وداع السيد في الضاحية

وداع السيد في الضاحية
 
وداع السيد في الضاحية

أعدّ الصحافيّان أحمد محسن ومحمد محسن تقريراً في جريدة الأخبار يعرض لتفاصيل تشييع السيّد الراحل فضل الله بعنوان: "وداع السيّد في الضاحية أمس"... وهنا عرض للتّفاصيل:

أمس، ودّع لبنان العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله. جالت الضاحية الجنوبيّة لبيروت مع جثمانه في ذاكرتها كمن يقف أمام المرآة. ورافقها في تلك الرحلة أحبّاء من لبنان والدول العربية والعالم، عبّر معظمهم عن إكبار الانفتاح والتنوير والمشاركة في إنتاج مقاومة الاحتلال... وغيرها من العناوين التي عُرف بها الرّاحل.

على الرّغم من الحشود الكثيفة، بدت مسيرة التشييع جنازةً يشارك فيها الأهل والجيران. فمعظم المشاركين، من النساء والرجال، من الشيوخ والشباب، تحدّثوا عن معرفة الراحل شخصياً والشعور بـ«أبوّته»، ولم يخفِ كثيرون، وهم يحتفون بفكره، أن يمتدحوا انفتاحه، كأنهم يعبّرون عن شوقٍ إلى حوارٍ يدركون أنّ أحد مواعيده قد مضى.

الضّاحية تستعيد ذكرياتها معه :

غسل محبّو السيد محمد حسين فضل الله عيونهم طويلاً، ولم ينقصهم شيء ليحزنوا بشجاعة. دار نعش السيّد بينهم، في المناطق التي عرفوه فيها، ابتداءً من حارة حريك، وصولاً إلى بئر العبد. هكذا، بكى مئات الآلاف، أمس، في وداعه.

كمن يجهد لالتقاط الضّوء، كان محبّو السيد محمد حسين فضل الله، أمس، يقتربون من نعشه. يصطدمون بلجان التنظيم، لكنّهم يعيدون الاقتراب كلّ مرّة. تجمّعت الحشود باكراً أمام بوّابة منزله. الوقت يمرّ سريعاً، والآلاف ينتظرون خروج السيد، ولكن بنعشه هذه المرّة. عند باب المنزل من الداخل، تصطفّ شخصيات رسمية ودينية ليمرّ بينهم، لكنّ المنظّمين ارتؤوا إخراجه من البوّابة الخلفيّة، ليمرّ على أكفّ أحبّائه الفقراء. كان النّاس يزاحمون الأزقّة للوصول إلى النّعش.

 بدا حضور رجال الدّين السنّة لافتاً في البداية، لكثرة عددهم، لكنّ تشابكهم يداً بيد مع رجال الدين الشيعة، أعاد المشهد إلى طبيعته: الرّاحل كان ساعياً دائماً إلى الوحدة.عند الواحدة والنّصف تقريباً، بدأت رحلة الوداع. ما لم يقل عن جنازة مهيبة شهدتها الضاحية، يمكن قوله في جنازة السيّد فضل الله. لم تتعب مكبّرات الصّوت من قراءة دعاء الوحدة، الدّعاء المحبّب إلى الراحل الكبير. وإلى ذلك، بدا المراسلون الصحافيون والمراسلات جزءاً من الجنازة المهيبة. طغى الأسود على ملابسهم. ولم يخفِ بعضهم ذهوله من الأعداد الهائلة للمشيّعين. إحداهنّ، حين أصبحت قرب مسجد الحسنين، همست بالإنكليزيّة في أذن زميلها المصوّر ذاهلةً: «من هو هذا الرّجل بحقّ السّماء؟»، فتأتيها الإجابة من كلّ حدب وصوب!!

كانت الجنازة أشبه باندفاعةٍ جماعيّةٍ، واعيةٍ لشيءٍ واحد: الوداع. كلّما قطع النّعش متراً، يعود شريط الذّكريات سنين إلى الوراء. في كلّ شارعٍ موقف ومؤسّسة. في الشّارع العريض تسطع علاقة السيّد محمد حسين فضل الله بالمنطقة، بأهلها وحزبها. الطّريق شاقّة نحو القبر، الأيادي المرفوعة وداعاً للسيّد حجبت الضّوء: «بأمان الله يا حبيب الله». هناك، تذكّروا «رجلاً ساند المقاومة، يوم نكرها الجميع»، وعلى مقربةٍ من الصّمت المهيب، شابّ يبكي بحرقة: «لقد أعطى السيد كلّ شيءٍ ورحل، تعب السيّد كثيراً». ضاقت الشّرفات بالمتّشحين بالسواد. اخترق النّعش الشّارع العريض من منتصفه، من الزّقاق المواجه لقناة المنار سابقاً. «تحايل» المنظّمون على المشيّعين لتمرير النّعش، لكنّ ذلك لم ينجح. جهد رجال الانضباط كثيراً في إعادة توجيه الجنازة داخل الشّارع. وفي إحدى زواياه، اختصر عجوز المشهد كلّه. كلّما سقطت دمعة منه، شدَّ على عصاه، حتى لم يعد قادراً على الوقوف، ووقع أرضاً. أسعفه الشبّان ليقف مجدّداً، وسط ذهول الطّفل الواقف إلى جانبه... قال إنّ الطّفل هو حفيده، وإنّ مؤسّسات السيّد الخيرية تهتمّ به، ثم أردف باكياً: «راح الذي يهتمّ بالجميع». وفي نهاية الشّارع، وفي حركةٍ غير مقصودة، أحنى كثيرون رؤوسهم. فقدوا الأمل في الاقتراب من النّعش. أحنوا رؤوسهم واستعدّوا جيداً للمحطّة التالية.

وصل النّعش إلى المحطّة المُتخمة بالذّاكرة: بئر العبد. للمنطقة رمزيّة خاصّة، فهي أوّل المعاقل وآخرها. تضاعف كلّ شيء هناك. كثرة الشّمس، والتّدافع بين المنتظرين. وثارت مئات الأيتام. تفاقم الشّعور بالخسارة، هناك تحديداً، تمرّد الجميع على الموت، الموت الذي انتصر عليه السيّد مراراً. وفي 8 آذار 1985 كانت أقوى المعارك. آنذاك، وقرابة الخامسة عصراً، اقتربت سيّدة مسنّة من السيّد محمد حسين فضل الله، بعد انتهائه من محاضرته الأسبوعيّة التي تلت صلاة الجمعة في جامع الإمام الرّضا، والتي كانت مخصّصةً للفتيات تحديداً. سألته سؤالاً واحداً. اعتذر السيّد بلياقته المعروفة، لأنّه كان مرهقاً. أصرّت السيّدة، حتى إنّ المقرّبين من السيد يقولون إنها ألحّت، وتمسّكت بثيابه، فرضخ لطلبها خجلاً. انطلق موكب السيّد بدونه تمويهاً. وما هي إلا دقائق قليلة، حتى دوّى انفجارٌ ضخم، يروي سكان الضّاحية أنّه الأقوى على الإطلاق في تاريخها خلال الحرب الأهليّة. كانت الخمس عشرة دقيقةً التي استنفدت فيها المرأة الخمسينيّة السيّد، كافيةً لحصول المعجزة. استشهد أكثر من مئة شخصٍ في تلك المجزرة (من بينهم 75 امرأة وشابّة)، ووجدت الأشلاء على أسطح المباني، وتناثرت في الطّرقات، لشدّة الاكتظاظ في المنطقة. ولاحقاً، يروي المقرّبون من السيّد أنّه لم يرَ تلك المرأة التي استوقفته بعد الحادثة، ولم يستطع أن يعرف عنها شيئاً. بعد خمسة وعشرين عاماً، لا يزال المشهد حيّاً أمام بعض مشيّعي السيّد. أبو بلال، الّذي كان موجوداً حينها، كان يسمع صوت الانفجار القويّ نفسه أمس، في وداع السيّد. مشى تائهاً بين الحشود، بحثاً عن السيّد، فالرّجل كان يشعر بوجود فضل الله بين أحبّائه في الدّقائق الأولى للتّشييع. كان يبحث عن والده. وتعاظم الحزن قرب «السندريلا»، لأنّ النّعش لم يمرّ من هناك، وهو مكان المجزرة القديمة. هل غادر السيّد فعلاً؟ تجيب مكبرات الصوت: «النموذج اللّبنانيّ أعطى الدّروس للعالم، فليتعلّم بعض العرب من المجاهدين. إنّ هذا الصوت سيلقى صداه داخل فلسطين العزيزة». هذه إحدى كلمات السيّد، بكى شباب كثيرون بعد انتهائها.

وداعاً يا أبا الأيتام، تقول اللافتة المنتشرة في كلّ مكان، ليس صعباً على أحد أن يكتشف أنّ الجميع في الضاحية هم أيتام الراحل. كيف لا؟ فمن لم يقتحم الشّوارع الأساسية والفرعية في الضاحية (وهم قلائل للمناسبة)، افترش الشرفات المطلّة، وشارك برشّ المياه على الرؤوس المحترقة.

... سرت شائعات عن مشاركة السيد نصر الله غذّاها الشبه مع صفيّ الدين...ومع اقتراب السيارة من جادة «الإمام الخميني» عاود المشيّعون الالتحام مع النّعش، جهد المنظّمون لمنعهم. نجحوا بعد محاولات متكرّرة، كلّفت أضراراً في السيارة التي أقلّت الجثمان، علماً أن رجال الانضباط جهدوا كثيراً في أكثر من محطة، يمكن تنظيم الحشود، لكن لا يمكن تنظيم الغضب.

فعلى مقربة من منزل فضل الله، هرع الجميع إلى منتصف الحشد في اللّحظة التي لمحوا فيها مرور النّعش. بعضهم رفع أكمامه حماسةً ظنّاً منه أنّه قد يتمكّن من الاقتراب. وفي بئر العبد، سادت همروجة عندما فقد أحد المشاركين الوعي وحصل خلاف بين بعض المشاركين حول طريقة إسعافه، قبل أن يصل مسعفو الهيئة الصحّية ويتولّوا الأمر.

خرجت الأمور عن سيطرة رجال الانضباط أكثر من مرّة، إذ لم تستطع كثيرات من النسوة البقاء على الأطراف كمتفرّجات، بل شققن طريقهنّ داخل الألم هنّ أيضاً.

وصل المشيّعون إلى الشارع المحاذي لمسجد الإمامين الحسنين، حيث سيدفن السيد. تنتظر نعشه منصّة تملأها الورود البيضاء. ومثلما عجز المشيّعون عن تنظيم أنفسهم بسبب الزحمة، حصل مع الشخصيّات الرّسمية والدّينية التي انتظرت الصّلاة الأخيرة. ساعة تقريباً ولم يحضر النّعش. الأمر مستحيل أصلاً، لا يمكن شقّ طريقٍ بين مئات الآلاف. الحالة العاطفيّة في أوجها: لا نظام في الموت. فجأةً ورد خبر نقل مكان الصّلاة. اشتدّ التّدافع بين السلسلة البشريّة لإمرار الشخصيّات والمشيّعين. في الداخل، صلّى السيد محمد علي فضل الله على الجثمان قبل مواراته في الثّرى.

بعد التشييع، سأل كثيرون عن كيفية صلاة الوحشة. وهي صلاة يهديها الأحياء للميّت في اللّيلة الأولى لدفنه. رفض كثرٌ المغادرة. قالوا إنهم يحتاجون إلى صلاة تؤنس وحشتهم من بعده: لقد خلّف الرّجل فراغاً بين مئات الآلاف.

 التاريخ: 25 رجب 1431  ه الموافق: 07/07/2010 م

 
 
 
 
وداع السيد في الضاحية

أعدّ الصحافيّان أحمد محسن ومحمد محسن تقريراً في جريدة الأخبار يعرض لتفاصيل تشييع السيّد الراحل فضل الله بعنوان: "وداع السيّد في الضاحية أمس"... وهنا عرض للتّفاصيل:

أمس، ودّع لبنان العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله. جالت الضاحية الجنوبيّة لبيروت مع جثمانه في ذاكرتها كمن يقف أمام المرآة. ورافقها في تلك الرحلة أحبّاء من لبنان والدول العربية والعالم، عبّر معظمهم عن إكبار الانفتاح والتنوير والمشاركة في إنتاج مقاومة الاحتلال... وغيرها من العناوين التي عُرف بها الرّاحل.

على الرّغم من الحشود الكثيفة، بدت مسيرة التشييع جنازةً يشارك فيها الأهل والجيران. فمعظم المشاركين، من النساء والرجال، من الشيوخ والشباب، تحدّثوا عن معرفة الراحل شخصياً والشعور بـ«أبوّته»، ولم يخفِ كثيرون، وهم يحتفون بفكره، أن يمتدحوا انفتاحه، كأنهم يعبّرون عن شوقٍ إلى حوارٍ يدركون أنّ أحد مواعيده قد مضى.

الضّاحية تستعيد ذكرياتها معه :

غسل محبّو السيد محمد حسين فضل الله عيونهم طويلاً، ولم ينقصهم شيء ليحزنوا بشجاعة. دار نعش السيّد بينهم، في المناطق التي عرفوه فيها، ابتداءً من حارة حريك، وصولاً إلى بئر العبد. هكذا، بكى مئات الآلاف، أمس، في وداعه.

كمن يجهد لالتقاط الضّوء، كان محبّو السيد محمد حسين فضل الله، أمس، يقتربون من نعشه. يصطدمون بلجان التنظيم، لكنّهم يعيدون الاقتراب كلّ مرّة. تجمّعت الحشود باكراً أمام بوّابة منزله. الوقت يمرّ سريعاً، والآلاف ينتظرون خروج السيد، ولكن بنعشه هذه المرّة. عند باب المنزل من الداخل، تصطفّ شخصيات رسمية ودينية ليمرّ بينهم، لكنّ المنظّمين ارتؤوا إخراجه من البوّابة الخلفيّة، ليمرّ على أكفّ أحبّائه الفقراء. كان النّاس يزاحمون الأزقّة للوصول إلى النّعش.

 بدا حضور رجال الدّين السنّة لافتاً في البداية، لكثرة عددهم، لكنّ تشابكهم يداً بيد مع رجال الدين الشيعة، أعاد المشهد إلى طبيعته: الرّاحل كان ساعياً دائماً إلى الوحدة.عند الواحدة والنّصف تقريباً، بدأت رحلة الوداع. ما لم يقل عن جنازة مهيبة شهدتها الضاحية، يمكن قوله في جنازة السيّد فضل الله. لم تتعب مكبّرات الصّوت من قراءة دعاء الوحدة، الدّعاء المحبّب إلى الراحل الكبير. وإلى ذلك، بدا المراسلون الصحافيون والمراسلات جزءاً من الجنازة المهيبة. طغى الأسود على ملابسهم. ولم يخفِ بعضهم ذهوله من الأعداد الهائلة للمشيّعين. إحداهنّ، حين أصبحت قرب مسجد الحسنين، همست بالإنكليزيّة في أذن زميلها المصوّر ذاهلةً: «من هو هذا الرّجل بحقّ السّماء؟»، فتأتيها الإجابة من كلّ حدب وصوب!!

كانت الجنازة أشبه باندفاعةٍ جماعيّةٍ، واعيةٍ لشيءٍ واحد: الوداع. كلّما قطع النّعش متراً، يعود شريط الذّكريات سنين إلى الوراء. في كلّ شارعٍ موقف ومؤسّسة. في الشّارع العريض تسطع علاقة السيّد محمد حسين فضل الله بالمنطقة، بأهلها وحزبها. الطّريق شاقّة نحو القبر، الأيادي المرفوعة وداعاً للسيّد حجبت الضّوء: «بأمان الله يا حبيب الله». هناك، تذكّروا «رجلاً ساند المقاومة، يوم نكرها الجميع»، وعلى مقربةٍ من الصّمت المهيب، شابّ يبكي بحرقة: «لقد أعطى السيد كلّ شيءٍ ورحل، تعب السيّد كثيراً». ضاقت الشّرفات بالمتّشحين بالسواد. اخترق النّعش الشّارع العريض من منتصفه، من الزّقاق المواجه لقناة المنار سابقاً. «تحايل» المنظّمون على المشيّعين لتمرير النّعش، لكنّ ذلك لم ينجح. جهد رجال الانضباط كثيراً في إعادة توجيه الجنازة داخل الشّارع. وفي إحدى زواياه، اختصر عجوز المشهد كلّه. كلّما سقطت دمعة منه، شدَّ على عصاه، حتى لم يعد قادراً على الوقوف، ووقع أرضاً. أسعفه الشبّان ليقف مجدّداً، وسط ذهول الطّفل الواقف إلى جانبه... قال إنّ الطّفل هو حفيده، وإنّ مؤسّسات السيّد الخيرية تهتمّ به، ثم أردف باكياً: «راح الذي يهتمّ بالجميع». وفي نهاية الشّارع، وفي حركةٍ غير مقصودة، أحنى كثيرون رؤوسهم. فقدوا الأمل في الاقتراب من النّعش. أحنوا رؤوسهم واستعدّوا جيداً للمحطّة التالية.

وصل النّعش إلى المحطّة المُتخمة بالذّاكرة: بئر العبد. للمنطقة رمزيّة خاصّة، فهي أوّل المعاقل وآخرها. تضاعف كلّ شيء هناك. كثرة الشّمس، والتّدافع بين المنتظرين. وثارت مئات الأيتام. تفاقم الشّعور بالخسارة، هناك تحديداً، تمرّد الجميع على الموت، الموت الذي انتصر عليه السيّد مراراً. وفي 8 آذار 1985 كانت أقوى المعارك. آنذاك، وقرابة الخامسة عصراً، اقتربت سيّدة مسنّة من السيّد محمد حسين فضل الله، بعد انتهائه من محاضرته الأسبوعيّة التي تلت صلاة الجمعة في جامع الإمام الرّضا، والتي كانت مخصّصةً للفتيات تحديداً. سألته سؤالاً واحداً. اعتذر السيّد بلياقته المعروفة، لأنّه كان مرهقاً. أصرّت السيّدة، حتى إنّ المقرّبين من السيد يقولون إنها ألحّت، وتمسّكت بثيابه، فرضخ لطلبها خجلاً. انطلق موكب السيّد بدونه تمويهاً. وما هي إلا دقائق قليلة، حتى دوّى انفجارٌ ضخم، يروي سكان الضّاحية أنّه الأقوى على الإطلاق في تاريخها خلال الحرب الأهليّة. كانت الخمس عشرة دقيقةً التي استنفدت فيها المرأة الخمسينيّة السيّد، كافيةً لحصول المعجزة. استشهد أكثر من مئة شخصٍ في تلك المجزرة (من بينهم 75 امرأة وشابّة)، ووجدت الأشلاء على أسطح المباني، وتناثرت في الطّرقات، لشدّة الاكتظاظ في المنطقة. ولاحقاً، يروي المقرّبون من السيّد أنّه لم يرَ تلك المرأة التي استوقفته بعد الحادثة، ولم يستطع أن يعرف عنها شيئاً. بعد خمسة وعشرين عاماً، لا يزال المشهد حيّاً أمام بعض مشيّعي السيّد. أبو بلال، الّذي كان موجوداً حينها، كان يسمع صوت الانفجار القويّ نفسه أمس، في وداع السيّد. مشى تائهاً بين الحشود، بحثاً عن السيّد، فالرّجل كان يشعر بوجود فضل الله بين أحبّائه في الدّقائق الأولى للتّشييع. كان يبحث عن والده. وتعاظم الحزن قرب «السندريلا»، لأنّ النّعش لم يمرّ من هناك، وهو مكان المجزرة القديمة. هل غادر السيّد فعلاً؟ تجيب مكبرات الصوت: «النموذج اللّبنانيّ أعطى الدّروس للعالم، فليتعلّم بعض العرب من المجاهدين. إنّ هذا الصوت سيلقى صداه داخل فلسطين العزيزة». هذه إحدى كلمات السيّد، بكى شباب كثيرون بعد انتهائها.

وداعاً يا أبا الأيتام، تقول اللافتة المنتشرة في كلّ مكان، ليس صعباً على أحد أن يكتشف أنّ الجميع في الضاحية هم أيتام الراحل. كيف لا؟ فمن لم يقتحم الشّوارع الأساسية والفرعية في الضاحية (وهم قلائل للمناسبة)، افترش الشرفات المطلّة، وشارك برشّ المياه على الرؤوس المحترقة.

... سرت شائعات عن مشاركة السيد نصر الله غذّاها الشبه مع صفيّ الدين...ومع اقتراب السيارة من جادة «الإمام الخميني» عاود المشيّعون الالتحام مع النّعش، جهد المنظّمون لمنعهم. نجحوا بعد محاولات متكرّرة، كلّفت أضراراً في السيارة التي أقلّت الجثمان، علماً أن رجال الانضباط جهدوا كثيراً في أكثر من محطة، يمكن تنظيم الحشود، لكن لا يمكن تنظيم الغضب.

فعلى مقربة من منزل فضل الله، هرع الجميع إلى منتصف الحشد في اللّحظة التي لمحوا فيها مرور النّعش. بعضهم رفع أكمامه حماسةً ظنّاً منه أنّه قد يتمكّن من الاقتراب. وفي بئر العبد، سادت همروجة عندما فقد أحد المشاركين الوعي وحصل خلاف بين بعض المشاركين حول طريقة إسعافه، قبل أن يصل مسعفو الهيئة الصحّية ويتولّوا الأمر.

خرجت الأمور عن سيطرة رجال الانضباط أكثر من مرّة، إذ لم تستطع كثيرات من النسوة البقاء على الأطراف كمتفرّجات، بل شققن طريقهنّ داخل الألم هنّ أيضاً.

وصل المشيّعون إلى الشارع المحاذي لمسجد الإمامين الحسنين، حيث سيدفن السيد. تنتظر نعشه منصّة تملأها الورود البيضاء. ومثلما عجز المشيّعون عن تنظيم أنفسهم بسبب الزحمة، حصل مع الشخصيّات الرّسمية والدّينية التي انتظرت الصّلاة الأخيرة. ساعة تقريباً ولم يحضر النّعش. الأمر مستحيل أصلاً، لا يمكن شقّ طريقٍ بين مئات الآلاف. الحالة العاطفيّة في أوجها: لا نظام في الموت. فجأةً ورد خبر نقل مكان الصّلاة. اشتدّ التّدافع بين السلسلة البشريّة لإمرار الشخصيّات والمشيّعين. في الداخل، صلّى السيد محمد علي فضل الله على الجثمان قبل مواراته في الثّرى.

بعد التشييع، سأل كثيرون عن كيفية صلاة الوحشة. وهي صلاة يهديها الأحياء للميّت في اللّيلة الأولى لدفنه. رفض كثرٌ المغادرة. قالوا إنهم يحتاجون إلى صلاة تؤنس وحشتهم من بعده: لقد خلّف الرّجل فراغاً بين مئات الآلاف.

 التاريخ: 25 رجب 1431  ه الموافق: 07/07/2010 م

 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير