ولادة الإسلام في يوم المبعث الشريف

ولادة الإسلام في يوم المبعث الشريف

ليكن مناسبة للوحدة.. واحتفالاً بالمسؤولية:
ولادة الإسلام في يوم المبعث الشريف


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. ويقول تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. قبل يومين، مرّت علينا ذكرى المبعث النبوي الشريف، وهو اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الذي بعث الله تعالى فيه رسوله برسالته إلى الناس من أجل أن يبلّغهم رسالة الله، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله تعالى في كتابه: {هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}.

إشراقة الرسالة الإسلامية:

فقد كانت الرسالة الإسلامية إشراقة في عقول الناس التي أظلمت من خلال الخرافات التي عششت في داخلها، وكانت إشراقة محبة في قلوب الناس التي حملت كل الحقد والعداوة والبغضاء. وأراد الله تعالى للرسالة أن تشرق في حياة الناس لتهديهم إلى الصراط المستقيم. وانطلق النبي(ص) بالرسالة كما علّمه الله، وهو الذي كان في مدى الأربعين سنة التي سبقت إرساله بها يعيش تأملاته وعبادته في غار "حراء"، ولكن الله تعالى لم يُنزل عليه الكتاب ويبلغه بتفاصيل الإيمان مما أمره به ونهاه عنه، ومما وجّهه إليه، إلا عندما أرسله بالرسالة، {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا - والمراد من الروح كما ورد في بعض التفاسير القرآن - ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.

الصدع بالرسالة وتلقّي الصدمات:

وقال الله تعالى لنبيّه: {يا أيها المدثّر* قم فأنذر* وربك فكبّر}، {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}، وانطلق النبي (ص) صادعاً بالرسالة، وكان يأتيه الشخص والشخصان فيدخلون الإسلام، ثم ينطلق هذا وذاك ليهدوا غيرهم إلى الإسلام. وعاش النبي (ص) مرحلة من أصعب المراحل في مكة، حيث اضطهده المشركون هو وأصحابه، حتى اضطروا للهجرة إلى "الحبشة"، وكان النبي(ص) يجتمع برؤساء القبائل والعشائر ويقصدهم إلى بيوتهم عندما يأتون إلى "مكة" في المواسم ليدعوهم إلى الله تعالى، حتى إذا استكمل دعوته هاجر إلى المدينة وبدأت المعاناة هناك، حيث شنّ عليه المشركون حرباً متحركة انطلقت في أكثر من مرحلة، بلغت القمة في حرب "الأحزاب" التي حاول فيها المشركون القضاء على الإسلام في مهده، ولكن الله تعالى كفى المؤمنين القتال.

وتحالف اليهود مع المشركين، بعد أن كان النبي(ص) قد وثّق العهد معهم، ولكنهم - كعادتهم - ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وعاش النبي (ص) في كل تاريخه هذا في خط الرسالة، ولكنه في الوقت نفسه كان يعيش الألم كل الألم، والإيذاء كل الإيذاء، حتى قال (ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، لأنه في كل تاريخه كان يتلقى الصدمات على كل المستويات، حيث كان المشركون يحاصرون الإيمان كله والإسلام كله، وكانوا يتحركون في المناطق التي يبسطون عليها نفوذهم من أجل أن يبعدوا الناس عن الإسلام، وكانوا يخوّفونهم بما يملكون من قوة حتى لا يدخلوا في الإسلام، حتى إذا نصر الله تعالى نبيه وجاء فتح "مكة" بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

سمته(ص) الرأفة والرحمة:

لقد أراد النبي (ص) - من خلال الرسالة - أن يعمّق الإسلام في عقول الناس، ولذلك كان يقوم في الناس بين وقت وآخر ليعلّمهم ويربيهم ويجيبهم عن كل أسئلتهم، كان يعيش مع الناس كأحدهم، ويعيش المحبة لكل الناس معه، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وكان ليّن القلب، فلا يحمل في قلبه ثقلاً على أحد حتى الذين يعادونه ويخاصمونه، وكان ليّن اللسان، فلم تصدر منه أية كلمة قاسية أو عادية ضد كل الناس، {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

المؤاخاة بين المؤمنين:

واستطاع النبي (ص) أن يربي صفوة طيبة من أصحابه على خط الإسلام كله، وقد تحدث الله تعالى عن هؤلاء الذين استقاموا وواصلوا الاستقامة في الخط ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، {محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}. وأراد النبي (ص) أن يصنع للحياة مجتمعاً يقوم على المحبة والتسالم، فقد قال رسول الله (ص) مما روي عنه: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع يعيش الناس فيه بسلام مع بعضهم البعض، فلا يتعدى إنسان على إنسان بسوء في كلامه وعمله، حتى أن الله تعالى آخى بين المؤمنين: {إنما المؤمنون أخوة - وحمّلهم المسؤولية في أنهم إذا تنازعوا فيما بينهم فعلى الجميع أن ينهض ويعمل على إصلاح ذات البين - فأصلحوا بين أخويكم}.

الإعتصام بالله:

لذلك، لا بد لنا عندما نتمثّل المجتمع المسلم كما أراده رسول الله (ص) وعمل له، أن ندرس مجتمعنا المسلم الذي تنخر فيه العصبيات، فيعيش كل يوم العصبية الشخصية والعائلية والحزبية والقومية والعرقية، ما جعل المؤمنين يعيشون موزَّعين متفرّقين. إن الله أراد لنا ان نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الإسلام والقرآن، ولكننا تفرّقنا، فبدأ بعضنا يكفّر بعضنا الآخر، فوجدنا من المسلمين الشيعة من يكفّر المسلمين السنّة، ومن المسلمين السنّة من يكفّر المسلمين الشيعة، وبدأنا نكفّر ونضلل بعضنا بعضا، وبدأنا نعيش المشاكل والمنازعات والحروب، وأعداء الله من الكافرين والمستكبرين ينفذون من كل هذه الثغرات وينصبون الحواجز بيننا من جديد.

إن الإسلام وحدة بيننا، إن شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، وإن الصلاة - مهما اختلفت الاجتهادات فيها - هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، فها نحن في يوم الجمعة نصلي لربنا كما يصلي كل المسلمين في العالم لربهم في هذا اليوم، وإن اختلفنا في بعض شروط الصلاة، ولكن صلاتنا واحدة وقبلتنا واحدة ونتجه إلى ربّ واحد، وننطلق من رسول واحد ومن سنّة واحدة، وإذا اختلفنا في بعض تفاصيل العقيدة والشريعة، فإن الله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء - وأنتم مسلمون تؤمنون بالله وبرسوله - فردّوه إلى الله والرسول}، اقرأوا كتاب الله ماذا يقول لكم فيما تتنازعون فيه لتتوحّدوا عنده، واقرأوا ماذا يقول رسول الله لتتوحدوا فيه، لأن رسول الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".

التحاور في الاختلاف:

إن الله تعالى أرادنا أن نكون أمّة واحدة، لذلك قد نختلف فيما يختلف فيه الناس، قد نختلف في داخل المذهب والدين والبلد الواحد، ولكن الذين يعيشون المسؤولية الإسلامية أمام الله هم الذين إذا اختلفوا تحاوروا ودرسوا الأمور بعقلانية وموضوعية، هذه هي الحضارة.. أن تكون إنساناً متحضّراً يعني أنك إذا اختلفت معي واختلفت معك، تحاورني وأحاورك وتجادلني وأجادلك، ذلك هو كلام الله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا - لأهل الكتاب، وكم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب - آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، نسلم قلوبنا وعقولنا وحياتنا لله، إن الله تعالى يقول لك: إذا كنت مخلصاً للإسلام لا لذاتك وعصبيتك وطائفيتك فـ {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، هل تريد أن تدعو الناس إلى الله وتقرّبهم إليه: كفَّ عن كل كلمة شاتمة ولاعنة وسابّة، وعن كل حقد وعداوة، افتح إنسانيتك على إنسانية الإنسان الآخر، فتضع الكلمة في موضعها، وتحرّك الأسلوب الذي تربح من خلاله قلوب الناس وعقولهم.. لأنك لا تستطيع أن تغيّر عقول الناس بالقوة، الكلمة الطيبة هي التي تغيّر العقل عندما تعرف كيف تدخل إلى العقل، والأسلوب الطيب هو الذي يمكن أن ينفذ إلى القلب عندما يتحرك في العناصر التي تجتذب قلوب الناس، وقد قال أمير المؤمنين (ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"...

الإسلام يعيش التحديات:

إن الإسلام في هذا العصر يعيش التحديات الكبرى على مستوى العقيدة والشريعة والواقع، فقد برز الكفر كله إلى الإسلام كله، وعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وذلك بأن ندعو أولاً أهلنا إلى الإسلام. لا تعتبروا أن مهمتكم في أولادكم وأهلكم وأزواجكم مجرد مهمة مادية، بل إن مهمتنا كيف ننقذ أهلنا من النار التي وقودها الناس والحجارة، ما قيمة أن تؤمّن حياة ولدك أو زوجتك أو أخيك أو قريبك في الدنيا ليأكل جيداً ويلبس جيداً، وعندما يلاقي ربه فليس له ما يأكله إلا الزقوم، وليس له ما يشربه إلا الغسلين، وليس له ما يعيشه إلا لهب النار، هل تحبون أولادكم؟ {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

ندعو للالتزام بالإسلام:

في يوم المبعث، علينا أن ندعو أهلنا إلى الالتزام بالإسلام والتثقف به، وأن نعمل على نصرة الإسلام في العالم بكل ما عندنا من فكر وقول وعمل، بهذا نستطيع أن نحتفل بيوم المبعث احتفالاً فاعلاُ منتجاً، لأن الرسول (ص) غاب عنّا جسداً، ولكن لم تغب عنّا رسالته.

في يوم المبعث وفي يوم "الإسراء والمعراج" الذي أراد الله تعالى لنبيه أن يسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وليجمعه برسله وليصلي بهم في بيت المقدس - كما ورد في بعض الروايات - وأراد الله له أن يعرج إلى السماء ليعرّفه كل آفاق السماء والأرض، من أجل أن يفتح عقله على الكون كله، ليتعرّف على أسراره وليعرف عظمة الله في ذلك كله، في هذا اليوم، وينبغي لنا أن نعيش هذا الامتداد وهذه الرحابة في معرفة آيات الله وأسرار خلقه، لنعرف الله أكثر ونؤمن به أكثر، ولنحمي المسجد الأقصى كما علينا أن نحمي المسجد الحرام، لأن ذلك هو جزء أساسي من مسؤولياتنا، فالمسجد الأقصى هو مهبط الأنبياء والمسجد الحرام هو المسجد الذي بناه شيخ الأنبياء وأرسل الله تعالى فيه خاتمهم. علينا أن نحتفل بالإسلام كله، وأن نعمل للإسلام كله، وأن نتوحد بالإسلام كله ونتحاور في ما اختلفنا فيه، لا أن نتحارب ونتحاقد في خلافاتنا.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على الإسلام كله، لأن الله تعالى يريدنا أن نتحرك كأمة في مسؤوليتنا الجماعية، حتى ننطلق إلى العالم في كل مواقع القوة، وأن نكون الأمة التي تفكر وتعقل وتخطط للتحرك إلى الأمام ولا تتراجع تراجع السقوط والهزيمة.. علينا أن نتحمّل مسؤوليتنا عن الإسلام والمسلمين، لنتعرّف ماذا هناك، لا سيما في هذه المرحلة التي انفتحت فيها الحرب بين أعداء الله من اليهود وبين المسلمين.

هشاشة الكيان الإسرائيلي:

الانتفاضة مستمرة، وهناك أكثر من جهة دولية وإقليمية ومحلية تعمل لإيقافها أو تجميدها، ولكن الشعب الفلسطيني لا يزال يتحرك بكل قوة وصلابة وشجاعة في مواجهة العدوان الصهيوني الوحشي، بما يتوفر له من حجارة وأسلحة خفيفة، في معركة الاستقلال الذي لن يناله بالمفاوضات، لأن إسرائيل لا تريد له الحرية إلا بشروطها الخاصة، وتتلخّص بسيطرتها المطلقة على فلسطين كلها، مع هامش صغير من الأرض والسيادة قد يُسمى دولة، ولكن من دون مضمون سياسي وأمني واقتصادي في عملية تقرير المصير.. وهكذا، يواجه هذا الشعب البطل الجريح المعركة بأقوى مواقعها، بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه، لأنه لن يخسر شيئاً من خلال هذه التضحيات الكبرى، إلا الواقع المرير الذي يُراد منه إذلاله وقهره ومصادرة مستقبله..

لقد استطاعت الانتفاضة بكل أحداثها وتفاصيلها أن تثبت للعالم أن وجود إسرائيل لا يمكن أن يستمر، لأن الذهنية العنصرية التي تحكم أكثرية الشعب اليهودي، ولا سيما المستوطنين والمسؤولين الصهاينة، لا تنظر إلى العرب والمسلمين باحترام إنساني، ما يؤكد صعوبة التعايش واستحالته بين العرب واليهود. وهذا ما لاحظناه في تجربة ما يُسمى عرب الـ48 الذين يعيشون داخل الكيان الصهيوني ويحملون جنسيته، فقد واجهوا العنصرية اليهودية التي تتحرك بوسائل القتل والجرح وإحراق البيوت ونهبها، والاعتداء على الأطفال والنساء والشيوخ والشباب بدون مناسبة، بالرغم من مرور أكثر من خمسين سنة على التعايش الرسمي بينهم، حيث لا يزال اليهود - في كيانهم - يخافون من تكاثر العرب السكاني بما لا يتناسب مع الصفة اليهودية لهذا الكيان..

الخضوع الأمريكي لليهود:

وقد استطاعت الانتفاضة أن تكشف لنا بوضوح أكثر الخضوع الأمريكي كدولة لليهود، ولا سيما في مرحلة الانتخابات الرئاسية والنيابية التي يتسابق فيها المرشحون على تأييد إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين، من أجل أن يربحوا أصوات اليهود وأموالهم، لأن هؤلاء يمثلون الأكثرية في الإدارة الأمريكية والمواقع الرسمية المتقدمة، ففرضوا على أمريكا خطوط السياسة الإسرائيلية على سياستها في الشرق الأوسط بالمستوى الذي لم يعد لها فيه سياسة مستقلة بعيداً عن إسرائيل، وهذا ما جعلها معزولة عن شعوب المنطقة، وجعل مصالحها عرضة للتدمير في أكثر من بلد، حتى أن سفاراتها باتت تعيش ما يشبه حالة طوارئ في البلاد العربية والإسلامية، لأن الشعوب تحمّلها المسؤولية الكاملة عن كل المجازر الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

لقد أصدر الكونغرس الأمريكي قراراً بفرض العقوبات على الشعب الفلسطيني إذا لم يوقف الانتفاضة، أو إذا أعلن دولة من جانب واحد، كما أن الحكومة الإسرائيلية هددت بالعقوبات عند إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، بحجة أن كل شيء في العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية ـ حسب الزعم الأمريكي ـ لا بد أن يتم بالمفاوضات، ولكن أمريكا هذه لم تحرّك ساكناً عند ضم القدس الموحَّدة للكيان الصهيوني، ولم تقم بأيّ إجراء مضاد لبناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية وغزة، ولم تتحرك عند ضم الجولان، ولم تستنكر رفض إسرائيل تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى انسحابها من الأراضي المحتلة في الـ67، بل إن أمريكا بدأت تتحدث عنها بأنها الأراضي المتنازع عليها بدلاً من الأراضي المحتلة، ما يوحي بأنها بدأت ترفض التأكيد على القرارين 242 و338، بالإضافة إلى قرار عودة اللاجئين الصادر عن أمريكا بالذات في مجلس الأمن!!

إن الرئيس الأمريكي يتحدث بسلبية عن وحدة الشعب الفلسطيني في التقارب بين حركتي "حماس" و"الجهاد" وسلطة الحكم الذاتي على قاعدة الانتفاضة، ويرى في ذلك دليلاً على أن السلطة هي التي تحرك العنف ضد إسرائيل، على حدّ قوله، ولكنه لا يتحدث عن وحدة اليهود في حركة التوافق بين "العمل" و"الليكود" الذي ينادي بالإجهاز على الشعب الفلسطيني وإسقاط كل الاتفاقات بما في ذلك اتفاق "أوسلو"، لأن المطلوب عند الرئيس الأمريكي هو حلّ مشكلة إسرائيل وإبعادها عن المأزق الذي تعيش فيه، ومنحها الفرصة للتمرد على القرارات الدولية، ومنع الفلسطينيين من الحصول على حقوقهم المشروعة. ولذلك، لم نجد هناك أيّ استنكار لمجازر قتل الأطفال من الجانب الأمريكي، لأنه يصوّر المسألة كما لو كانت حرباً يسقط فيها الأبرياء، من دون تحديد للمعتدي، بل ربما يوحي بأن الفلسطينيين هم المعتدون وأن إسرائيل هي الضحية؟!

لقد دعا الرئيس الأمريكي "عرفات" و"باراك" إلى واشنطن، من أجل الضغط على "عرفات" لإيقاف الانتفاضة، والدخول في معركة مع أوسع القواعد الشعبية الفلسطينية التي تتحرك في خط الثورة من أجل الاستقلال، وذلك لإنقاذ "باراك" من المشكلة التي يتخبط فيها، خصوصاً وأن الانتفاضة بدأت تمثل خطراً على إسرائيل من حيث وجودها ككيان لأول مرة في التاريخ، وهذا ما جعل العدو يتحدث عن الاستعداد لحرب شاملة، في الوقت الذي يتحدث فيه العرب - من موقع الضعف - عن سلام شامل لن يحصلوا عليه إلا بتقديم المزيد من التنازلات للعدو من أرضهم وسياستهم وأمنهم واقتصادهم.

لنستعد المبادرة في حركة الصراع:

إن على الجميع - من العرب والمسلمين - أن يعرفوا أن الأمة قد تحركت بكل قوة مع الانتفاضة، ولا بد لها أن تستمر في حركتها الجهادية على جميع المستويات، فإذا كان العدو يخطط للوصول إلى أطماعه، فعلينا أن نخطط للوصول إلى أهدافنا، وإذا كان يستعرض عضلاته لتهديدنا وتخويفنا، فعلينا أن نقوّي عضلاتنا السياسية والأمنية والاقتصادية في مواجهته لرد عدوانه، وإذا كان يعمل من أجل ما يسميه وحدة وطنية، فعلينا أن نعمل للوحدة الوطنية في الساحة الوطنية والقومية على الصعيد العربي والإسلامي، لأن التحالف الاستكباري الذي تقوده أمريكا في مساندتها المطلقة لإسرائيل، قد أعلن الحرب على العرب والمسلمين جميعاً لحساب العدو، وعلينا أن نتحرك في نطاق الخطة المدروسة الواسعة لإسقاط سياسته وإرباك مصالحه، والدعوة إلى إزالة قواعده العسكرية من العالمين العربي والإسلامي، من أجل أن نستعيد المبادرة في خط المواجهة من موقع الفعل لا من موقع ردّ الفعل..

وإننا نكرر دعوتنا لـ"منظمة المؤتمر الإسلامي" لعقد مؤتمر قمة سياسية لمواجهة الأخطار التي تتهدد المقدّسات الإسلامية والأرض الإسلامية في فلسطين وما حولها، فإن ذلك هو المبرر لوجود هذه المنظمة، لأنها إذا لم تتحرك في أقدس قضية إسلامية فما معنى وجودها السياسي؟؟

علينا أن ندرك قيمة المقاومة :

وأخيراً، إن العدو يتحدث عن إمكانية اشتعال الجبهة اللبنانية مجدداً، ما قد يكون وسيلة من وسائل التهديد والإثارة، فعلينا أن لا نسقط من حساباتنا استمرارية الإعداد لمواجهة أخطر الاحتمالات. وعلينا في الوقت نفسه أن ندرك قيمة المقاومة وأهمية دعمها والحفاظ على مخزونها الجهادي وتجاربها العسكرية والأمنية، كجيش احتياطي متحرك لحماية البلد من كل مخططات العدو، بالتنسيق مع الجيش اللبناني الذي يتحمّل مسؤولية الدفاع عن الأرض والإنسان والاستقلال..

القضية قضية وطن:

وعلى الحكومة الجديدة أن تتحمّل مسؤولية الإعداد الكامل للمواجهة المحتملة مع العدو، في الوقت الذي نرجو لها النجاح في التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية الخانقة، والعمل على مواجهتها بالحلّ الناجع ما أمكنها ذلك. ونريد لكل الفعاليات السياسية والاقتصادية والنقابية والاجتماعية أن تتكامل معها في البحث عن الحلول الواقعية للأزمات الصعبة، لأن القضية ليست قضية حكومة تذهب وحكومة تأتي، بل القضية قضية وطن يحتاج إلى الاستقرار والطمأنينة والإنقاذ، ما يوحي بأن المسؤولية هي مسؤولية الجميع الذين لا بد لهم من تجميد خلافاتهم الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية، وذلك من أجل الوصول بالبلد إلى شاطئ السلام، في أجواء الرياح العاصفة التي تواجه المنطقة كلها..

ونقول للناس مجدداً ما قلناه في السابق: تواضعوا في أحلامكم، فليس هناك حلّ سحري لإنقاذ البلد من أزماته الصعبة، فلتكن أحلامكم واقعية، وليكن تحرككم مسؤولاً، ولتبتعدوا عن كل الحساسيات والإثارات، رحمة بالحاضر والمستقبل وبالإنسان كله.

ليكن مناسبة للوحدة.. واحتفالاً بالمسؤولية:
ولادة الإسلام في يوم المبعث الشريف


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. ويقول تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. قبل يومين، مرّت علينا ذكرى المبعث النبوي الشريف، وهو اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الذي بعث الله تعالى فيه رسوله برسالته إلى الناس من أجل أن يبلّغهم رسالة الله، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله تعالى في كتابه: {هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}.

إشراقة الرسالة الإسلامية:

فقد كانت الرسالة الإسلامية إشراقة في عقول الناس التي أظلمت من خلال الخرافات التي عششت في داخلها، وكانت إشراقة محبة في قلوب الناس التي حملت كل الحقد والعداوة والبغضاء. وأراد الله تعالى للرسالة أن تشرق في حياة الناس لتهديهم إلى الصراط المستقيم. وانطلق النبي(ص) بالرسالة كما علّمه الله، وهو الذي كان في مدى الأربعين سنة التي سبقت إرساله بها يعيش تأملاته وعبادته في غار "حراء"، ولكن الله تعالى لم يُنزل عليه الكتاب ويبلغه بتفاصيل الإيمان مما أمره به ونهاه عنه، ومما وجّهه إليه، إلا عندما أرسله بالرسالة، {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا - والمراد من الروح كما ورد في بعض التفاسير القرآن - ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.

الصدع بالرسالة وتلقّي الصدمات:

وقال الله تعالى لنبيّه: {يا أيها المدثّر* قم فأنذر* وربك فكبّر}، {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}، وانطلق النبي (ص) صادعاً بالرسالة، وكان يأتيه الشخص والشخصان فيدخلون الإسلام، ثم ينطلق هذا وذاك ليهدوا غيرهم إلى الإسلام. وعاش النبي (ص) مرحلة من أصعب المراحل في مكة، حيث اضطهده المشركون هو وأصحابه، حتى اضطروا للهجرة إلى "الحبشة"، وكان النبي(ص) يجتمع برؤساء القبائل والعشائر ويقصدهم إلى بيوتهم عندما يأتون إلى "مكة" في المواسم ليدعوهم إلى الله تعالى، حتى إذا استكمل دعوته هاجر إلى المدينة وبدأت المعاناة هناك، حيث شنّ عليه المشركون حرباً متحركة انطلقت في أكثر من مرحلة، بلغت القمة في حرب "الأحزاب" التي حاول فيها المشركون القضاء على الإسلام في مهده، ولكن الله تعالى كفى المؤمنين القتال.

وتحالف اليهود مع المشركين، بعد أن كان النبي(ص) قد وثّق العهد معهم، ولكنهم - كعادتهم - ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وعاش النبي (ص) في كل تاريخه هذا في خط الرسالة، ولكنه في الوقت نفسه كان يعيش الألم كل الألم، والإيذاء كل الإيذاء، حتى قال (ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، لأنه في كل تاريخه كان يتلقى الصدمات على كل المستويات، حيث كان المشركون يحاصرون الإيمان كله والإسلام كله، وكانوا يتحركون في المناطق التي يبسطون عليها نفوذهم من أجل أن يبعدوا الناس عن الإسلام، وكانوا يخوّفونهم بما يملكون من قوة حتى لا يدخلوا في الإسلام، حتى إذا نصر الله تعالى نبيه وجاء فتح "مكة" بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

سمته(ص) الرأفة والرحمة:

لقد أراد النبي (ص) - من خلال الرسالة - أن يعمّق الإسلام في عقول الناس، ولذلك كان يقوم في الناس بين وقت وآخر ليعلّمهم ويربيهم ويجيبهم عن كل أسئلتهم، كان يعيش مع الناس كأحدهم، ويعيش المحبة لكل الناس معه، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وكان ليّن القلب، فلا يحمل في قلبه ثقلاً على أحد حتى الذين يعادونه ويخاصمونه، وكان ليّن اللسان، فلم تصدر منه أية كلمة قاسية أو عادية ضد كل الناس، {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

المؤاخاة بين المؤمنين:

واستطاع النبي (ص) أن يربي صفوة طيبة من أصحابه على خط الإسلام كله، وقد تحدث الله تعالى عن هؤلاء الذين استقاموا وواصلوا الاستقامة في الخط ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، {محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}. وأراد النبي (ص) أن يصنع للحياة مجتمعاً يقوم على المحبة والتسالم، فقد قال رسول الله (ص) مما روي عنه: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع يعيش الناس فيه بسلام مع بعضهم البعض، فلا يتعدى إنسان على إنسان بسوء في كلامه وعمله، حتى أن الله تعالى آخى بين المؤمنين: {إنما المؤمنون أخوة - وحمّلهم المسؤولية في أنهم إذا تنازعوا فيما بينهم فعلى الجميع أن ينهض ويعمل على إصلاح ذات البين - فأصلحوا بين أخويكم}.

الإعتصام بالله:

لذلك، لا بد لنا عندما نتمثّل المجتمع المسلم كما أراده رسول الله (ص) وعمل له، أن ندرس مجتمعنا المسلم الذي تنخر فيه العصبيات، فيعيش كل يوم العصبية الشخصية والعائلية والحزبية والقومية والعرقية، ما جعل المؤمنين يعيشون موزَّعين متفرّقين. إن الله أراد لنا ان نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الإسلام والقرآن، ولكننا تفرّقنا، فبدأ بعضنا يكفّر بعضنا الآخر، فوجدنا من المسلمين الشيعة من يكفّر المسلمين السنّة، ومن المسلمين السنّة من يكفّر المسلمين الشيعة، وبدأنا نكفّر ونضلل بعضنا بعضا، وبدأنا نعيش المشاكل والمنازعات والحروب، وأعداء الله من الكافرين والمستكبرين ينفذون من كل هذه الثغرات وينصبون الحواجز بيننا من جديد.

إن الإسلام وحدة بيننا، إن شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، وإن الصلاة - مهما اختلفت الاجتهادات فيها - هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، فها نحن في يوم الجمعة نصلي لربنا كما يصلي كل المسلمين في العالم لربهم في هذا اليوم، وإن اختلفنا في بعض شروط الصلاة، ولكن صلاتنا واحدة وقبلتنا واحدة ونتجه إلى ربّ واحد، وننطلق من رسول واحد ومن سنّة واحدة، وإذا اختلفنا في بعض تفاصيل العقيدة والشريعة، فإن الله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء - وأنتم مسلمون تؤمنون بالله وبرسوله - فردّوه إلى الله والرسول}، اقرأوا كتاب الله ماذا يقول لكم فيما تتنازعون فيه لتتوحّدوا عنده، واقرأوا ماذا يقول رسول الله لتتوحدوا فيه، لأن رسول الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".

التحاور في الاختلاف:

إن الله تعالى أرادنا أن نكون أمّة واحدة، لذلك قد نختلف فيما يختلف فيه الناس، قد نختلف في داخل المذهب والدين والبلد الواحد، ولكن الذين يعيشون المسؤولية الإسلامية أمام الله هم الذين إذا اختلفوا تحاوروا ودرسوا الأمور بعقلانية وموضوعية، هذه هي الحضارة.. أن تكون إنساناً متحضّراً يعني أنك إذا اختلفت معي واختلفت معك، تحاورني وأحاورك وتجادلني وأجادلك، ذلك هو كلام الله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا - لأهل الكتاب، وكم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب - آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، نسلم قلوبنا وعقولنا وحياتنا لله، إن الله تعالى يقول لك: إذا كنت مخلصاً للإسلام لا لذاتك وعصبيتك وطائفيتك فـ {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، هل تريد أن تدعو الناس إلى الله وتقرّبهم إليه: كفَّ عن كل كلمة شاتمة ولاعنة وسابّة، وعن كل حقد وعداوة، افتح إنسانيتك على إنسانية الإنسان الآخر، فتضع الكلمة في موضعها، وتحرّك الأسلوب الذي تربح من خلاله قلوب الناس وعقولهم.. لأنك لا تستطيع أن تغيّر عقول الناس بالقوة، الكلمة الطيبة هي التي تغيّر العقل عندما تعرف كيف تدخل إلى العقل، والأسلوب الطيب هو الذي يمكن أن ينفذ إلى القلب عندما يتحرك في العناصر التي تجتذب قلوب الناس، وقد قال أمير المؤمنين (ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"...

الإسلام يعيش التحديات:

إن الإسلام في هذا العصر يعيش التحديات الكبرى على مستوى العقيدة والشريعة والواقع، فقد برز الكفر كله إلى الإسلام كله، وعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وذلك بأن ندعو أولاً أهلنا إلى الإسلام. لا تعتبروا أن مهمتكم في أولادكم وأهلكم وأزواجكم مجرد مهمة مادية، بل إن مهمتنا كيف ننقذ أهلنا من النار التي وقودها الناس والحجارة، ما قيمة أن تؤمّن حياة ولدك أو زوجتك أو أخيك أو قريبك في الدنيا ليأكل جيداً ويلبس جيداً، وعندما يلاقي ربه فليس له ما يأكله إلا الزقوم، وليس له ما يشربه إلا الغسلين، وليس له ما يعيشه إلا لهب النار، هل تحبون أولادكم؟ {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

ندعو للالتزام بالإسلام:

في يوم المبعث، علينا أن ندعو أهلنا إلى الالتزام بالإسلام والتثقف به، وأن نعمل على نصرة الإسلام في العالم بكل ما عندنا من فكر وقول وعمل، بهذا نستطيع أن نحتفل بيوم المبعث احتفالاً فاعلاُ منتجاً، لأن الرسول (ص) غاب عنّا جسداً، ولكن لم تغب عنّا رسالته.

في يوم المبعث وفي يوم "الإسراء والمعراج" الذي أراد الله تعالى لنبيه أن يسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وليجمعه برسله وليصلي بهم في بيت المقدس - كما ورد في بعض الروايات - وأراد الله له أن يعرج إلى السماء ليعرّفه كل آفاق السماء والأرض، من أجل أن يفتح عقله على الكون كله، ليتعرّف على أسراره وليعرف عظمة الله في ذلك كله، في هذا اليوم، وينبغي لنا أن نعيش هذا الامتداد وهذه الرحابة في معرفة آيات الله وأسرار خلقه، لنعرف الله أكثر ونؤمن به أكثر، ولنحمي المسجد الأقصى كما علينا أن نحمي المسجد الحرام، لأن ذلك هو جزء أساسي من مسؤولياتنا، فالمسجد الأقصى هو مهبط الأنبياء والمسجد الحرام هو المسجد الذي بناه شيخ الأنبياء وأرسل الله تعالى فيه خاتمهم. علينا أن نحتفل بالإسلام كله، وأن نعمل للإسلام كله، وأن نتوحد بالإسلام كله ونتحاور في ما اختلفنا فيه، لا أن نتحارب ونتحاقد في خلافاتنا.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على الإسلام كله، لأن الله تعالى يريدنا أن نتحرك كأمة في مسؤوليتنا الجماعية، حتى ننطلق إلى العالم في كل مواقع القوة، وأن نكون الأمة التي تفكر وتعقل وتخطط للتحرك إلى الأمام ولا تتراجع تراجع السقوط والهزيمة.. علينا أن نتحمّل مسؤوليتنا عن الإسلام والمسلمين، لنتعرّف ماذا هناك، لا سيما في هذه المرحلة التي انفتحت فيها الحرب بين أعداء الله من اليهود وبين المسلمين.

هشاشة الكيان الإسرائيلي:

الانتفاضة مستمرة، وهناك أكثر من جهة دولية وإقليمية ومحلية تعمل لإيقافها أو تجميدها، ولكن الشعب الفلسطيني لا يزال يتحرك بكل قوة وصلابة وشجاعة في مواجهة العدوان الصهيوني الوحشي، بما يتوفر له من حجارة وأسلحة خفيفة، في معركة الاستقلال الذي لن يناله بالمفاوضات، لأن إسرائيل لا تريد له الحرية إلا بشروطها الخاصة، وتتلخّص بسيطرتها المطلقة على فلسطين كلها، مع هامش صغير من الأرض والسيادة قد يُسمى دولة، ولكن من دون مضمون سياسي وأمني واقتصادي في عملية تقرير المصير.. وهكذا، يواجه هذا الشعب البطل الجريح المعركة بأقوى مواقعها، بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه، لأنه لن يخسر شيئاً من خلال هذه التضحيات الكبرى، إلا الواقع المرير الذي يُراد منه إذلاله وقهره ومصادرة مستقبله..

لقد استطاعت الانتفاضة بكل أحداثها وتفاصيلها أن تثبت للعالم أن وجود إسرائيل لا يمكن أن يستمر، لأن الذهنية العنصرية التي تحكم أكثرية الشعب اليهودي، ولا سيما المستوطنين والمسؤولين الصهاينة، لا تنظر إلى العرب والمسلمين باحترام إنساني، ما يؤكد صعوبة التعايش واستحالته بين العرب واليهود. وهذا ما لاحظناه في تجربة ما يُسمى عرب الـ48 الذين يعيشون داخل الكيان الصهيوني ويحملون جنسيته، فقد واجهوا العنصرية اليهودية التي تتحرك بوسائل القتل والجرح وإحراق البيوت ونهبها، والاعتداء على الأطفال والنساء والشيوخ والشباب بدون مناسبة، بالرغم من مرور أكثر من خمسين سنة على التعايش الرسمي بينهم، حيث لا يزال اليهود - في كيانهم - يخافون من تكاثر العرب السكاني بما لا يتناسب مع الصفة اليهودية لهذا الكيان..

الخضوع الأمريكي لليهود:

وقد استطاعت الانتفاضة أن تكشف لنا بوضوح أكثر الخضوع الأمريكي كدولة لليهود، ولا سيما في مرحلة الانتخابات الرئاسية والنيابية التي يتسابق فيها المرشحون على تأييد إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين، من أجل أن يربحوا أصوات اليهود وأموالهم، لأن هؤلاء يمثلون الأكثرية في الإدارة الأمريكية والمواقع الرسمية المتقدمة، ففرضوا على أمريكا خطوط السياسة الإسرائيلية على سياستها في الشرق الأوسط بالمستوى الذي لم يعد لها فيه سياسة مستقلة بعيداً عن إسرائيل، وهذا ما جعلها معزولة عن شعوب المنطقة، وجعل مصالحها عرضة للتدمير في أكثر من بلد، حتى أن سفاراتها باتت تعيش ما يشبه حالة طوارئ في البلاد العربية والإسلامية، لأن الشعوب تحمّلها المسؤولية الكاملة عن كل المجازر الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

لقد أصدر الكونغرس الأمريكي قراراً بفرض العقوبات على الشعب الفلسطيني إذا لم يوقف الانتفاضة، أو إذا أعلن دولة من جانب واحد، كما أن الحكومة الإسرائيلية هددت بالعقوبات عند إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، بحجة أن كل شيء في العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية ـ حسب الزعم الأمريكي ـ لا بد أن يتم بالمفاوضات، ولكن أمريكا هذه لم تحرّك ساكناً عند ضم القدس الموحَّدة للكيان الصهيوني، ولم تقم بأيّ إجراء مضاد لبناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية وغزة، ولم تتحرك عند ضم الجولان، ولم تستنكر رفض إسرائيل تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى انسحابها من الأراضي المحتلة في الـ67، بل إن أمريكا بدأت تتحدث عنها بأنها الأراضي المتنازع عليها بدلاً من الأراضي المحتلة، ما يوحي بأنها بدأت ترفض التأكيد على القرارين 242 و338، بالإضافة إلى قرار عودة اللاجئين الصادر عن أمريكا بالذات في مجلس الأمن!!

إن الرئيس الأمريكي يتحدث بسلبية عن وحدة الشعب الفلسطيني في التقارب بين حركتي "حماس" و"الجهاد" وسلطة الحكم الذاتي على قاعدة الانتفاضة، ويرى في ذلك دليلاً على أن السلطة هي التي تحرك العنف ضد إسرائيل، على حدّ قوله، ولكنه لا يتحدث عن وحدة اليهود في حركة التوافق بين "العمل" و"الليكود" الذي ينادي بالإجهاز على الشعب الفلسطيني وإسقاط كل الاتفاقات بما في ذلك اتفاق "أوسلو"، لأن المطلوب عند الرئيس الأمريكي هو حلّ مشكلة إسرائيل وإبعادها عن المأزق الذي تعيش فيه، ومنحها الفرصة للتمرد على القرارات الدولية، ومنع الفلسطينيين من الحصول على حقوقهم المشروعة. ولذلك، لم نجد هناك أيّ استنكار لمجازر قتل الأطفال من الجانب الأمريكي، لأنه يصوّر المسألة كما لو كانت حرباً يسقط فيها الأبرياء، من دون تحديد للمعتدي، بل ربما يوحي بأن الفلسطينيين هم المعتدون وأن إسرائيل هي الضحية؟!

لقد دعا الرئيس الأمريكي "عرفات" و"باراك" إلى واشنطن، من أجل الضغط على "عرفات" لإيقاف الانتفاضة، والدخول في معركة مع أوسع القواعد الشعبية الفلسطينية التي تتحرك في خط الثورة من أجل الاستقلال، وذلك لإنقاذ "باراك" من المشكلة التي يتخبط فيها، خصوصاً وأن الانتفاضة بدأت تمثل خطراً على إسرائيل من حيث وجودها ككيان لأول مرة في التاريخ، وهذا ما جعل العدو يتحدث عن الاستعداد لحرب شاملة، في الوقت الذي يتحدث فيه العرب - من موقع الضعف - عن سلام شامل لن يحصلوا عليه إلا بتقديم المزيد من التنازلات للعدو من أرضهم وسياستهم وأمنهم واقتصادهم.

لنستعد المبادرة في حركة الصراع:

إن على الجميع - من العرب والمسلمين - أن يعرفوا أن الأمة قد تحركت بكل قوة مع الانتفاضة، ولا بد لها أن تستمر في حركتها الجهادية على جميع المستويات، فإذا كان العدو يخطط للوصول إلى أطماعه، فعلينا أن نخطط للوصول إلى أهدافنا، وإذا كان يستعرض عضلاته لتهديدنا وتخويفنا، فعلينا أن نقوّي عضلاتنا السياسية والأمنية والاقتصادية في مواجهته لرد عدوانه، وإذا كان يعمل من أجل ما يسميه وحدة وطنية، فعلينا أن نعمل للوحدة الوطنية في الساحة الوطنية والقومية على الصعيد العربي والإسلامي، لأن التحالف الاستكباري الذي تقوده أمريكا في مساندتها المطلقة لإسرائيل، قد أعلن الحرب على العرب والمسلمين جميعاً لحساب العدو، وعلينا أن نتحرك في نطاق الخطة المدروسة الواسعة لإسقاط سياسته وإرباك مصالحه، والدعوة إلى إزالة قواعده العسكرية من العالمين العربي والإسلامي، من أجل أن نستعيد المبادرة في خط المواجهة من موقع الفعل لا من موقع ردّ الفعل..

وإننا نكرر دعوتنا لـ"منظمة المؤتمر الإسلامي" لعقد مؤتمر قمة سياسية لمواجهة الأخطار التي تتهدد المقدّسات الإسلامية والأرض الإسلامية في فلسطين وما حولها، فإن ذلك هو المبرر لوجود هذه المنظمة، لأنها إذا لم تتحرك في أقدس قضية إسلامية فما معنى وجودها السياسي؟؟

علينا أن ندرك قيمة المقاومة :

وأخيراً، إن العدو يتحدث عن إمكانية اشتعال الجبهة اللبنانية مجدداً، ما قد يكون وسيلة من وسائل التهديد والإثارة، فعلينا أن لا نسقط من حساباتنا استمرارية الإعداد لمواجهة أخطر الاحتمالات. وعلينا في الوقت نفسه أن ندرك قيمة المقاومة وأهمية دعمها والحفاظ على مخزونها الجهادي وتجاربها العسكرية والأمنية، كجيش احتياطي متحرك لحماية البلد من كل مخططات العدو، بالتنسيق مع الجيش اللبناني الذي يتحمّل مسؤولية الدفاع عن الأرض والإنسان والاستقلال..

القضية قضية وطن:

وعلى الحكومة الجديدة أن تتحمّل مسؤولية الإعداد الكامل للمواجهة المحتملة مع العدو، في الوقت الذي نرجو لها النجاح في التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية الخانقة، والعمل على مواجهتها بالحلّ الناجع ما أمكنها ذلك. ونريد لكل الفعاليات السياسية والاقتصادية والنقابية والاجتماعية أن تتكامل معها في البحث عن الحلول الواقعية للأزمات الصعبة، لأن القضية ليست قضية حكومة تذهب وحكومة تأتي، بل القضية قضية وطن يحتاج إلى الاستقرار والطمأنينة والإنقاذ، ما يوحي بأن المسؤولية هي مسؤولية الجميع الذين لا بد لهم من تجميد خلافاتهم الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية، وذلك من أجل الوصول بالبلد إلى شاطئ السلام، في أجواء الرياح العاصفة التي تواجه المنطقة كلها..

ونقول للناس مجدداً ما قلناه في السابق: تواضعوا في أحلامكم، فليس هناك حلّ سحري لإنقاذ البلد من أزماته الصعبة، فلتكن أحلامكم واقعية، وليكن تحرككم مسؤولاً، ولتبتعدوا عن كل الحساسيات والإثارات، رحمة بالحاضر والمستقبل وبالإنسان كله.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير