الكلمة السواء قاعدة للتعايش

الكلمة السواء قاعدة للتعايش

منهج التعارف القرآني

* يؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: {يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]. ما هي الأصول المنهجية لفقه التعارف التي تستوحونها من القرآن الكريم؟ وما هي مرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي.. وأساليب التفاهم والحوار مع الآخر المختلف التي يشي بها النص القرآني؟

ـ إن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكد عدة مسائل مهمة:

الأولى: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأن الإلغاء لا يغير شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشية، ما يعني أن العمل على إلغاء أو طمس الخصوصيات في التعامل الإنساني يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيات في المقابل يؤدي بدوره إلى مشاكل إضافية.

الثانية: إن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخلية التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، ولكن شرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية وتتحرك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس، الذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) حول العصبية، حيث قال: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم" (الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7).

الثالثة: إن تنوّع الخصوصيات الإنسانية قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كل شعب حاجةً للشعب الآخر من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفة وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فينتج التقارب والتلاقي اللذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانية على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني.

إن التعارف يمثل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطط له من مشاريع، أو يتطلع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثم على أسس التعاون المتنوع معه.. ونستوحي من ذلك، أن الإسلام لا يضع حاجزاً بين الناس في كل مواقع اللقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى، وقد طرح الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64]، كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46].

وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدعوة في الإسلام: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125]. ما يوحي بأن الآخر المختلف لا يمثل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خط مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة.

في هذا المجال، نلاحظ أن الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم} [فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.

وقد نلتقي في هذا الخط ـ المنهج ـ بالحديث الشريف: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، حيث يدعو المسلمين في إيحاءاته الواسعة، إلى الاستفادة من الآخرين الذين قد نختلف معهم في العقيدة، ولكنهم يملكون علماً نحتاج إليه، فنتعارف معهم للحصول عليه، ونتمثّل ذلك في كلمة الإمام علي(ع) في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: "خذ الحكمة أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدق المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج"، "الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق" (قصار الحكم/79-80).

وفي ضوء ذلك كله، يمكن تلخيص هذه الفكرة بالتأكيد على ثقافة التعايش الداخلي في اللقاء على واقع الوفاق، والحوار في مواقع الخلاف في الخصوصيات المختلفة في المتفرقات الجزئية، وفي الانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم التي تركز على الفهم المتبادل الذي يجعلنا نفهم وجهة نظره، كما هو في دائرته الفكرية، وفي الجدال معه حول الخلافات العامة والخاصة بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيته التي تفتح عقله وقلبه، وهو ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بالتي هي أحسن.

أسلوب معالجة الاختلاف

* الاختلاف سنّةٌ ماضية في الحياة البشرية {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}. وقد نهى القرآن عن النـزاع والتفرق الذي يفضي إلى تمزق المجتمع.. لكنه اعترف بالاختلاف وقبل التنوع والتعدد. ما هو الإطار القرآني للتعايش رغم التنوع والاختلاف؟

ـ لقد أكد الإسلام في القرآن رفض العدوان على الآخر، مما تكرر في أمثال قوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، ما يوحي بأن العلاقة به هي علاقة سلام من حيث المبدأ ما لم يقم الآخر بالعدوان. وعلى ضوء ذلك، فقد قبل الإسلام الآخر في المنطقة التي يملك فيها القوة والامتداد على مستوى السلطة، فأكّد التعايش مع أهل الكتاب، ورسم للتعايش مع غيرهم خطوطاً تعاقدية من ضمن النظام العام، كما أنه اعتبر الإنسان الآخر المختلف المسالم إنساناً يملك الحق في التعامل معه على أساس الإحسان والعدل من دون أن يحدد هويته العقيدية، الأمر الذي يوحي بأن الإسلام لا يمنع التعايش في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المتعددة مع الآخر المختلف في واقع التواصل الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة، وذلك هو قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين...} [الممتحنة:8].

أما الآخر المحارب أو المتحرك في خط الظلم والعدوان، فإن الموقف معه يختلف، لأنه يرفض التعايش القائم على احترام حق الآخر المسلم في دينه وفي وطنه، ولأنه لا يمتنع عن التعاون مع أعدائه ضده، فلا ولاية معه لأنه رفض الولاية الاجتماعية مع المسلم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:9]، لأن الولاية لهم في مثل هذه الحالة العدوانية تؤدي إلى أضرار ومفاسد في الواقع الإسلامي الأمني والسياسي، إضافة إلى تأثيرها السلبي على الجانب الثقافي في التزام المسلم بحماية موقعه الفكري في العقيدة وفي الخطوط الثقافية المتصلة بالمفاهيم العامة. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا} [العنكبوت:46]، باعتبار أن الظالم ليس رجل الحوار، بل هو رجل العدوان، وهنا تفرض واقعية العلاقة التعامل معه بأسلوبه الحاد للدفاع عن الموقع والخط والواقع.

ومن الملاحظ أن الآيتين لم تخصّصا فريق التواصل والتعايش بأي أحد، بل منحت مفهوم الفريق المسالم عنواناً له، ما يوحي بأن السلم هو الأصل في النظرة القرآنية إلى الآخر، أياً كانت الظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمع في العلاقات بين المسلمين وغيرهم، الأمر الذي يؤدي ـ حسب هذه الآية ـ إلى أن ينطلق التعايش من واقع السلم في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا سيما أن المسألة لا تنحصر في عقد الذمة، بل تشمل عقد المعاهدة، والتي تمتد إلى غير أهل الكتاب وفق المصلحة الإسلامية العليا في ذلك.

* تعتبر صحيفة المدينة، أو دستور المدينة، أول ميثاق للتعايش في الاجتماع الإسلامي دَوّنه الرسول(ص)، بغية بناء نسق تعاوني بين مختلف الفئات في مجتمع يضم المسلمين واليهود، وينتمي إلى قبائل شتى في المدينة المنورة. ما هي صيغ التعايش التي جسدتها المسيرة النبوية، ونمط الاجتماع الإسلامي في عصر البعثة الشريفة؟

ـ لقد كانت صحيفة المدينة بمثابة دستور يجسّد المبدأ الإسلامي العام الذي يفتح الأبواب أمام عقد ميثاق مع كلِّ الفئات المخالفة للمسلمين في الدين، وذلك على قاعدة المواطنة القائمة على العقد الاجتماعي في إطار العهد الذي يتحول من خلال التزام الشرعية الإسلامية به إلى عهد الله وميثاقه، بما يعنيه من التزام بالأمر الإلهي في الوفاء بالعقود والعهود.

إن مبدأ المواطنة هو أساس القانون العام الذي يحكم الأمة كلها، والذي يلاحظ حقوق الأقليات الدينية وربما غير الدينية في تأكيد الالتزامات العامة بالقانون الدستوري، والمراعاة لحقوقهم الدينية والإنسانية الخاصة، وقد طبق هذا المبدأ أو القانون بدقة، فلم يحدث في مدى الوجود اليهودي المسالم في المدينة أية حالة من حالات الاعتداء على اليهود في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم واستقرارهم في الوطن الإسلامي الجديد، ولم يتعرّض أحد لسوء، ولم يحدث ما يخالف أصول الصحيفة ـ المعاهدة، إلى أن نقض اليهود العهد، وتحالفوا مع المشركين في واقعة الأحزاب، ما جعل المسلمين في حل من الالتزام بالعهد، لأنهم تحوّلوا إلى حالة حرب ضد الأمن الإسلامي أخذت تشكل خطراً على الوجود.

إننا نعتقد أن دراسة هذا العهد الذي ساوى بين المسلمين واليهود في الحقوق العامة والواجبات الوطنية، يمكن أن تعطينا قاعدة للتعايش بين المسلمين وغيرهم، تستند إلى العهد المبني على التوافق بين الطرفين، من خلال روحية الاحترام المتبادل، وذلك بلحاظ الخصوصيات التي يملكها كل فريق في شؤونه الخاصة ضمن دائرته المعينة في نطاق الوطن الواحد، لنخرج من ذلك بأسلوب إسلامي مميز لبناء وإدارة الوطن المتنوع في خصوصياته الإنسانية، فلا يلغي العام الخاص، بل يتكاملان معاً، لتكون النتيجة تلك الصورة الإنسانية الرائعة التي تحمل عنوان الصورة البارزة "وحدة في التنوع"، أو "تنوع في الوحدة" في خط الحقوق العامة والخاصة، بحيث يتحرك التشريع ليمنح الأقليات حقوقاً إنسانية، لا تعزلهم عن المواطنين في دائرة الأكثرية، من خلال المشاركة في حقوق المواطنية العامة، ولا تبعدهم عن هوياتهم الدينية أو الفئوية في حرياتهم الخاصة بما لا يتنافى مع القانون العام.

إن قيمة صحيفة المدينة تتجلى في تطبيقها السليم على أرض الواقع، أي أن النظرية الإسلامية في التعايش على أساس قاعدة (العهد) تحركت مع سلامة التطبيق، بحيث لم يرتفع في كل تلك الفترة أي صوت يهودي يشكو من سوء المعاملة، ولم يحصل أي اختلال في النسيج الاجتماعي المتوازن بينهم وبين المسلمين، على الرغم من الدسائس الخفية التي كانوا يحركونها داخل المجتمع الإسلامي، من خلال إثارة العصبيات القديمة، واستعادة أحقاد الجاهلية الدموية، والأخطر تحالفاتهم السرية مع المنافقين، من دون أن يتحرك المسلمون للقيام بأي عمل سلبي، كأن يتم إخراجهم من دينهم بالقوة، حتى مع معرفة خططهم ومحاولاتهم المستمرة لإيجاد الشك والريبة لدى المسلمين في دينهم. مع هذا، كان النبي محمد(ص) يستقبلهم، ويستمع إلى حواراتهم، ويقبل الدعاوى الموجّهة ضد بعضهم البعض، بكل رحابة صدر، وبكل مسؤولية، حتى إنه كان يرجعهم إلى أحكامهم الشرعية في التوراة، حذراً من أن يفرض عليهم أي حكم إسلامي لا يعترفون به.

ولعلّ من الأمور التي حدثت في عهد النبي(ص)، والتي تشير إلى تميّز العدالة الإسلامية في تعامل النبي(ص) معهم، هو أن بعض المسلمين قام بسرقة بعض الناس، وحاول أهله إلصاق تهمة السرقة بيهودي، كالإتيان ببعض القرائن المزورة أو الشهادات الكاذبة، لتبرئة هذا المسلم، فأنزل الله قرآناً لتبرئة اليهودي، طالباً من النبي(ص) أن لا يدافع عن الخائنين من المسلمين، وأن لا يحكم ضد اليهودي البريء، في مدى تسعة آيات، بدأت بقوله تعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً}[النساء/105]، ما يوحي بأن حفظ حقوق اليهودي البريء، الذي يملك حق الدفاع عن حقوقه في المجتمع الإسلامي، بفعل مبدأ العدل الشامل، وبواسطة المعاهدة، هو من الأمور الإسلامية الحيوية، بالدرجة التي يتدخل فيها الوحي لتأكيد سلامة التطبيق في هذه القضية الحساسة التي حشدت فيها كل وسائل الإثبات ضد اليهودي، حتى لا يشعر المظلوم (ولو كان يهودياً) بأن الإسلام يقف إلى جانب الظالم (حتى لو كان مسلماً) ضده. وهذه مسألة غير عادية، لا سابق لها من حيث تدخل الوحي الإلهي لحسم الأمر بشأنها.

س: عرف التاريخ الإسلامي إكراهات إيديولوجية متنوعة سوغها فقهاء القصور السلطانية تلبية للنـزعات العدوانية لدى الطواغيت والسلاطين، على الرغم من أنها على الضد من قوله تعالى: { لا إكراه في الدين}، حيث يؤكد القرآن بوضوح عدم تحقيق الدين بالإكراه.. ما هو أثر مواقف الفقهاء الذين يبررون الإكراهات الايديولوجية في إفقار بعض قطاعات التراث الفقهي من روح التسامح التي اتسم بها الإسلام؟

ج: إن مشكلة بعض الفقهاء والمثقفين بالثقافة الإسلامية، أنهم يأخذون بالأساليب التجزيئية في دراسة المفاهيم الإسلامية، فيفصلون بعض أجزاء الفكرة عن بعضها، وهذا ما نلاحظه في الحديث عن مفهوم الصبر الذي قد يصل فهمهم له إلى الدعوة إلى الخضوع للظالم، باعتبار ذلك لوناً من ألوان الصبر، فيرفضون الثورة عليه، حتى مع توفر عناصرها في الواقع، في الوقت الذي نعرف أن للصبر دائرته في مرحلة التخطيط لتغيير الواقع، والتحضير الدقيق لعملية التنفيذ، ما يفرض إعطاء الساحة نوعاً من الهدوء الذي لا يكشف الخطة للأعداء، على الرغم من قسوة الواقع. وللصبر دائرته بعد نجاح الثورة لحماية إنجازاتها، والقيام بالتنفيذ الدقيق لمشروعها، عبر تطبيق النظرية على الواقع، ما يوحي أن الصبر لا يعني الجمود، بل يؤكد الفعل والحركة. وهكذا نلاحظ الأمر نفسه في فهمهم لمفردات ذم الدنيا والزهد، وأمثال ذلك من المفاهيم، ما يوحي بأنهم لاحظوا جانباً من الصورة ولم يلاحظوا كل جوانبها. وفي ضوء ذلك، فإن هؤلاء ربما درسوا بعض الآيات القرآنية المؤكدة على الشدة مع الكفار، أو الغلظة عليهم، فيأخذون المفهوم من ذلك كقاعدة للتعامل معهم في الحياة العامة على صعيد العلاقات، في الوقت الذي نعرف أن المورد في هذه الآيات مورد المواجهة في الحرب وفي ساحات الصراع، بدليل الآيات التي تتحدث عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وعن النصارى باعتبار أنهم أقرب الناس مودةً للذين آمنوا، وعن العفو والتسامح، وغير ذلك من أخلاقيات الإسلام التي لا تختص بجماعة دون جماعة.

لقد تحدَّث القرآن عن الحرب مع الكفار الذين واجهوا المسلمين بالعدوان ولم يقبلوا الدخول معهم في حالة السلم، على أساس التوافق في حل إنسانيّ قانوني يضمن للجميع العلاقة المتوازنة في الحقوق والواجبات، وبعد الانتصار في الحرب، شكل الدخول في الإسلام أو دفع الجزية والخضوع لشروط الذمة، وسيلة لتأكيد السيادة الإسلامية على الواقع، لأن هذا هو السبيل لدرء الخطر عن الواقع الإسلامي، ليمثل ذلك دخولاً إلى دائرة المواطنة الإسلامية، ولو كان ذلك بإعلان الإسلام ظاهرياً، أي عدم تطابق الظاهر مع الباطن. وهنا، لم تمثل الحرب إلا محطة طارئة في التحرك الإسلامي، استدعتها حماية أمن المسلمين وسلامتهم.

أما في حالة السلم، فإن القضية تتخذ بعداً آخر، وهو الدعوة إلى الإسلام بالوسائل الثقافية المتركزة على الأسلوب المنفتح على الحالة الذهنية والنفسية والواقعية للإنسان الآخر، وذلك بالحجة والبرهان والحكمة، التي تبحث عن الكلمة المعبرة والأسلوب الحسن والجو الحميم والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ما يشق الطريق إلى عقل الإنسان وقلبه من دون ضغطٍ أو إكراه، لأن الفكر لا يخضع للقوة المسيطرة الضاغطة، بل يخضع للإقناع الهادئ، الذي يخاطب في الإنسان حسه الإنساني في الإيحاء، والاحترام لذاته ولفكره، ليفتح لك عقله وقلبه، وليقبل عليك بإحساسه وشعوره.

ولذلك، فإن مشكلة هؤلاء الفقهاء ربما تتصل بذهنية ضيقة تخلط ما بين أسلوب الحرب وأسلوب السلم في مواجهة الإنسان المختلف في عقيدته عن عقيدة الإسلام، فيرون بعض أحكام الحرب كما لو كانت القاعدة العامة التي تحكم الأسلوب الإسلامي في التغيير. وقد تكون مشكلة هؤلاء تتمثّل في الخضوع للسلطة الظالمة التي تخطط لاضطهاد الآخرين بالإكراه وسياسة الضغط والقمع بالقوة، سواء كان ذلك في الدائرة الإسلامية في المذاهب المختلفة، أو في الدائرة الدينية في الأديان المتنوعة، أو في الدائرة السياسية في الاتجاهات المتعددة، لتصادر انتماءاتهم بطريقة متعسفة تسقط الموقف ولا تعالجه، فيحاول هؤلاء الفقهاء تنفيذ مخططات هذه السلطة وتعليماتها، في إكراه الآخرين على تغيير دينهم أو مذهبهم أو موقفهم السياسي، من خلال الفتاوى التي تبرر للظالم ظلمه، أو من خلال المفاهيم التي توحي إليه بأنه يملك الموقع الذي لا بد للناس أن يخضعوا له في استبداده.

إننا نتصور أن هؤلاء ربما تركوا بعض التأثيرات السلبية في داخل المجتمع الإسلامي، إن بفعل التصورات الخاطئة التي يزرعونها في الذهنية العامة للمسلمين، أو بسبب الضغط على الآخرين من غير المسلمين الذين يعيشون في داخل الأمة، أو في القيام بسجن الناس ـ بما فيهم المسلمون ـ لاختلافهم في الرأي مع السلطان الجائر، أو بارتكاب عمليات قتل لشبهة هنا وهناك لم تصل إلى مستوى الحجة، الأمر الذي ولّد إرباكاً في الواقع الإسلامي والتأثيرات في نظرة الآخرين إلى الإسلام.

على أنّ هذه السلبيات لم تصل إلى مستوى الظاهرة العامة بالنسبة إلى غير المسلمين من المواطنين في الدولة الإسلامية، بدليل أن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم لا يزالون يعيشون في المجتمعات الإسلامية بصفتهم الدينية، من دون أن يخضعوا لأي قهر ديني يفرض عليهم اختيار الإسلام كرهاً من قبل الدولة الإسلامية، أو من قبل المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، على الرغم من أنهم كانوا في مواقع الضعف ولم يكونوا في موقع القوة، حتى إننا نلاحظ أن اليهود الذين تحدث عنهم القرآن ـ في سلوكياتهم السلبية العامة ـ بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، عاشوا في المجتمع الإسلامي بأفضل أنواع العيش وأقرب حالات التعايش، حتى إنهم امتلكوا الحرية في السيطرة على مفاصل الاقتصاد الإسلامي، ومواقع العلم في ميادينه في الطب والترجمة وغيرها في دائرة اختصاصهم من دون عقدة، ولم نسمع أن يهودياً اضطهد في دينه، أو أخرج من وطنه في البلاد الإسلامية، في الوقت الذي كانوا يضطهدون من قبل الغرب، حتى على المستوى الديني، بقدر ما يتصل الأمر بنظرة المسيحيين إليهم.

إننا نتصور أن الذهنية الإسلامية للإنسان المسلم العادي، كانت أكثر انفتاحاً وتسامحاً على المستوى الديني مع أتباع الأديان الأخرى، ولا سيما مع الفتاوى الفقهية التي كانت تبيح للمسلمين الزواج من الكتابيات، ما سهل الاندماج الاجتماعي بين المسلمين والكتابيين على مستوى الأسرة، وما تنتجه من علاقات المصاهرة والقرابة ونحوها.

س: شاع استخدام الفتاوى كسلاحٍ بين الإسلاميين في هذا العصر.. وتعسف الذين لجأوا إلى هذا السلاح في توظيفه بنحو أضحى بعضهم يسعى إلى ممارسة عملية تفتيش عقائد من حيث يدري أو لا يدري.. فاستخدم مختلف وسائل التشهير والقذف وتحريض العامة من أجل التنكيل بمفكرين وعلماء دين مستنيرين.. ما السبيل لوقاية مجتمعاتنا من ذلك؟ وكيف يتسنى لنا إشاعة فضاء حر للبحث والتفكير في قضايا الإسلام والاجتماع الإسلامي؟

ج: إن السبيل إلى ذلك ـ في بعض مواقعه ـ هو عزل هؤلاء بطريقة مدروسة عن المواقع القيادية الفتوائية التي احتلوها، والتي من أسبابها استغراق المؤمنين في اعتبار الموقف القيادي المرجعي لا يحتاج إلا إلى ثقافة فقهية فحسب، حتى لو كانت لا تملك انفتاحاً على الثقافة الإسلامية الواسعة، سواء في الدراسات القرآنية، أو الكلامية، أو الأدبية المنفتحة على العنصر الفني في البلاغة، من خلال الذوق العرفي في فهم الكتاب والسنة، وحتى لو كانت أيضاً لا تملك انفتاحاً على التدقيق في فهم آراء المثقفين أو علماء الدين المفكرين، فضلاً عن عدم قراءة نتاجهم الثقافي، مكتفين في ذلك بالاعتماد على بعض الناس الذين لا يملكون الفهم المعرفي، أو الذين لا يملكون التقوى الدينية، ليشهدوا لهم بالجهل أو بالباطل.

إن على الأمة عزل هؤلاء والاتجاه إلى السير مع القيادات الواعية الموسوعية التي تملك الثقافة الفقهية والأصولية والقرآنية والعقائدية، وتملك المعرفة بالاتجاهات الفكرية المعاصرة في الساحة الإسلامية، والاطلاع على خلفيات هذا الفكر أو ذاك، بحيث تعمل على ترسيخ حالة من الوعي في عقول العامة من الناس، من أجل إيجاد ذهنية واسعة، وبذلك يتفعل ويتأصل دور عناصر القيادة الإسلامية التي تلبي التطلعات والحاجات التي تقتضيها ظروف الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي يعيش في دوامة الصراعات الفكرية والسياسة والاجتماعية في ساحة الواقع، وبذلك تنحسر حالة الخضوع للخطوط التقليدية التي ترجم الفكر الواعي بحجارة التخلّف.

إن بعض مشاكلنا هو أن الأوضاع التقليدية فرضت على الذهنية العامة تقديس غير المقدس وعصمة غير المعصوم. إن علينا التأكيد أن المعصومين في العقيدة الشيعية هم النبي(ص) والسيدة الزهراء(ع) والأئمة الاثنا عشر(ع)... ولا عصمة لغيرهم من حيث طبيعة الموقف، وليس هناك شخص ـ مهما علت درجته ـ فوق النقد، فللناس الحق في النقد الموضوعي لأية شخصية علمية أو مرجعية دينية أو سياسية أو اجتماعية، لأن ذلك هو سبيل الصلاح والإصلاح في المسلمين. إن القضية قضية وعي وتخلّف، وقضية تقوى في خط الاستقامة، وانحراف عن الخط المستقيم.

س: يكرِّس خطاب بعض الجماعات الإسلامية ظاهرة نفي الآخر، وتسرف تلك الجماعات في ذلك فتدعي أن تكفير أصحاب الرأي ومصادرة حريات الآخرين، هو حق منحه الله تعالى لها، وكأنها تستعيد نزعة التكفير لدى بعض الفرق التي ظهرت في التاريخ.. ما هي مناشئ هذا اللون من التكفير؟ وما السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية التي تنمو وتشتد مع تغلب هذا الخطاب؟

ج: إن مسألة نفي الآخر هي مسألة لا تملك أي قدر من الواقعية في العالم الخارجي، سواء أكان فكرياً أم سياسياً، لأن إلغاء الشخص لا يلغي وجوده، كما أن نفي الفكر لا يعني إعدامه، بل كل ما هناك، أنه قد يحجم موقعه من خلال الحصار له في مرحلة معينة، ولكنه قد يكبر دوره في مرحلة أخرى، عندما تتجمع الظروف للمصلحة الإيجابية في حالته. ولذلك، فإن الخطاب الذي يركز مضمونه على نفي الآخر، هو خطاب لا يملك الامتداد طويلاً في الواقع، حتى لو أحدث أكثر من دائرة سلبية ضده في المجال الشعبي، وهذا هو ما نلاحظه في السياق التاريخي الذي اضطهد الكثير من الأفكار وأصحابها، ولكنها امتدت في سياق تاريخي أكثر بلحاظ المستجدات الثقافية، من خلال عناصرها الذاتية التي تسمح لها بالحركة في الواقع من جديد.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مسألة التكفير هي مسألة ثقافية، ترتكز على أساس دراسة الفكر الذي يحمله الإنسان الآخر من حيث مضادته للعقيدة الإسلامية في ضروراتها الفكرية التي لا تتحمل الشبهة والخلاف، ما يفرض الإطلال الواسع على طبيعته وخلفياته، وربما لا يتيسر للمفكرين ذلك، كما يحدث للبعض ممن يطلق كلمة التكفير انطلاقاً من اختلاف الآخر مع ما يعتقده في المسائل النظرية التي يقع فيها الخلاف بين العلماء، على أساس أن رأيه يمثل الحقيقة المطلقة، وهو أمر قد ينطلق من الغرور الثقافي، والكبرياء الفكري، والبعد عن التواضع العلمي، لأن أيّ مفكر يخضع في تكوينه الفكري للمدرسة التي تعلم فيها، وللتأملات الذاتية التي انفتح عليها، وللقراءات التي قرأها، وللتجارب التي خاضها، مما يدخل في عالم المحدود الذي تؤطره حدود المدرسة والتأمل والقراءة والتجربة التي تجعل النتائج محدودة في حدود المقدمات.

إن قيمة العالم، ولا سيما إذا كان عالماً إسلامياً، أن يتواضع لله فيعرف قيمة موقعه، ويخضع للعلم فيحدد مقدار علمه، الأمر الذي يفرض عليه أن يحترم الفكر الآخر، ليدفعه ذلك إلى الاستماع إلى وجهة نظره، وإلى ما يملكه من حجة وبرهان على رأيه، فلعله يلتفت إلى شيء لم يلتفت إليه، أو يطلع على دليل غاب عنه أمره.

ثم إن العالم الذي يملك تقوى العلم المنفتح على تقوى الله، لا بد أن يخرج من ذاتيته الثقافية إلى ذاتية الإسلام الذي يأمره بالتعامل مع الآخرين من موقع الالتزام بتقويم انحرافهم ـ إذا كانوا منحرفين ـ وفي تقريبهم إلى الفكر الإسلامي إذا كانوا بعيدين عنه، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والبعد عن الأساليب الحادّة التي تتحدى في الإنسان احترام إنسانيته، فتؤدي به إلى النفور بدلاً من أن تدفعه إلى الانفتاح.

إننا نرى في الأسلوب القرآني، أنه خلَّد لنا الفكر الآخر المضاد، حتى بما يرتبط بالاتهامات القاسية للنبي محمد(ص)، بما في ذلك اتهامه بالجنون، وحدد طبيعة المواجهة بالأسلوب الذي يرد فيه الاتهام بالدليل القوي الذي يسقط التهمة، للإيحاء بأن الطريقة الحكيمة في مواجهة الفكر الآخر، هي مناقشته واكتشاف نقاط الضعف فيه، لأن ذلك هو السبيل لإسقاطه في بعده الفكري، بدلاً من طريقة الرشق بالكلمات الحادة التي تنفر ولا تبشر، وتفرق ولا تجمع. ولعلَّ الدراسة الدقيقة لأساليب دعوة النبي(ص) في مواجهة الأفكار المضادة، تمنحنا معرفة القاعدة الحركية للاعتراف بالآخر، والتخطيط لهندسة الطريق إلى عقله بالفكر، وإلى قلبه بالعاطفة، وهذا هو الذي نستوحيه من التأكيد على الجانب الأخلاقي في شخصيته، لاتصاله بقضية الدعوة في انفتاحها على الإنسان الآخر.

أما السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية، فهو تأكيد القيم الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان من أجل استثارة عناصر إنسانيته بالرحمة التي تثير في الوجدان الظروف التي أحاطت به وساهمت في ابتعاده عن الحق، وخلقت في داخل تفكيره العقدة ضد الدين، مما لم يخضع لاختياره في بدايات نشأته، ثم الإيحاء له بالمحبة للعناصر الإيجابية في شخصيته بحيث يتوجه الإحساس إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها، فإن أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه. فلنربح قلوب الناس تنفتح لنا عقولهم. ولعلنا نستوحي ذلك من كلمتين للإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، الأولى: "أحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، والثانية: "الناس صنفان، فإمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، ثم التخطيط لمنهج تربوي للإنسان المسلم عنوانه الحرص على عدم التحرك بذهنية الانفعال، بل بذهنية العقل، فلا يسقط تحت تأثير كلمات الإثارة التي تدفع إلى العدوان بالكلمة أو بالفعل، وهو ما يعطل الأساليب التكفيرية المتشنجة التي تنطلق ـ غالباً ـ من حالة ذاتية، أو من تسرع في الحكم، أو من خضوع لبعض المؤثرات المعقدة، ممن ينقل الكلام فيحرفه، أو يكذب فيه فيُتَقَبّل منه من دون تمحيص.

إن مسؤوليتنا هي تثقيف الشعب المسلم بالقيم الأخلاقية الإسلامية، وخصوصاً التقوى والأمانة عند اختيار نوعية الكلمات والأساليب، والأخذ بأسباب التأمل بما يسمع أو يقرأ قبل اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي، لأن المشكلة التي يواجهها المجتمع الإسلامي، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد المفكرين والمصلحين، وهذا هو ما عبر عنه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): "... وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور الحق ولم يلجأوا منه إلى ركن وثيق"، ما يوحي بأن علينا تربية هؤلاء بالانفتاح على الريح الهادئة التي تتحرك في الحياة العامة، فلا تعصف بالأمن الفكري والروحي والاجتماعي، والاستضاءة بنور الحق، حتى يميزوا بين الحق والباطل، والالتجاء إلى الركن الوثيق من الحجة والبرهان الذي يركز الموقف ويؤكد الفكرة على أساس ثابت.

إن المشكلة هي أن التربية العامة تتحرك من أجل توجيه الجماهير إلى الإثارة بالأساليب العاطفية الانفعالية، لتتحول إلى مشكلة للواقع بدلاً من أن تكون حركة في حل المشكلة.

س: تُحرِّم بعض الفتاوى التعاطي مع الكتب التي يصطلح عليها بكتب (الضلال). حين كانت وسائل نشر الكتاب وتوزيعه محدودة، فإنه كان لتلك الفتاوى ما يبررها تاريخياً، فهل تجدون ما يبررها اليوم، في عصر ثورة الاتصالات، ويسر تداول المعلومات، وسهولة انتشار الأفكار وشيوعها في مختلف أرجاء المعمورة؟

ج: لم يثبت حرمة حفظ كتب الضلال بنصٍ معين، سواء أكان ذلك من خلال إبقائها أم من خلال نشرها، بل ذهب القائلون بالحرمة إلى استيحاء بعض العناوين العقلية، كقطع مادة الفساد الذي يوجبه العقل، أو لبعض العناوين الشرعية، كلهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله، أو قول الزور، أو ما يجيء منه الفساد المحض، إلى غير ذلك مما لم يثبت الاستدلال به أمام النقد، لأن مثل هذه العناوين لا تلازم حفظ كتب الضلال في الواقع الخارجي، بل تختلف حالاتها حسب اختلاف الزمن، فربما كان اضطهاد هذه الكتب المضادة يحاصر انتشارها ويحدد آثارها السلبية، انطلاقاً من فقدان الكتب المضادّة أو الناقدة التي تقوي الحق وتسقط تأثيرها في الذهنية العامة، أو انعدام الثقافة العامة التي تملك الرد على مطالبها، ما قد يكون لتحديد انتشارها دور فاعل في إبطال مضمونها الضال.

أما في العصر الحاضر الذي امتدت فيه الثقافة في تنوعاتها امتداداً واسعاً، وتحول العالم فيه إلى قرية واحدة من خلال وسائل الاتصال، فإن اضطهاد الفكر وتحريم الكتاب يساهم مساهمة فعالة في انتشاره وإقبال الناس عليه، وتقديم مؤلفه إلى العالم كبطل من أبطال حرية الفكر، ومواجهة المحاربين له كفريق من فرقاء اضطهاد الحرية الفكرية، ولا سيما مع القدرات الهائلة التي تملكها الفئات المضادة المعادية للإسلام، بينما يؤثر إهمالها في تحجيمه وعدم انتباه القراء إليه، لأنه يعود في الواقع مجرد كتاب عادي لا يثير الكثير من الاهتمام، خصوصاً أمام الكم الهائل من الكتب المتفرعة التي لا يملك الناس القدرة على استيعابها والالتفات إليها.

إننا نتصور ـ من خلال التجربة الواقعية ـ أن محاربة الفكر تساهم في قوة انتشاره وتأثر الناس به، لأنه يأخذ صفة الفكر المظلوم المضطهد، ما يجلب العطف عليه، بينما يكون إبقاؤه في الدائرة المحدودة في مواقع الظل سبباً في تقليص دوره في التأثير في الوجدان العام للناس، ولذلك فإننا ننصح الذين يريدون للحق أن يمتدّ، وللباطل أن يختفي، أن يدرسوا الواقع في مؤثراته السلبية أو الإيجابية، ليتعرفوا مدى النتائج التي يخدمون بها الضلال عندما يواجهونه بالوسائل القمعية بطريقة غير مدروسة.

س: ما هو موقف المسلم من الثقافات الأخرى في الشرق والغرب، ولا سيما أن هناك مشتركات بشرية عديدة في تلك الثقافات، تصلح أن تكون منطلقاً للتسامح واللاعنف والمحبة والتعاون والعيش المشترك؟

ج: إننا نستوحي من الحديث الذي يؤكد أن الحكمة ضالة المؤمن، انفتاح الإسلام على الثقافات الأخرى في العالم، مما يغني تجربة الإنسان المسلم الفكرية والعملية، ويفتح له مجالات اللقاء بالآخرين في المفاهيم المشتركة التي يلتقي فيها الإسلام بالأفكار الأخرى، ما يؤدي إلى الحوار حول الخصوصيات الفكرية الإسلامية المتميزة عن الخصوصيات الكامنة في التيارات غير الإسلامية، بحيث يستطيع الإسلام إعطاء هويته الثقافية لها في عناصرها الإنسانية التي قد تمنح عناوين التسامح واللاعنف والمحبة والتعاون والعيش المشترك، أبعاداً إسلامية في الجوانب الروحية المتزاوجة مع الجوانب المادية.

إن الإسلام لم يحدد للإنسان دائرة محدودة ضيقة للانفتاح الثقافي، بحيث حرم عليه الاطلاع على ثقافة هنا وثقافة هناك، بل أراد له أن يفتح عقله على كل ما أنتجه الإنسان، شرط أن يتأمله ويتدبره ويناقشه، ليستفيد من التجربة الناجحة ويهمل التجربة الفاشلة، فقد خلق الله العقل حراً في آفاقه الفكرية، وأراد له أن يتحمل مسؤولية التزاماته الثقافية العلمية، من خلال الخضوع للحجة والبرهان، وفي ضوء ذلك، يحصل الإنسان المسلم على حركية التفاعل الحضاري للتجربة الإسلامية الاجتهادية في العناوين مقارنةً بتجارب الآخرين.

منهج التعارف القرآني

* يؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: {يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]. ما هي الأصول المنهجية لفقه التعارف التي تستوحونها من القرآن الكريم؟ وما هي مرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي.. وأساليب التفاهم والحوار مع الآخر المختلف التي يشي بها النص القرآني؟

ـ إن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكد عدة مسائل مهمة:

الأولى: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأن الإلغاء لا يغير شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشية، ما يعني أن العمل على إلغاء أو طمس الخصوصيات في التعامل الإنساني يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيات في المقابل يؤدي بدوره إلى مشاكل إضافية.

الثانية: إن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخلية التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، ولكن شرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية وتتحرك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس، الذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) حول العصبية، حيث قال: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم" (الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7).

الثالثة: إن تنوّع الخصوصيات الإنسانية قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كل شعب حاجةً للشعب الآخر من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفة وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فينتج التقارب والتلاقي اللذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانية على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني.

إن التعارف يمثل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطط له من مشاريع، أو يتطلع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثم على أسس التعاون المتنوع معه.. ونستوحي من ذلك، أن الإسلام لا يضع حاجزاً بين الناس في كل مواقع اللقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى، وقد طرح الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64]، كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46].

وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدعوة في الإسلام: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125]. ما يوحي بأن الآخر المختلف لا يمثل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خط مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة.

في هذا المجال، نلاحظ أن الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم} [فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.

وقد نلتقي في هذا الخط ـ المنهج ـ بالحديث الشريف: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، حيث يدعو المسلمين في إيحاءاته الواسعة، إلى الاستفادة من الآخرين الذين قد نختلف معهم في العقيدة، ولكنهم يملكون علماً نحتاج إليه، فنتعارف معهم للحصول عليه، ونتمثّل ذلك في كلمة الإمام علي(ع) في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: "خذ الحكمة أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدق المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج"، "الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق" (قصار الحكم/79-80).

وفي ضوء ذلك كله، يمكن تلخيص هذه الفكرة بالتأكيد على ثقافة التعايش الداخلي في اللقاء على واقع الوفاق، والحوار في مواقع الخلاف في الخصوصيات المختلفة في المتفرقات الجزئية، وفي الانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم التي تركز على الفهم المتبادل الذي يجعلنا نفهم وجهة نظره، كما هو في دائرته الفكرية، وفي الجدال معه حول الخلافات العامة والخاصة بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيته التي تفتح عقله وقلبه، وهو ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بالتي هي أحسن.

أسلوب معالجة الاختلاف

* الاختلاف سنّةٌ ماضية في الحياة البشرية {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}. وقد نهى القرآن عن النـزاع والتفرق الذي يفضي إلى تمزق المجتمع.. لكنه اعترف بالاختلاف وقبل التنوع والتعدد. ما هو الإطار القرآني للتعايش رغم التنوع والاختلاف؟

ـ لقد أكد الإسلام في القرآن رفض العدوان على الآخر، مما تكرر في أمثال قوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، ما يوحي بأن العلاقة به هي علاقة سلام من حيث المبدأ ما لم يقم الآخر بالعدوان. وعلى ضوء ذلك، فقد قبل الإسلام الآخر في المنطقة التي يملك فيها القوة والامتداد على مستوى السلطة، فأكّد التعايش مع أهل الكتاب، ورسم للتعايش مع غيرهم خطوطاً تعاقدية من ضمن النظام العام، كما أنه اعتبر الإنسان الآخر المختلف المسالم إنساناً يملك الحق في التعامل معه على أساس الإحسان والعدل من دون أن يحدد هويته العقيدية، الأمر الذي يوحي بأن الإسلام لا يمنع التعايش في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المتعددة مع الآخر المختلف في واقع التواصل الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة، وذلك هو قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين...} [الممتحنة:8].

أما الآخر المحارب أو المتحرك في خط الظلم والعدوان، فإن الموقف معه يختلف، لأنه يرفض التعايش القائم على احترام حق الآخر المسلم في دينه وفي وطنه، ولأنه لا يمتنع عن التعاون مع أعدائه ضده، فلا ولاية معه لأنه رفض الولاية الاجتماعية مع المسلم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:9]، لأن الولاية لهم في مثل هذه الحالة العدوانية تؤدي إلى أضرار ومفاسد في الواقع الإسلامي الأمني والسياسي، إضافة إلى تأثيرها السلبي على الجانب الثقافي في التزام المسلم بحماية موقعه الفكري في العقيدة وفي الخطوط الثقافية المتصلة بالمفاهيم العامة. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا} [العنكبوت:46]، باعتبار أن الظالم ليس رجل الحوار، بل هو رجل العدوان، وهنا تفرض واقعية العلاقة التعامل معه بأسلوبه الحاد للدفاع عن الموقع والخط والواقع.

ومن الملاحظ أن الآيتين لم تخصّصا فريق التواصل والتعايش بأي أحد، بل منحت مفهوم الفريق المسالم عنواناً له، ما يوحي بأن السلم هو الأصل في النظرة القرآنية إلى الآخر، أياً كانت الظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمع في العلاقات بين المسلمين وغيرهم، الأمر الذي يؤدي ـ حسب هذه الآية ـ إلى أن ينطلق التعايش من واقع السلم في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا سيما أن المسألة لا تنحصر في عقد الذمة، بل تشمل عقد المعاهدة، والتي تمتد إلى غير أهل الكتاب وفق المصلحة الإسلامية العليا في ذلك.

* تعتبر صحيفة المدينة، أو دستور المدينة، أول ميثاق للتعايش في الاجتماع الإسلامي دَوّنه الرسول(ص)، بغية بناء نسق تعاوني بين مختلف الفئات في مجتمع يضم المسلمين واليهود، وينتمي إلى قبائل شتى في المدينة المنورة. ما هي صيغ التعايش التي جسدتها المسيرة النبوية، ونمط الاجتماع الإسلامي في عصر البعثة الشريفة؟

ـ لقد كانت صحيفة المدينة بمثابة دستور يجسّد المبدأ الإسلامي العام الذي يفتح الأبواب أمام عقد ميثاق مع كلِّ الفئات المخالفة للمسلمين في الدين، وذلك على قاعدة المواطنة القائمة على العقد الاجتماعي في إطار العهد الذي يتحول من خلال التزام الشرعية الإسلامية به إلى عهد الله وميثاقه، بما يعنيه من التزام بالأمر الإلهي في الوفاء بالعقود والعهود.

إن مبدأ المواطنة هو أساس القانون العام الذي يحكم الأمة كلها، والذي يلاحظ حقوق الأقليات الدينية وربما غير الدينية في تأكيد الالتزامات العامة بالقانون الدستوري، والمراعاة لحقوقهم الدينية والإنسانية الخاصة، وقد طبق هذا المبدأ أو القانون بدقة، فلم يحدث في مدى الوجود اليهودي المسالم في المدينة أية حالة من حالات الاعتداء على اليهود في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم واستقرارهم في الوطن الإسلامي الجديد، ولم يتعرّض أحد لسوء، ولم يحدث ما يخالف أصول الصحيفة ـ المعاهدة، إلى أن نقض اليهود العهد، وتحالفوا مع المشركين في واقعة الأحزاب، ما جعل المسلمين في حل من الالتزام بالعهد، لأنهم تحوّلوا إلى حالة حرب ضد الأمن الإسلامي أخذت تشكل خطراً على الوجود.

إننا نعتقد أن دراسة هذا العهد الذي ساوى بين المسلمين واليهود في الحقوق العامة والواجبات الوطنية، يمكن أن تعطينا قاعدة للتعايش بين المسلمين وغيرهم، تستند إلى العهد المبني على التوافق بين الطرفين، من خلال روحية الاحترام المتبادل، وذلك بلحاظ الخصوصيات التي يملكها كل فريق في شؤونه الخاصة ضمن دائرته المعينة في نطاق الوطن الواحد، لنخرج من ذلك بأسلوب إسلامي مميز لبناء وإدارة الوطن المتنوع في خصوصياته الإنسانية، فلا يلغي العام الخاص، بل يتكاملان معاً، لتكون النتيجة تلك الصورة الإنسانية الرائعة التي تحمل عنوان الصورة البارزة "وحدة في التنوع"، أو "تنوع في الوحدة" في خط الحقوق العامة والخاصة، بحيث يتحرك التشريع ليمنح الأقليات حقوقاً إنسانية، لا تعزلهم عن المواطنين في دائرة الأكثرية، من خلال المشاركة في حقوق المواطنية العامة، ولا تبعدهم عن هوياتهم الدينية أو الفئوية في حرياتهم الخاصة بما لا يتنافى مع القانون العام.

إن قيمة صحيفة المدينة تتجلى في تطبيقها السليم على أرض الواقع، أي أن النظرية الإسلامية في التعايش على أساس قاعدة (العهد) تحركت مع سلامة التطبيق، بحيث لم يرتفع في كل تلك الفترة أي صوت يهودي يشكو من سوء المعاملة، ولم يحصل أي اختلال في النسيج الاجتماعي المتوازن بينهم وبين المسلمين، على الرغم من الدسائس الخفية التي كانوا يحركونها داخل المجتمع الإسلامي، من خلال إثارة العصبيات القديمة، واستعادة أحقاد الجاهلية الدموية، والأخطر تحالفاتهم السرية مع المنافقين، من دون أن يتحرك المسلمون للقيام بأي عمل سلبي، كأن يتم إخراجهم من دينهم بالقوة، حتى مع معرفة خططهم ومحاولاتهم المستمرة لإيجاد الشك والريبة لدى المسلمين في دينهم. مع هذا، كان النبي محمد(ص) يستقبلهم، ويستمع إلى حواراتهم، ويقبل الدعاوى الموجّهة ضد بعضهم البعض، بكل رحابة صدر، وبكل مسؤولية، حتى إنه كان يرجعهم إلى أحكامهم الشرعية في التوراة، حذراً من أن يفرض عليهم أي حكم إسلامي لا يعترفون به.

ولعلّ من الأمور التي حدثت في عهد النبي(ص)، والتي تشير إلى تميّز العدالة الإسلامية في تعامل النبي(ص) معهم، هو أن بعض المسلمين قام بسرقة بعض الناس، وحاول أهله إلصاق تهمة السرقة بيهودي، كالإتيان ببعض القرائن المزورة أو الشهادات الكاذبة، لتبرئة هذا المسلم، فأنزل الله قرآناً لتبرئة اليهودي، طالباً من النبي(ص) أن لا يدافع عن الخائنين من المسلمين، وأن لا يحكم ضد اليهودي البريء، في مدى تسعة آيات، بدأت بقوله تعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً}[النساء/105]، ما يوحي بأن حفظ حقوق اليهودي البريء، الذي يملك حق الدفاع عن حقوقه في المجتمع الإسلامي، بفعل مبدأ العدل الشامل، وبواسطة المعاهدة، هو من الأمور الإسلامية الحيوية، بالدرجة التي يتدخل فيها الوحي لتأكيد سلامة التطبيق في هذه القضية الحساسة التي حشدت فيها كل وسائل الإثبات ضد اليهودي، حتى لا يشعر المظلوم (ولو كان يهودياً) بأن الإسلام يقف إلى جانب الظالم (حتى لو كان مسلماً) ضده. وهذه مسألة غير عادية، لا سابق لها من حيث تدخل الوحي الإلهي لحسم الأمر بشأنها.

س: عرف التاريخ الإسلامي إكراهات إيديولوجية متنوعة سوغها فقهاء القصور السلطانية تلبية للنـزعات العدوانية لدى الطواغيت والسلاطين، على الرغم من أنها على الضد من قوله تعالى: { لا إكراه في الدين}، حيث يؤكد القرآن بوضوح عدم تحقيق الدين بالإكراه.. ما هو أثر مواقف الفقهاء الذين يبررون الإكراهات الايديولوجية في إفقار بعض قطاعات التراث الفقهي من روح التسامح التي اتسم بها الإسلام؟

ج: إن مشكلة بعض الفقهاء والمثقفين بالثقافة الإسلامية، أنهم يأخذون بالأساليب التجزيئية في دراسة المفاهيم الإسلامية، فيفصلون بعض أجزاء الفكرة عن بعضها، وهذا ما نلاحظه في الحديث عن مفهوم الصبر الذي قد يصل فهمهم له إلى الدعوة إلى الخضوع للظالم، باعتبار ذلك لوناً من ألوان الصبر، فيرفضون الثورة عليه، حتى مع توفر عناصرها في الواقع، في الوقت الذي نعرف أن للصبر دائرته في مرحلة التخطيط لتغيير الواقع، والتحضير الدقيق لعملية التنفيذ، ما يفرض إعطاء الساحة نوعاً من الهدوء الذي لا يكشف الخطة للأعداء، على الرغم من قسوة الواقع. وللصبر دائرته بعد نجاح الثورة لحماية إنجازاتها، والقيام بالتنفيذ الدقيق لمشروعها، عبر تطبيق النظرية على الواقع، ما يوحي أن الصبر لا يعني الجمود، بل يؤكد الفعل والحركة. وهكذا نلاحظ الأمر نفسه في فهمهم لمفردات ذم الدنيا والزهد، وأمثال ذلك من المفاهيم، ما يوحي بأنهم لاحظوا جانباً من الصورة ولم يلاحظوا كل جوانبها. وفي ضوء ذلك، فإن هؤلاء ربما درسوا بعض الآيات القرآنية المؤكدة على الشدة مع الكفار، أو الغلظة عليهم، فيأخذون المفهوم من ذلك كقاعدة للتعامل معهم في الحياة العامة على صعيد العلاقات، في الوقت الذي نعرف أن المورد في هذه الآيات مورد المواجهة في الحرب وفي ساحات الصراع، بدليل الآيات التي تتحدث عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وعن النصارى باعتبار أنهم أقرب الناس مودةً للذين آمنوا، وعن العفو والتسامح، وغير ذلك من أخلاقيات الإسلام التي لا تختص بجماعة دون جماعة.

لقد تحدَّث القرآن عن الحرب مع الكفار الذين واجهوا المسلمين بالعدوان ولم يقبلوا الدخول معهم في حالة السلم، على أساس التوافق في حل إنسانيّ قانوني يضمن للجميع العلاقة المتوازنة في الحقوق والواجبات، وبعد الانتصار في الحرب، شكل الدخول في الإسلام أو دفع الجزية والخضوع لشروط الذمة، وسيلة لتأكيد السيادة الإسلامية على الواقع، لأن هذا هو السبيل لدرء الخطر عن الواقع الإسلامي، ليمثل ذلك دخولاً إلى دائرة المواطنة الإسلامية، ولو كان ذلك بإعلان الإسلام ظاهرياً، أي عدم تطابق الظاهر مع الباطن. وهنا، لم تمثل الحرب إلا محطة طارئة في التحرك الإسلامي، استدعتها حماية أمن المسلمين وسلامتهم.

أما في حالة السلم، فإن القضية تتخذ بعداً آخر، وهو الدعوة إلى الإسلام بالوسائل الثقافية المتركزة على الأسلوب المنفتح على الحالة الذهنية والنفسية والواقعية للإنسان الآخر، وذلك بالحجة والبرهان والحكمة، التي تبحث عن الكلمة المعبرة والأسلوب الحسن والجو الحميم والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ما يشق الطريق إلى عقل الإنسان وقلبه من دون ضغطٍ أو إكراه، لأن الفكر لا يخضع للقوة المسيطرة الضاغطة، بل يخضع للإقناع الهادئ، الذي يخاطب في الإنسان حسه الإنساني في الإيحاء، والاحترام لذاته ولفكره، ليفتح لك عقله وقلبه، وليقبل عليك بإحساسه وشعوره.

ولذلك، فإن مشكلة هؤلاء الفقهاء ربما تتصل بذهنية ضيقة تخلط ما بين أسلوب الحرب وأسلوب السلم في مواجهة الإنسان المختلف في عقيدته عن عقيدة الإسلام، فيرون بعض أحكام الحرب كما لو كانت القاعدة العامة التي تحكم الأسلوب الإسلامي في التغيير. وقد تكون مشكلة هؤلاء تتمثّل في الخضوع للسلطة الظالمة التي تخطط لاضطهاد الآخرين بالإكراه وسياسة الضغط والقمع بالقوة، سواء كان ذلك في الدائرة الإسلامية في المذاهب المختلفة، أو في الدائرة الدينية في الأديان المتنوعة، أو في الدائرة السياسية في الاتجاهات المتعددة، لتصادر انتماءاتهم بطريقة متعسفة تسقط الموقف ولا تعالجه، فيحاول هؤلاء الفقهاء تنفيذ مخططات هذه السلطة وتعليماتها، في إكراه الآخرين على تغيير دينهم أو مذهبهم أو موقفهم السياسي، من خلال الفتاوى التي تبرر للظالم ظلمه، أو من خلال المفاهيم التي توحي إليه بأنه يملك الموقع الذي لا بد للناس أن يخضعوا له في استبداده.

إننا نتصور أن هؤلاء ربما تركوا بعض التأثيرات السلبية في داخل المجتمع الإسلامي، إن بفعل التصورات الخاطئة التي يزرعونها في الذهنية العامة للمسلمين، أو بسبب الضغط على الآخرين من غير المسلمين الذين يعيشون في داخل الأمة، أو في القيام بسجن الناس ـ بما فيهم المسلمون ـ لاختلافهم في الرأي مع السلطان الجائر، أو بارتكاب عمليات قتل لشبهة هنا وهناك لم تصل إلى مستوى الحجة، الأمر الذي ولّد إرباكاً في الواقع الإسلامي والتأثيرات في نظرة الآخرين إلى الإسلام.

على أنّ هذه السلبيات لم تصل إلى مستوى الظاهرة العامة بالنسبة إلى غير المسلمين من المواطنين في الدولة الإسلامية، بدليل أن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم لا يزالون يعيشون في المجتمعات الإسلامية بصفتهم الدينية، من دون أن يخضعوا لأي قهر ديني يفرض عليهم اختيار الإسلام كرهاً من قبل الدولة الإسلامية، أو من قبل المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، على الرغم من أنهم كانوا في مواقع الضعف ولم يكونوا في موقع القوة، حتى إننا نلاحظ أن اليهود الذين تحدث عنهم القرآن ـ في سلوكياتهم السلبية العامة ـ بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، عاشوا في المجتمع الإسلامي بأفضل أنواع العيش وأقرب حالات التعايش، حتى إنهم امتلكوا الحرية في السيطرة على مفاصل الاقتصاد الإسلامي، ومواقع العلم في ميادينه في الطب والترجمة وغيرها في دائرة اختصاصهم من دون عقدة، ولم نسمع أن يهودياً اضطهد في دينه، أو أخرج من وطنه في البلاد الإسلامية، في الوقت الذي كانوا يضطهدون من قبل الغرب، حتى على المستوى الديني، بقدر ما يتصل الأمر بنظرة المسيحيين إليهم.

إننا نتصور أن الذهنية الإسلامية للإنسان المسلم العادي، كانت أكثر انفتاحاً وتسامحاً على المستوى الديني مع أتباع الأديان الأخرى، ولا سيما مع الفتاوى الفقهية التي كانت تبيح للمسلمين الزواج من الكتابيات، ما سهل الاندماج الاجتماعي بين المسلمين والكتابيين على مستوى الأسرة، وما تنتجه من علاقات المصاهرة والقرابة ونحوها.

س: شاع استخدام الفتاوى كسلاحٍ بين الإسلاميين في هذا العصر.. وتعسف الذين لجأوا إلى هذا السلاح في توظيفه بنحو أضحى بعضهم يسعى إلى ممارسة عملية تفتيش عقائد من حيث يدري أو لا يدري.. فاستخدم مختلف وسائل التشهير والقذف وتحريض العامة من أجل التنكيل بمفكرين وعلماء دين مستنيرين.. ما السبيل لوقاية مجتمعاتنا من ذلك؟ وكيف يتسنى لنا إشاعة فضاء حر للبحث والتفكير في قضايا الإسلام والاجتماع الإسلامي؟

ج: إن السبيل إلى ذلك ـ في بعض مواقعه ـ هو عزل هؤلاء بطريقة مدروسة عن المواقع القيادية الفتوائية التي احتلوها، والتي من أسبابها استغراق المؤمنين في اعتبار الموقف القيادي المرجعي لا يحتاج إلا إلى ثقافة فقهية فحسب، حتى لو كانت لا تملك انفتاحاً على الثقافة الإسلامية الواسعة، سواء في الدراسات القرآنية، أو الكلامية، أو الأدبية المنفتحة على العنصر الفني في البلاغة، من خلال الذوق العرفي في فهم الكتاب والسنة، وحتى لو كانت أيضاً لا تملك انفتاحاً على التدقيق في فهم آراء المثقفين أو علماء الدين المفكرين، فضلاً عن عدم قراءة نتاجهم الثقافي، مكتفين في ذلك بالاعتماد على بعض الناس الذين لا يملكون الفهم المعرفي، أو الذين لا يملكون التقوى الدينية، ليشهدوا لهم بالجهل أو بالباطل.

إن على الأمة عزل هؤلاء والاتجاه إلى السير مع القيادات الواعية الموسوعية التي تملك الثقافة الفقهية والأصولية والقرآنية والعقائدية، وتملك المعرفة بالاتجاهات الفكرية المعاصرة في الساحة الإسلامية، والاطلاع على خلفيات هذا الفكر أو ذاك، بحيث تعمل على ترسيخ حالة من الوعي في عقول العامة من الناس، من أجل إيجاد ذهنية واسعة، وبذلك يتفعل ويتأصل دور عناصر القيادة الإسلامية التي تلبي التطلعات والحاجات التي تقتضيها ظروف الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي يعيش في دوامة الصراعات الفكرية والسياسة والاجتماعية في ساحة الواقع، وبذلك تنحسر حالة الخضوع للخطوط التقليدية التي ترجم الفكر الواعي بحجارة التخلّف.

إن بعض مشاكلنا هو أن الأوضاع التقليدية فرضت على الذهنية العامة تقديس غير المقدس وعصمة غير المعصوم. إن علينا التأكيد أن المعصومين في العقيدة الشيعية هم النبي(ص) والسيدة الزهراء(ع) والأئمة الاثنا عشر(ع)... ولا عصمة لغيرهم من حيث طبيعة الموقف، وليس هناك شخص ـ مهما علت درجته ـ فوق النقد، فللناس الحق في النقد الموضوعي لأية شخصية علمية أو مرجعية دينية أو سياسية أو اجتماعية، لأن ذلك هو سبيل الصلاح والإصلاح في المسلمين. إن القضية قضية وعي وتخلّف، وقضية تقوى في خط الاستقامة، وانحراف عن الخط المستقيم.

س: يكرِّس خطاب بعض الجماعات الإسلامية ظاهرة نفي الآخر، وتسرف تلك الجماعات في ذلك فتدعي أن تكفير أصحاب الرأي ومصادرة حريات الآخرين، هو حق منحه الله تعالى لها، وكأنها تستعيد نزعة التكفير لدى بعض الفرق التي ظهرت في التاريخ.. ما هي مناشئ هذا اللون من التكفير؟ وما السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية التي تنمو وتشتد مع تغلب هذا الخطاب؟

ج: إن مسألة نفي الآخر هي مسألة لا تملك أي قدر من الواقعية في العالم الخارجي، سواء أكان فكرياً أم سياسياً، لأن إلغاء الشخص لا يلغي وجوده، كما أن نفي الفكر لا يعني إعدامه، بل كل ما هناك، أنه قد يحجم موقعه من خلال الحصار له في مرحلة معينة، ولكنه قد يكبر دوره في مرحلة أخرى، عندما تتجمع الظروف للمصلحة الإيجابية في حالته. ولذلك، فإن الخطاب الذي يركز مضمونه على نفي الآخر، هو خطاب لا يملك الامتداد طويلاً في الواقع، حتى لو أحدث أكثر من دائرة سلبية ضده في المجال الشعبي، وهذا هو ما نلاحظه في السياق التاريخي الذي اضطهد الكثير من الأفكار وأصحابها، ولكنها امتدت في سياق تاريخي أكثر بلحاظ المستجدات الثقافية، من خلال عناصرها الذاتية التي تسمح لها بالحركة في الواقع من جديد.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مسألة التكفير هي مسألة ثقافية، ترتكز على أساس دراسة الفكر الذي يحمله الإنسان الآخر من حيث مضادته للعقيدة الإسلامية في ضروراتها الفكرية التي لا تتحمل الشبهة والخلاف، ما يفرض الإطلال الواسع على طبيعته وخلفياته، وربما لا يتيسر للمفكرين ذلك، كما يحدث للبعض ممن يطلق كلمة التكفير انطلاقاً من اختلاف الآخر مع ما يعتقده في المسائل النظرية التي يقع فيها الخلاف بين العلماء، على أساس أن رأيه يمثل الحقيقة المطلقة، وهو أمر قد ينطلق من الغرور الثقافي، والكبرياء الفكري، والبعد عن التواضع العلمي، لأن أيّ مفكر يخضع في تكوينه الفكري للمدرسة التي تعلم فيها، وللتأملات الذاتية التي انفتح عليها، وللقراءات التي قرأها، وللتجارب التي خاضها، مما يدخل في عالم المحدود الذي تؤطره حدود المدرسة والتأمل والقراءة والتجربة التي تجعل النتائج محدودة في حدود المقدمات.

إن قيمة العالم، ولا سيما إذا كان عالماً إسلامياً، أن يتواضع لله فيعرف قيمة موقعه، ويخضع للعلم فيحدد مقدار علمه، الأمر الذي يفرض عليه أن يحترم الفكر الآخر، ليدفعه ذلك إلى الاستماع إلى وجهة نظره، وإلى ما يملكه من حجة وبرهان على رأيه، فلعله يلتفت إلى شيء لم يلتفت إليه، أو يطلع على دليل غاب عنه أمره.

ثم إن العالم الذي يملك تقوى العلم المنفتح على تقوى الله، لا بد أن يخرج من ذاتيته الثقافية إلى ذاتية الإسلام الذي يأمره بالتعامل مع الآخرين من موقع الالتزام بتقويم انحرافهم ـ إذا كانوا منحرفين ـ وفي تقريبهم إلى الفكر الإسلامي إذا كانوا بعيدين عنه، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والبعد عن الأساليب الحادّة التي تتحدى في الإنسان احترام إنسانيته، فتؤدي به إلى النفور بدلاً من أن تدفعه إلى الانفتاح.

إننا نرى في الأسلوب القرآني، أنه خلَّد لنا الفكر الآخر المضاد، حتى بما يرتبط بالاتهامات القاسية للنبي محمد(ص)، بما في ذلك اتهامه بالجنون، وحدد طبيعة المواجهة بالأسلوب الذي يرد فيه الاتهام بالدليل القوي الذي يسقط التهمة، للإيحاء بأن الطريقة الحكيمة في مواجهة الفكر الآخر، هي مناقشته واكتشاف نقاط الضعف فيه، لأن ذلك هو السبيل لإسقاطه في بعده الفكري، بدلاً من طريقة الرشق بالكلمات الحادة التي تنفر ولا تبشر، وتفرق ولا تجمع. ولعلَّ الدراسة الدقيقة لأساليب دعوة النبي(ص) في مواجهة الأفكار المضادة، تمنحنا معرفة القاعدة الحركية للاعتراف بالآخر، والتخطيط لهندسة الطريق إلى عقله بالفكر، وإلى قلبه بالعاطفة، وهذا هو الذي نستوحيه من التأكيد على الجانب الأخلاقي في شخصيته، لاتصاله بقضية الدعوة في انفتاحها على الإنسان الآخر.

أما السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية، فهو تأكيد القيم الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان من أجل استثارة عناصر إنسانيته بالرحمة التي تثير في الوجدان الظروف التي أحاطت به وساهمت في ابتعاده عن الحق، وخلقت في داخل تفكيره العقدة ضد الدين، مما لم يخضع لاختياره في بدايات نشأته، ثم الإيحاء له بالمحبة للعناصر الإيجابية في شخصيته بحيث يتوجه الإحساس إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها، فإن أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه. فلنربح قلوب الناس تنفتح لنا عقولهم. ولعلنا نستوحي ذلك من كلمتين للإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، الأولى: "أحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، والثانية: "الناس صنفان، فإمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، ثم التخطيط لمنهج تربوي للإنسان المسلم عنوانه الحرص على عدم التحرك بذهنية الانفعال، بل بذهنية العقل، فلا يسقط تحت تأثير كلمات الإثارة التي تدفع إلى العدوان بالكلمة أو بالفعل، وهو ما يعطل الأساليب التكفيرية المتشنجة التي تنطلق ـ غالباً ـ من حالة ذاتية، أو من تسرع في الحكم، أو من خضوع لبعض المؤثرات المعقدة، ممن ينقل الكلام فيحرفه، أو يكذب فيه فيُتَقَبّل منه من دون تمحيص.

إن مسؤوليتنا هي تثقيف الشعب المسلم بالقيم الأخلاقية الإسلامية، وخصوصاً التقوى والأمانة عند اختيار نوعية الكلمات والأساليب، والأخذ بأسباب التأمل بما يسمع أو يقرأ قبل اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي، لأن المشكلة التي يواجهها المجتمع الإسلامي، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد المفكرين والمصلحين، وهذا هو ما عبر عنه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): "... وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور الحق ولم يلجأوا منه إلى ركن وثيق"، ما يوحي بأن علينا تربية هؤلاء بالانفتاح على الريح الهادئة التي تتحرك في الحياة العامة، فلا تعصف بالأمن الفكري والروحي والاجتماعي، والاستضاءة بنور الحق، حتى يميزوا بين الحق والباطل، والالتجاء إلى الركن الوثيق من الحجة والبرهان الذي يركز الموقف ويؤكد الفكرة على أساس ثابت.

إن المشكلة هي أن التربية العامة تتحرك من أجل توجيه الجماهير إلى الإثارة بالأساليب العاطفية الانفعالية، لتتحول إلى مشكلة للواقع بدلاً من أن تكون حركة في حل المشكلة.

س: تُحرِّم بعض الفتاوى التعاطي مع الكتب التي يصطلح عليها بكتب (الضلال). حين كانت وسائل نشر الكتاب وتوزيعه محدودة، فإنه كان لتلك الفتاوى ما يبررها تاريخياً، فهل تجدون ما يبررها اليوم، في عصر ثورة الاتصالات، ويسر تداول المعلومات، وسهولة انتشار الأفكار وشيوعها في مختلف أرجاء المعمورة؟

ج: لم يثبت حرمة حفظ كتب الضلال بنصٍ معين، سواء أكان ذلك من خلال إبقائها أم من خلال نشرها، بل ذهب القائلون بالحرمة إلى استيحاء بعض العناوين العقلية، كقطع مادة الفساد الذي يوجبه العقل، أو لبعض العناوين الشرعية، كلهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله، أو قول الزور، أو ما يجيء منه الفساد المحض، إلى غير ذلك مما لم يثبت الاستدلال به أمام النقد، لأن مثل هذه العناوين لا تلازم حفظ كتب الضلال في الواقع الخارجي، بل تختلف حالاتها حسب اختلاف الزمن، فربما كان اضطهاد هذه الكتب المضادة يحاصر انتشارها ويحدد آثارها السلبية، انطلاقاً من فقدان الكتب المضادّة أو الناقدة التي تقوي الحق وتسقط تأثيرها في الذهنية العامة، أو انعدام الثقافة العامة التي تملك الرد على مطالبها، ما قد يكون لتحديد انتشارها دور فاعل في إبطال مضمونها الضال.

أما في العصر الحاضر الذي امتدت فيه الثقافة في تنوعاتها امتداداً واسعاً، وتحول العالم فيه إلى قرية واحدة من خلال وسائل الاتصال، فإن اضطهاد الفكر وتحريم الكتاب يساهم مساهمة فعالة في انتشاره وإقبال الناس عليه، وتقديم مؤلفه إلى العالم كبطل من أبطال حرية الفكر، ومواجهة المحاربين له كفريق من فرقاء اضطهاد الحرية الفكرية، ولا سيما مع القدرات الهائلة التي تملكها الفئات المضادة المعادية للإسلام، بينما يؤثر إهمالها في تحجيمه وعدم انتباه القراء إليه، لأنه يعود في الواقع مجرد كتاب عادي لا يثير الكثير من الاهتمام، خصوصاً أمام الكم الهائل من الكتب المتفرعة التي لا يملك الناس القدرة على استيعابها والالتفات إليها.

إننا نتصور ـ من خلال التجربة الواقعية ـ أن محاربة الفكر تساهم في قوة انتشاره وتأثر الناس به، لأنه يأخذ صفة الفكر المظلوم المضطهد، ما يجلب العطف عليه، بينما يكون إبقاؤه في الدائرة المحدودة في مواقع الظل سبباً في تقليص دوره في التأثير في الوجدان العام للناس، ولذلك فإننا ننصح الذين يريدون للحق أن يمتدّ، وللباطل أن يختفي، أن يدرسوا الواقع في مؤثراته السلبية أو الإيجابية، ليتعرفوا مدى النتائج التي يخدمون بها الضلال عندما يواجهونه بالوسائل القمعية بطريقة غير مدروسة.

س: ما هو موقف المسلم من الثقافات الأخرى في الشرق والغرب، ولا سيما أن هناك مشتركات بشرية عديدة في تلك الثقافات، تصلح أن تكون منطلقاً للتسامح واللاعنف والمحبة والتعاون والعيش المشترك؟

ج: إننا نستوحي من الحديث الذي يؤكد أن الحكمة ضالة المؤمن، انفتاح الإسلام على الثقافات الأخرى في العالم، مما يغني تجربة الإنسان المسلم الفكرية والعملية، ويفتح له مجالات اللقاء بالآخرين في المفاهيم المشتركة التي يلتقي فيها الإسلام بالأفكار الأخرى، ما يؤدي إلى الحوار حول الخصوصيات الفكرية الإسلامية المتميزة عن الخصوصيات الكامنة في التيارات غير الإسلامية، بحيث يستطيع الإسلام إعطاء هويته الثقافية لها في عناصرها الإنسانية التي قد تمنح عناوين التسامح واللاعنف والمحبة والتعاون والعيش المشترك، أبعاداً إسلامية في الجوانب الروحية المتزاوجة مع الجوانب المادية.

إن الإسلام لم يحدد للإنسان دائرة محدودة ضيقة للانفتاح الثقافي، بحيث حرم عليه الاطلاع على ثقافة هنا وثقافة هناك، بل أراد له أن يفتح عقله على كل ما أنتجه الإنسان، شرط أن يتأمله ويتدبره ويناقشه، ليستفيد من التجربة الناجحة ويهمل التجربة الفاشلة، فقد خلق الله العقل حراً في آفاقه الفكرية، وأراد له أن يتحمل مسؤولية التزاماته الثقافية العلمية، من خلال الخضوع للحجة والبرهان، وفي ضوء ذلك، يحصل الإنسان المسلم على حركية التفاعل الحضاري للتجربة الإسلامية الاجتهادية في العناوين مقارنةً بتجارب الآخرين.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير