، وهذا ما عبّر عنه(ع) في قوله: «فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه».وكان(ع) يقول : «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة».

كان(ع) يفكِّر في المسلمين وفي سلامتهم، وسلامة الإسلام في سلامة المسلمين، ولذلك أعطى كلَّ جهده وعلمه وخبرته ورعايته للذين تقدّموه، نصحهم وأشار عليهم وأنقذهم من أكثر من مأزق، حتى قال الخليفة الثاني: «لولا عليّ لهلك عمر». كان(ع) لا يفكر في العقدة والذات، بل كان يفكر في الله ورسوله والإسلام، ولذلك فإن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية، هو الذي حفظ الإسلام وأهله، وهو الذي جمّد كل حركته في سبيل حقه من دون أن يلغي حقه.

الاحتفال بالغدير: عنوان للوحدة الإسلامية:

إننا عندما نحتفل بالولاية والغدير علينا أن ندرك أن إمام الولاية وصاحبها يريد للذين يتحركون في خط ولايته أن يحافظوا على الوحدة الإسلامية في مواجهة الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام وأهله

إننا عندما نحتفل بالولاية والغدير، علينا أن ندرك أنَّ إمام الولاية وصاحبها يريد للذين يتحركون في خط ولايته أن يحافظوا على الوحدة الإسلامية في مواجهة الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام وأهله، والذين يريدون أن يستغلوا الاختلافات المذهبية من أجل إسقاط الإسلام وأهله. كان(ع) يمثل وعي الوحدة الإسلامية، ويجسّد قولـه تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}(آل عمران/103).لذلك، فإنَّ الذين يسيئون إلى وحدة المسلمين ويثيرون الفتنة بينهم، والذين يريدون أن يمزّقوا الأمة الإسلامية، هم خائنون لعليّ وخائنون للإسلام كله..

لقد قلنا أكثر من مرة: ليس معنى الوحدة الإسلامية أن نقول للشيعي كن سنيّاً وتنازل عن خطك الإيماني، أو نقول للسنّي كن شيعيّاً، لكن علينا أن نلتقي على كتاب الله وسنّة نبيّه، وعلى الإسلام كله، وإن تنازعنا في شيء فإن علينا أن نردّه إلى الله والرسول، وإذا كان الله تعالى يقول لنا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(آل عمران/64)، فكيف لا نقول لأهل القرآن: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، وإذا كان الله يقول لنا: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(العنكبوت/46)، فكيف لا نقول لأهل القرآن: تعالوا في جدالنا المذهبي لنتجادل بالتي هي أحسن!؟

لقد عاش عليّ(ع) أقسى ما عاشه إنسان في حركته من أجل الإسلام، ولكنه صبر في سبيل خدمة الإسلام وأهله، وكان يقول: «فلولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز»، لأن الدنيا لا تمثل شيئاً عنده، وهو الذي كان يخاطبها ويقول: «يا دنيا غرّي غيري».

إننا في يوم الغدير نواجه كل هذه التحديات ضد الإسلام والمسلمين من خلال الاستكبار والمستكبرين، فعلينا أن نثبت حيث ثبت عليّ، وأن نصبر حيث صبر عليّ،

إننا في يوم الغدير نواجه كلَّ هذه التحديات ضد الإسلام والمسلمين من خلال الاستكبار والمستكبرين، فعلينا أن نثبت حيث ثبت عليّ، وأن نصبر حيث صبر عليّ، وعلينا أن نعيش الوعي في مصلحة الإسلام والمسلمين كما عاش عليّ الوعي، فالإخلاص له بأن نسير خلفه وفي مسيرته، وأن نعيش مع كل ما قاله وفعله، وعليّ هو الإنسان الذي ارتفع إلى الله حتى كان في مواقع القرب منه، وعلينا أن نرتفع بعليّ كما نرتفع برسول الله إلى الله، لأن القضية هي أن نكون لله، وأن نعمل على أساس رضى الله تعالى، لنكون مع عليّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والحمد الله الذي جعلنا من المتمسكين بالإسلام في خط ولاية عليّ والأئمة من أهل بيته (ع).

الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة، ونسأل الله أن يوفّقنا للسير على ولايته، والحصول على شفاعته، ونردِّد مع الشاعر :

يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله...اتقوا الله، وواجهوا مسؤولياتكم في خط حماية الإسلام والمسلمين والمستضعفين في مواجهة الاستكبار كله والمستكبرين كلهم، لتكون كلمة الله هي العليا كما هي كذلك، وكلمة الشيطان هي السفلى كما هي كذلك، ولننطلق من أجل أن نتحمّل مسؤولياتنا في كل حالات الصراع التي تتحرك في كل ساحات العالم ضد الإسلام والمسلمين، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

زيف الشعارات الاستكبارية في الحرية والديمقراطية:

إنني أتوجه إلى أهلنا في فلسطين بنداء إسلامي مفاده: بأن عليكم أن تثبتوا للعالم بأنكم الشعب الذي يقهر الاحتلال في الانتخابات كما قهره في المواجهات الجهادية اليومية.

لا تزال فلسطين تنزف من دماء شهدائها وجرحاها، وتعاني من اعتقال شبابها ومن تدمير أوضاعها السياسية والاقتصادية، وأمريكا تتفرّج على الشعب الفلسطيني وتنافق بالكلمات المعسولة التي لا تنتج شيئاً إيجابياً، وأوروبا تسير على خطى الأمريكيين، فتلتقي معهم في التهديد بقطع المساعدات المالية إذا نجحت حركة حماس في الانتخابات وشاركت في الحكومة، لأنها لا تحترم إرادة الشعب في اختياراته السياسية على الرغم من شعاراتها الاستهلاكية في الدعوة إلى احترام الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان وقضية الحرية للشعوب.

إننا نلاحظ أن الأمريكيين والأوروبيين سارعوا إلى استنكار العملية الاستشهادية الأخيرة في تل أبيب، والتي جاءت كردٍّ على عمليات القتل الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين، ولم يكلّفوا أنفسهم قبلها أن يتوجّهوا بكلمة نقد واحدة لإسرائيل في مجازرها الأخيرة، والتي قتلت فيها الفلسطينيين في بيوتهم، حيث قتلت الأم والابن كما قتلت الشباب والشيوخ، في سلسلة الاغتيالات المستمرة التي لا تفرّق فيها بين مدني وغير مدني.

الفلسطينيون قادرون على قهر الاحتلال:

إن أمريكا وأوروبا تلتقيان مع الحكومة الصهيونية في اعتبار القضية الفلسطينية مسألة أمنية تتصل بالمقاومة، لا مسألة سياسية ترتبط بالتحرير، ولذلك فإنها لا توافق على المفاوضات السياسية النهائية إلا على أساس تدمير البنية التحتية للمقاومة، بهدف إثارة الفتنة بما يقترب من الحرب الأهلية في الداخل الفلسطيني، ما يحقق لإسرائيل الانتصار بدون حرب.

إننا نريد أن نقول للفلسطينيين إنّ عليكم الاختيار الصحيح، أن تختاروا من تجدونه أهلاً للتمثيل وأهلاً لحماية القضية الفلسطينية وقضية التحرير، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي، على أساس الرد على الضغوط الأمريكية والأوروبية التي لا تتحرك لخير الشعب كله.

إنني أتوجه إلى أهلنا في فلسطين بنداء إسلامي مفاده: إنّ عليكم أن تثبتوا للعالم أنّكم الشعب الذي يقهر الاحتلال في الانتخابات كما قهره في المواجهات الجهادية اليومية. وأتوجّه إلى الدول والشعوب العربية والإسلامية أن يقفوا مع الشعب الفلسطيني ويساعدوه في حاجاته إذا نفّذت أمريكا وأوروبا تهديداتهما في قطع المساعدات عنه.

بالوحدة والحوار يتم إخراج المحتل:

نريد للشعب العراقي الجريح أن ينطلق بوحدته الوطنية لمواجهة ذلك كله، والوقوف بوعي ضد الذين يثيرون الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، ليتحرك الحوار بدلاً من العنف الكلامي والعملي

أما العراق الذي يخرج من تفجير انتحاري ضدّ الأبرياء الآمنين الذين حرّم الله قتلهم أو الاعتداء عليهم، ليدخل في تفجير آخر يستبيح فيه الاحتلال والتكفيريون دماء أبنائه، فإننا نريد للشعب العراقي الجريح، أن ينطلق بوحدته الوطنية لمواجهة ذلك كله، والوقوف بوعي ضد الذين يثيرون الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، ليتحرك الحوار بدلاً من العنف الكلامي والعملي، والتخطيط لحكومة وحدة وطنية يشعر فيها الجميع بالمشاركة الحقيقية التي تجعلهم يشعرون بمسؤوليّتهم عن العراق كلّه، للوصول إلى إخراج المحتلّ من البلد، وإسقاط الإرهاب في مجازره الوحشية، ليعود العراق إلى دوره الطبيعي على المستوى العربي والإسلامي في صناعة الحضارة والانفتاح على المستقبل كله.

على العرب محاورة إيران في مشروعها النووي:

وتعود مسألة المشروع النووي السلمي الإيراني إلى واجهة الأحداث، أمام الضجيج الأمريكي والأوروبي والإسرائيلي الذي يثير الشك في خلفيات المشروع، واتهام إيران بأنها تهدف إلى صنع السلاح الذري، على الرغم من تصريح أعلى مسؤول لديها بنفي ذلك، في الوقت الذي نعرف أنّ كل هؤلاء يملكون السلاح الذري في أعلى مستوياته، ولا يحرّكون ساكناً ضد إسرائيل التي تملك ترسانة نووية كبرى تهدد المنطقة كلها، لأنهم لا يريدون للدول الإسلامية أن تحصل على الخبرة العلمية.

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ ندعو الدول العربية والإسلامية إلى أن لا تسقط أمام الدعاية الأمريكية في إثارة الخوف والقلق من المشروع الإيراني، بل أن تدخل في حوار مع إيران لتتعرّف حقيقة المشروع في نطاقه السلمي، وتحاول توجيه الاحتجاج إلى الواقع الإسرائيلي الذي يمثل الخطر بأعلى مستوياته إلى جانب التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في الاستراتيجية العسكرية النووية.

أما لبنان، فلا يزال السِّجال بين الفرقاء يتحرك في عملية إثارة الانفعال السياسي الذي يمزّق الوحدة الوطنية، وتحريك قاموس الشتائم وإسقاط كل المشاريع المتجهة نحو الحلول الواقعية بين سوريا ولبنان، بل بين اللبنانيين في الداخل، من خلال التدخّلات السلبية الأمريكية التي تمنع اللبنانيين من التوافق والتواصل والتكامل، وتوجّه الموقف إلى إثارة المخاوف من غضب محور دولي هنا وهناك لمصلحة هذه الدولة وتلك في حساباتها الإقليمية، للضغط على الواقع العربي في أكثر من موقع، تحت شعار احترام الشرعية الدولية التي تمثل في خلفياتها السياسية الضاغطة "الشرعية" الأمريكية المسيطرة على مجلس الأمن، بما في ذلك بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

إننا ندعو الدول العربية والإسلامية إلى أن لا تسقط أمام الدعاية الأمريكية في إثارة الخوف والقلق من المشروع الإيراني، بل أن تدخل في حوار مع إيران لتتعرّف حقيقة المشروع في نطاقه السلمي

إن هناك في الساحة السياسية دعوة للحوار بين الفرقاء في الإعلام بمختلف أجهزتها، وفي المجلس النيابي، ولكننا نلاحظ أن الكل قد استنفد كل طروحاته بحيث لم يعد هناك ما يملك الحديث عنه في جلسات الحوار، وأن المسألة لم تكن مسألة تحريك الحوار للوصول إلى قاسم مشترك، بل كانت عملية تسجيل النقاط هنا وهناك، الأمر الذي يُراد منه إثارة الضجيج على طريقة ما يقترب من حوار الطرشان من خلال سياسة الغالب والمغلوب، أو التهرّب من الاعتراف بتوقيع اتفاق هنا وهناك تحت تأثير بعض المواقف والمواقع المتأرجحة.

والمشكلة أن الحكومة الجديدة التي اعتبرت أنها تصنع العصر الجديد، لم تبدأ بالتخطيط الاقتصادي الذي يحلُّ مشكلة البلد في قضاياه المعيشية والصناعية والزراعية، أو بمحاسبة الذين سرقوا البلد في الماضي ممن قد يملكون بعض المواقع في الحاضر، أو الذين انطلقوا في عملية الهدر التي أدخلت البلد في المديونية والإفلاس والجوع والحرمان، لأنَّ الجميع في لبنان مشغولون بالتراشق الكلامي والحوارات التلفزيونية والصحافية، بما يقترب من الحديث عن جنس الملائكة، والدخول في كهوف التعليمات المتنوّعة للسفارات هنا وهناك .ثم يحدّثونك عن لبنان الجديد والحرية والاستقلال؟!

 

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا..."

هذا نداء علي (ع) في يوم الغدير


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة/67). هذه الآية التي يروي الرواة أنها نزلت على النبي(ص) عند رجوعه من حجة الوداع، وهو في الصحراء، والأرض تلتهب من تحت أقدام المسلمين الذين كانوا معه لشدة الحرارة.

ختم الرسالة بأمر الولاية:

إن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية، هو الذي حفظ الإسلام وأهله، وهو الذي جمّد كل حركته في سبيل حقه من دون أن يلغي حقه.

إنها تقول للرسول(ص): لقد بلّغت الرسالة منذ أن بعثك الله تعالى رسولاً وهادياً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ولكنَ هناك أمراً بقي دون إبلاغ في ختام الرسالة، تُحفظ به الرسالة، وتتأصّل وترتبط به، هو أمر الولاية، حيث لا بدَّ من وليّ لهذه المسيرة الإسلامية، وهو ليس مجرد شخص من الصَّحابة، بل يجب أن يكون شخصاً يمثل كل عناصر شخصيتك الرسالية لا الذاتية، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يملك من الرُّوحانية التي تفيض باستمرار من خلال علاقته بالله، لا بدّ من أن يكون إنساناً باع نفسه لله ليكون عبداً له، كما بعت نفسك أنت لله وكنت عبده ورسوله، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يعيش في حياته كل أخلاقيتك وروحانيتك منذ طفولته الأولى حتى شبابه وكهولته، لا بد من أن يكون شخصاً يملك من علمك الذي ألهمك الله إيَّاه وأفاضه عليك من خلال تلمّذه عليك واستماعه لكلِّ ما قلت، ولكل ما أوحى الله به إليك.

لا بدَّ من أن يكون شخصاً أعطى الإسلام كل جهده وحياته وكل عبقريته الفكرية والروحية، وكلّ جهاده من خلال حركة سيفه في سبيل الإسلام، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يتجسّد الإسلام فيه ويفيض من خلال كل عناصر شخصيته حتى يكون الإيمان مجسّداً، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يحبّ الله ورسوله، من خلال التزامه بالله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله من خلال طاعته لله ورسوله، لا بدَّ من أن يكون شخصاً هو أنت في كلِّ مناقبيتك، ويملك كل ثقافة الإدارة للدولة عندما يتسلّمها، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يعيش المسؤولية الكبرى عن المسلمين جميعاً كما عن الإسلام كله، سواء كان في داخل الخلافة أو خارجها، لا بدَّ من أن يكون شخصاً يمكن أن يواصل مسيرتك ليمنحها كلَّ عناصر شخصيتك، ليرتفع بالناس إلى الله كما ارتفعت بالناس إلى الله، فمَن هو هذا الشخص الّذي يملك المواصفات؟

على نهج الرسول(ص) وخطاه:

وننطلق لنفحص ذلك، هناك الكثيرون من الصحابة الذين أخلصوا لله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}(الفتح/29)، في الصَّحابة الكثيرون ممن جاهدوا ورافقوا وأطاعوا، ولكنَّ عليّاً(ع) وجه آخر، فقد عاش معك منذ طفولته، وانطبعت شخصيته بشخصيتك، كنت تحضنه وتعطيه في كل يوم خلقاً من أخلاقك، كان أول من صلّى لله بعدك، عاش في بيتك وكان يجلس إليك لتحدّثه عن الوحي كله، الوحي الكلمة، والوحي المعنى والتفسير، كان رفيقك، كان الإنسان الذي قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم»، ولم يكن يستظهر هذا العلم استظهاراً في حفظه له، بل كان ينتج من هذا العلم علماً آخر: «يُفتح لي من كلّ باب ألف باب».

وعليّ(ع) هو الإنسان الذي عاش الحقَّ كله، حتى كان الحق هدفه كما كان الحق هدفك، وكان يقول لابن عباس وهو يخصف نعله: «أترى إلى هذه النعل، إنها أعظم من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»، وكان يقول: «لأبقرنَّ الباطل حتى أُخرج الحقَّ من خاصرته». كان لا يهادن ولا يحابي ولا يجامل في الحق، لأنَّ الحق هو الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}(الحج/62)، ورصدتَ أنت ذلك في عليّ، فقلت: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار».

كان الإنسان الذي عاش حروب الإسلام، لم تكن الحرب مهنة لعليّ(ع) أو شهوةً له، بل كانت كما يقول: «والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها»، ورأيناك في معركة الأحزاب تقول لعلي(ع) بعد أنّ برز لعمرو بن عبد ودّ الذي تهيَّبه المسلمون: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»، كان إيماناً يتجسّد ويتحرك، وأعلنتَ عن قيمة علي في موقعك وحياتك ورسالتك: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}(الأنبياء89)، وعندما انتصر على عمرو بن عبد ودّ قلت: «ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»، لأن عمرو لو انتصر على المسلمين آنذاك، لما بقي الإسلام، وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ.

وفي معركة خيبر، عندما تراجع بعض المسلمين عن القلعة اليهودية قلت: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرَّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه»، وكان عليّ أرمد العين، وكان بصاقك هو الدواء الذي فتح عينيه، واندفع عليّ(ع) وقتل مرحب وأخذ الباب بيديه وقلعه، وهو يقول عن ذلك: «والله ما قلعت باب خيبر بقوة بشرية، ولكن بقوة ربانية...».

لقد رأيت وعرفت ـ يا رسول الله ـ أنه ليس هناك كفؤ لابنتك سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع) إلا عليّ (ع)، لأنها تعلّمت من حيث تعلّم، ولأنها عاشت عقلك كما عاش عقلك، ولأنها أخذت من علمك كما أخذ من علمك، وعاشت روحانيتك كما عاش روحانيتك، وقلت: «لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ»، لأنها ليست مجرد شابة تنتسب إليك، ولكنها إنسانة تملك من العلم والوعي والروحانية والعصمة ما لا تملكه امرأة من نساء المسلمين، كانت تحبّ الناس، ولذلك كانت تقول وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات: «الجار ثم الدّار»، وكانت مع عليّ (ع) عندما أنزل الله بهما: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}(الإنسان/8-9).

ولاية علي(ع): وكنت تقول له: «يا علي، إنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، ولذلك أنزل الله إليك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ـ في علي وفي ولايته ـ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ـ وإذا كنت تخاف أن يقول الناس إنه ولّى ابن عمه وصهره ـ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، في نهاية المطاف، كما عصمك من الناس في البداية. ووقف رسول الله، ورفع علياً حتى بان بياض إبطيهما للنَّاس، وقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، فهو يملك من الناس بولايته ما لا يملكونه من أنفسهم، هذه الولاية التي جعلها الله له أراد الله له أن يجعلها لعليّ، فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت وليّه فهذا عليّ وليّه، من كنت أولى به من نفسه فهذا عليّ أولى به من نفسه ـ اللهم والِ من ولاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار»، وأراد للناس أن يبايعوه بإمرة المؤمنين.

هدف عليٍّ(ع) الأسمى حفظ الإسلام:

ودارت الأيام، واختلطت الأوراق، وتحركت العصبيات، وأُبعد عليّ وهُدد في بيته، ولكنه لم يتعقّد، كانت قضيّة عليّ (ع) قضيّة الإسلام، لم تكن قضيّته أن يكون خليفة، بل كيف يحفظ الإسلام، وهذا ما عبّر عنه(ع) في قوله: «فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه».وكان(ع) يقول : «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة».

كان(ع) يفكِّر في المسلمين وفي سلامتهم، وسلامة الإسلام في سلامة المسلمين، ولذلك أعطى كلَّ جهده وعلمه وخبرته ورعايته للذين تقدّموه، نصحهم وأشار عليهم وأنقذهم من أكثر من مأزق، حتى قال الخليفة الثاني: «لولا عليّ لهلك عمر». كان(ع) لا يفكر في العقدة والذات، بل كان يفكر في الله ورسوله والإسلام، ولذلك فإن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية، هو الذي حفظ الإسلام وأهله، وهو الذي جمّد كل حركته في سبيل حقه من دون أن يلغي حقه.

الاحتفال بالغدير: عنوان للوحدة الإسلامية:

إننا عندما نحتفل بالولاية والغدير علينا أن ندرك أن إمام الولاية وصاحبها يريد للذين يتحركون في خط ولايته أن يحافظوا على الوحدة الإسلامية في مواجهة الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام وأهله

إننا عندما نحتفل بالولاية والغدير، علينا أن ندرك أنَّ إمام الولاية وصاحبها يريد للذين يتحركون في خط ولايته أن يحافظوا على الوحدة الإسلامية في مواجهة الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام وأهله، والذين يريدون أن يستغلوا الاختلافات المذهبية من أجل إسقاط الإسلام وأهله. كان(ع) يمثل وعي الوحدة الإسلامية، ويجسّد قولـه تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}(آل عمران/103).لذلك، فإنَّ الذين يسيئون إلى وحدة المسلمين ويثيرون الفتنة بينهم، والذين يريدون أن يمزّقوا الأمة الإسلامية، هم خائنون لعليّ وخائنون للإسلام كله..

لقد قلنا أكثر من مرة: ليس معنى الوحدة الإسلامية أن نقول للشيعي كن سنيّاً وتنازل عن خطك الإيماني، أو نقول للسنّي كن شيعيّاً، لكن علينا أن نلتقي على كتاب الله وسنّة نبيّه، وعلى الإسلام كله، وإن تنازعنا في شيء فإن علينا أن نردّه إلى الله والرسول، وإذا كان الله تعالى يقول لنا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(آل عمران/64)، فكيف لا نقول لأهل القرآن: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، وإذا كان الله يقول لنا: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(العنكبوت/46)، فكيف لا نقول لأهل القرآن: تعالوا في جدالنا المذهبي لنتجادل بالتي هي أحسن!؟

لقد عاش عليّ(ع) أقسى ما عاشه إنسان في حركته من أجل الإسلام، ولكنه صبر في سبيل خدمة الإسلام وأهله، وكان يقول: «فلولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز»، لأن الدنيا لا تمثل شيئاً عنده، وهو الذي كان يخاطبها ويقول: «يا دنيا غرّي غيري».

إننا في يوم الغدير نواجه كل هذه التحديات ضد الإسلام والمسلمين من خلال الاستكبار والمستكبرين، فعلينا أن نثبت حيث ثبت عليّ، وأن نصبر حيث صبر عليّ،

إننا في يوم الغدير نواجه كلَّ هذه التحديات ضد الإسلام والمسلمين من خلال الاستكبار والمستكبرين، فعلينا أن نثبت حيث ثبت عليّ، وأن نصبر حيث صبر عليّ، وعلينا أن نعيش الوعي في مصلحة الإسلام والمسلمين كما عاش عليّ الوعي، فالإخلاص له بأن نسير خلفه وفي مسيرته، وأن نعيش مع كل ما قاله وفعله، وعليّ هو الإنسان الذي ارتفع إلى الله حتى كان في مواقع القرب منه، وعلينا أن نرتفع بعليّ كما نرتفع برسول الله إلى الله، لأن القضية هي أن نكون لله، وأن نعمل على أساس رضى الله تعالى، لنكون مع عليّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والحمد الله الذي جعلنا من المتمسكين بالإسلام في خط ولاية عليّ والأئمة من أهل بيته (ع).

الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة، ونسأل الله أن يوفّقنا للسير على ولايته، والحصول على شفاعته، ونردِّد مع الشاعر :

يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله...اتقوا الله، وواجهوا مسؤولياتكم في خط حماية الإسلام والمسلمين والمستضعفين في مواجهة الاستكبار كله والمستكبرين كلهم، لتكون كلمة الله هي العليا كما هي كذلك، وكلمة الشيطان هي السفلى كما هي كذلك، ولننطلق من أجل أن نتحمّل مسؤولياتنا في كل حالات الصراع التي تتحرك في كل ساحات العالم ضد الإسلام والمسلمين، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

زيف الشعارات الاستكبارية في الحرية والديمقراطية:

إنني أتوجه إلى أهلنا في فلسطين بنداء إسلامي مفاده: بأن عليكم أن تثبتوا للعالم بأنكم الشعب الذي يقهر الاحتلال في الانتخابات كما قهره في المواجهات الجهادية اليومية.

لا تزال فلسطين تنزف من دماء شهدائها وجرحاها، وتعاني من اعتقال شبابها ومن تدمير أوضاعها السياسية والاقتصادية، وأمريكا تتفرّج على الشعب الفلسطيني وتنافق بالكلمات المعسولة التي لا تنتج شيئاً إيجابياً، وأوروبا تسير على خطى الأمريكيين، فتلتقي معهم في التهديد بقطع المساعدات المالية إذا نجحت حركة حماس في الانتخابات وشاركت في الحكومة، لأنها لا تحترم إرادة الشعب في اختياراته السياسية على الرغم من شعاراتها الاستهلاكية في الدعوة إلى احترام الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان وقضية الحرية للشعوب.

إننا نلاحظ أن الأمريكيين والأوروبيين سارعوا إلى استنكار العملية الاستشهادية الأخيرة في تل أبيب، والتي جاءت كردٍّ على عمليات القتل الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين، ولم يكلّفوا أنفسهم قبلها أن يتوجّهوا بكلمة نقد واحدة لإسرائيل في مجازرها الأخيرة، والتي قتلت فيها الفلسطينيين في بيوتهم، حيث قتلت الأم والابن كما قتلت الشباب والشيوخ، في سلسلة الاغتيالات المستمرة التي لا تفرّق فيها بين مدني وغير مدني.

الفلسطينيون قادرون على قهر الاحتلال:

إن أمريكا وأوروبا تلتقيان مع الحكومة الصهيونية في اعتبار القضية الفلسطينية مسألة أمنية تتصل بالمقاومة، لا مسألة سياسية ترتبط بالتحرير، ولذلك فإنها لا توافق على المفاوضات السياسية النهائية إلا على أساس تدمير البنية التحتية للمقاومة، بهدف إثارة الفتنة بما يقترب من الحرب الأهلية في الداخل الفلسطيني، ما يحقق لإسرائيل الانتصار بدون حرب.

إننا نريد أن نقول للفلسطينيين إنّ عليكم الاختيار الصحيح، أن تختاروا من تجدونه أهلاً للتمثيل وأهلاً لحماية القضية الفلسطينية وقضية التحرير، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي، على أساس الرد على الضغوط الأمريكية والأوروبية التي لا تتحرك لخير الشعب كله.

إنني أتوجه إلى أهلنا في فلسطين بنداء إسلامي مفاده: إنّ عليكم أن تثبتوا للعالم أنّكم الشعب الذي يقهر الاحتلال في الانتخابات كما قهره في المواجهات الجهادية اليومية. وأتوجّه إلى الدول والشعوب العربية والإسلامية أن يقفوا مع الشعب الفلسطيني ويساعدوه في حاجاته إذا نفّذت أمريكا وأوروبا تهديداتهما في قطع المساعدات عنه.

بالوحدة والحوار يتم إخراج المحتل:

نريد للشعب العراقي الجريح أن ينطلق بوحدته الوطنية لمواجهة ذلك كله، والوقوف بوعي ضد الذين يثيرون الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، ليتحرك الحوار بدلاً من العنف الكلامي والعملي

أما العراق الذي يخرج من تفجير انتحاري ضدّ الأبرياء الآمنين الذين حرّم الله قتلهم أو الاعتداء عليهم، ليدخل في تفجير آخر يستبيح فيه الاحتلال والتكفيريون دماء أبنائه، فإننا نريد للشعب العراقي الجريح، أن ينطلق بوحدته الوطنية لمواجهة ذلك كله، والوقوف بوعي ضد الذين يثيرون الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، ليتحرك الحوار بدلاً من العنف الكلامي والعملي، والتخطيط لحكومة وحدة وطنية يشعر فيها الجميع بالمشاركة الحقيقية التي تجعلهم يشعرون بمسؤوليّتهم عن العراق كلّه، للوصول إلى إخراج المحتلّ من البلد، وإسقاط الإرهاب في مجازره الوحشية، ليعود العراق إلى دوره الطبيعي على المستوى العربي والإسلامي في صناعة الحضارة والانفتاح على المستقبل كله.

على العرب محاورة إيران في مشروعها النووي:

وتعود مسألة المشروع النووي السلمي الإيراني إلى واجهة الأحداث، أمام الضجيج الأمريكي والأوروبي والإسرائيلي الذي يثير الشك في خلفيات المشروع، واتهام إيران بأنها تهدف إلى صنع السلاح الذري، على الرغم من تصريح أعلى مسؤول لديها بنفي ذلك، في الوقت الذي نعرف أنّ كل هؤلاء يملكون السلاح الذري في أعلى مستوياته، ولا يحرّكون ساكناً ضد إسرائيل التي تملك ترسانة نووية كبرى تهدد المنطقة كلها، لأنهم لا يريدون للدول الإسلامية أن تحصل على الخبرة العلمية.

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ ندعو الدول العربية والإسلامية إلى أن لا تسقط أمام الدعاية الأمريكية في إثارة الخوف والقلق من المشروع الإيراني، بل أن تدخل في حوار مع إيران لتتعرّف حقيقة المشروع في نطاقه السلمي، وتحاول توجيه الاحتجاج إلى الواقع الإسرائيلي الذي يمثل الخطر بأعلى مستوياته إلى جانب التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في الاستراتيجية العسكرية النووية.

أما لبنان، فلا يزال السِّجال بين الفرقاء يتحرك في عملية إثارة الانفعال السياسي الذي يمزّق الوحدة الوطنية، وتحريك قاموس الشتائم وإسقاط كل المشاريع المتجهة نحو الحلول الواقعية بين سوريا ولبنان، بل بين اللبنانيين في الداخل، من خلال التدخّلات السلبية الأمريكية التي تمنع اللبنانيين من التوافق والتواصل والتكامل، وتوجّه الموقف إلى إثارة المخاوف من غضب محور دولي هنا وهناك لمصلحة هذه الدولة وتلك في حساباتها الإقليمية، للضغط على الواقع العربي في أكثر من موقع، تحت شعار احترام الشرعية الدولية التي تمثل في خلفياتها السياسية الضاغطة "الشرعية" الأمريكية المسيطرة على مجلس الأمن، بما في ذلك بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

إننا ندعو الدول العربية والإسلامية إلى أن لا تسقط أمام الدعاية الأمريكية في إثارة الخوف والقلق من المشروع الإيراني، بل أن تدخل في حوار مع إيران لتتعرّف حقيقة المشروع في نطاقه السلمي

إن هناك في الساحة السياسية دعوة للحوار بين الفرقاء في الإعلام بمختلف أجهزتها، وفي المجلس النيابي، ولكننا نلاحظ أن الكل قد استنفد كل طروحاته بحيث لم يعد هناك ما يملك الحديث عنه في جلسات الحوار، وأن المسألة لم تكن مسألة تحريك الحوار للوصول إلى قاسم مشترك، بل كانت عملية تسجيل النقاط هنا وهناك، الأمر الذي يُراد منه إثارة الضجيج على طريقة ما يقترب من حوار الطرشان من خلال سياسة الغالب والمغلوب، أو التهرّب من الاعتراف بتوقيع اتفاق هنا وهناك تحت تأثير بعض المواقف والمواقع المتأرجحة.

والمشكلة أن الحكومة الجديدة التي اعتبرت أنها تصنع العصر الجديد، لم تبدأ بالتخطيط الاقتصادي الذي يحلُّ مشكلة البلد في قضاياه المعيشية والصناعية والزراعية، أو بمحاسبة الذين سرقوا البلد في الماضي ممن قد يملكون بعض المواقع في الحاضر، أو الذين انطلقوا في عملية الهدر التي أدخلت البلد في المديونية والإفلاس والجوع والحرمان، لأنَّ الجميع في لبنان مشغولون بالتراشق الكلامي والحوارات التلفزيونية والصحافية، بما يقترب من الحديث عن جنس الملائكة، والدخول في كهوف التعليمات المتنوّعة للسفارات هنا وهناك .ثم يحدّثونك عن لبنان الجديد والحرية والاستقلال؟!

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير