كان المؤهل وحده لقيادة المسلمين بعد الرسول (ص)

كان المؤهل وحده لقيادة المسلمين بعد الرسول (ص)

في ذكرى عليّ (ع) الذي ملأ حياة النبي: كان المؤهل وحده لقيادة المسلمين بعد الرسول (ص)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

السلام عليك يا أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، السلام عليك يا أمير المؤمنين، أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده، وعملت بكتابه، واتّبعت سنن نبيّه (ص)، حتى دعاك الله إلى جواره، فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع ما لك من الحجج البالغة على جميع خلقه..

شخصيته شخصية الرسول(ص):

كنا قبل يومين في ذكرى ولادة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي عاش الإسلام كله، وجاهد في الإسلام بكله، وباع نفسه لله، وعاش كل حياته مع رسول الله (ص)، وكان بيته بيت النبي (ص)، وكان الإنسان الذي لم يكن للباطل أي دور فيه، فقد قال رسول الله (ص): "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"، وكان أعلم المسلمين في كل ما جاء به رسول الله (ص)، فقد قال (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، حتى قال رسول الله (ص) مما رواه الخاص والعام: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال له: "يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". وكانت نفسه نفس رسول الله(ص)، لأن شخصيته انطبعت بشخصية رسول الله في عقله وروحه وقلبه وأخلاقه.

الاعداد الإلهي:

وقد أكرم الله تعالى عليّاً (ع) بما لم يكرم أحداً من قبله ولا من بعده، حيث وُلد في بيت الله، في الكعبة المشرّفة، في ذلك المكان المقدّس، للإيحاء بأن عليّاً (ع) هو الإنسان الذي أعدّه الله تعالى ليكسّر الأصنام أثناء فتح مكة، عندما طلب منه رسول الله (ص) أن يعلو على كتفيه ليقوم بتكسير الأصنام، وهو الذي انطلق من أجل الجهاد في سبيل الله في كل حياته، كان شبابه جهاداً في سبيل الله، وكان ينتقل من معركة إلى معركة، حتى قال عنه النبي (ص) عندما برز إلى "عمرو بن عبد ود": "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، ورفع يديه إلى السماء وهو يتطلّع إلى عليّ(ع) بعينين دامعتين وقال: "ربي، لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين". إننا نعرف من ذلك كم كان عليّ (ع) يملأ كل حياة رسول الله(ص)، حيث بات يشعر أنه وحده مع رسول الله لأنه هو الذي فهم رسول الله كما لم يفهمه أحد، ووعى رسول الله(ص) كما لم يعه أحد، وأحبّ رسول الله كما لم يحبه أحد، وأحبّ الله كما لم يحبه أحد بعد رسول الله، ولذلك قال النبي (ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".

المؤهل الوحيد لقيادة المسلمين:

ولذلك، كان عليّ (ع) وحده المؤهّل لأن يقود المسلمين بروح رسول الله (ص) وعقله وعمله وإخلاصه، لأنه وحده الذي كان مع رسول الله منذ طفولته الأولى، فقد جاء إلى عمه أبي طالب وقال له: إنك كثير العيال، أعطني ولداً من أولادك لأساعدك في تربيته، واختار عليّاً، لأنه كان يعدّه إعداداً للمستقبل الكبير الذي أراد الله تعالى لعليّ(ع) أن يكون فيه، فقد أراد الله له أن يعيش في حضن رسول الله حتى لا يتربى حتى عند أبيه، وأبوه هو المؤمن الكافل لرسول الله(ص)، كان يريد لرسول الله(ص) أن يفتح عقل عليّ وقلبه وروحه ووعيه على كل ما عنده - وسنسمع عليّاً كيف يتحدث عن تلك الفترة - ولذلك كان "يوم الغدير"، وهو اليوم الذي أعلن فيه رسول الله (ص) أن الأمر من بعده لعليّ (ع)، بعد أن أنزل الله تعالى عليه كتابه: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}، ووقف رسول الله (ص) وهو يقول: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: اللهم بلى.. قال: "اللهم اشهد".. ثم قال: "من كنت مولاه - من كنت أولى به من نفسه، من كنت وليّه في المسؤولية وفي الحكم - فعليّ مولاه - لعليّ ما هو لي من الولاية على المؤمنين في معنى الحاكمية - اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار".

ومرّت خطوب وخطوب ومشاكل ومشاكل، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه، وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، ليست المشكلة عندي أن أُظلم، فأنا أتحمل الظلم، بل القضية عند عليّ (ع) أن لا يُظلم الإسلام والمسلمون، أن لا يعيش المسلمون الفتنة والحرب فيما بينهم، فصبر "وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً"..

علاقته برسول الله(ص):

تعالوا نستمع إلى عليّ (ع) كيف يحدثنا عن علاقته برسول الله (ص)، يقول: "أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب - بأشرافهم - وكسرت نواجم قرون "ربيعة" و"مضر" - كسرت عنفوانهم - وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة - فأنا ابن عمه وزوج ابنته - والمنزلة الخصيصة - عندما قال(ص): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" - وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه - عطره - وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة - خطأ - في فعل، ولقد قرن الله به (ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره - فكان النبي (ص) في المستوى الأعلى في الأخلاق، لأن أستاذه هو الله تعالى الذي علّمه على يد أعظم ملك من ملائكته فيما كان يوحي به إليه قبل الرسالة من أصول التربية ومحاسن الأخلاق وعظمة القيم - ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بـ"حراء"، فأراه ولا يراه غيري - لأنه كان يصطحبه معه - ولم يجمع بيت واحد في الإسلام - في بداية الدعوة - غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص)، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير".

منهجه الرسالة:

لقد اختاره النبي (ص) وزيراً وهو في تلك السن، لأنه رأى كيف تنمو عبقرية عليّ (ع) الفكرية والروحية والعملية منذ بداية شبابه وحياته. ثم يقول (ع) في نهاية هذه الخطبة وهو يتحدث عن بيئة أهل البيت (ع): "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم - عندما يكون الموقف مع الله فإنهم يقفون مع الله حتى لو وقف كل الناس ضدهم - سيماهم سيمة الصدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل - بالعبادة - ومنار النهار - بالوعي والعلم والجهاد في سبيل الله - متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"، فهم يعملون في خط الطريق إلى الجنة التي تمثل رضا الله في ذلك كله.

هذا هو عليّ (ع) في نشأته، ونشأته هي التي قادت شبابه، وشبابه هو الذي قاد حركته في كهولته، عندما عاش الصعاب، وواجه التحديات، حتى عندما استُخلف يقول (ع): "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيثما يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}، وقد نكثوا ومرقوا وقسطوا لأنهم أرادوا العلوّ والفساد، وعليّ (ع) يريد الرسالة وتقوى الله وطاعته، ويتحركون مع عباد الله في خط الصلاح، وهذا ما قاله عليّ (ع): "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، اللهم إني أول من سمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة، بلى لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.. ولولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز"..

هذا هو عليّ (ع) الذي أراد أن يرفع مستوى الناس من حوله بعد رسول الله (ص)، ولكنهم أرادوا له أن ينزل ليكون في كل وحولهم، وقال لهم: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم". عليّ (ع) في الموقع الأعلى الذي لا يساويه أحد بعد رسول الله (ص) في كل فضائله، لذلك تعالوا إلى عليّ حتى نتعظ به ونسير وراءه، لا يكن وضعنا مع عليّ بعد كل هذه القرون كوضع أولئك الذين كان يقول لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، ويسأله شخص: كم شعرة في رأسي؟! تعالوا لنرتفع بعليّ (ع)، ولنسمو به، فإن عليّاً لا يريد أن يسير بنا إلا إلى الله والجنة، إن علينا ان نقرأه ونفهمه جيداً. ونحن نتمثل قول الشاعر المسيحي "بولس سلامة":

يا سماءُ اخشعي ويا أرضُ قــرّي واخضعي إنني ذكرت عليّا


الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وتحركوا في خط عليّ(ع)، الذي أراد لنا أن لا نقرّ على ظلم ظالم، ولا سغب مظلوم، ولا نقر على استكبار مستكبر، وأراد لنا أن نقول كلمة الحق والعدل في وجه كل الذين يواجهوننا بالباطل والظلم، وأن نعمل بكل قوتنا لنكون صفاً واحداً، لأننا أمة واحدة، لنواجه التحديات من موقع واحد، لأن الكفر والاستكبار قد حشد كل قوته على المستوى السياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري في وجه الأمة كلها، يدعم بعضه بعضاً، يتحركون في إعلامهم بالباطل، فيزوّرون الحقيقة، ويزيّفون الواقع، حتى يتحوّل المظلوم إلى ظالم والظالم إلى مظلوم..

إنهم يخططون من أجل أن يجعلوا إسرائيل القوة الكبرى في المنطقة، ويضغطون على الحكّام في العالم العربي والإسلامي في سبيل أن يعطوا بأيديهم إعطاء الذليل، ورأينا الكثير من هؤلاء يتركون أمتهم حتى ترضى عنهم أمريكا، ولن ترضى عنهم أمريكا حتى ترضى عنهم إسرائيل.. إننا نريد أن نرفض هذا الواقع، فتعالوا لنتعرف ماذا هناك، لنحدد الموقف، ونصلّب الإرادة.

الانتفاضة.. المواجهة والإرادة الحرة:

لقد تحوّلت الانتفاضة إلى ما يشبه الثورة، ولا يزال الشعب الفلسطيني يواجه قصف الطائرات والمدافع والصواريخ الإسرائيلية باللحم العاري والإرادة الحرّة.. وقد بلغت التحديات المستوى الخطير، حيث انطلق الجيش والشرطة والمستوطنون الصهاينة يعيثون في الأرض فساداً، ويقتلون ويجرحون ويدمّرون، ما أوجب إعلان التعبئة العامة للفلسطينيين في وحدة شاملة لأول مرة..

الاستكبار.. قلب الحقائق:

أما الرئيس الأمريكي، فإنه لم يتألم إلا لجنديين إسرائيليين قُتلا في "رام الله"، فاحتج على ذلك، ولم يحتج على أكثر من مائة شهيد وما يزيد على الثلاثة آلاف جريح من الفلسطينيين، بالإضافة إلى البيوت والمساجد المدمّرة.. وهكذا، تحدثت وزيرة خارجيته بأن اليهود "محاصَرون من قِبَل الفلسطينيين، ما يعني أنهم - في قصفهم الوحشي - يتحركون من موقع الدفاع عن النفس"، كما ادّعت..

أما الوفود الدولية، وفي مقدمتها الأمين العام للأمم المتحدة، فإن كل خلفياتها السياسية هو إنقاذ إسرائيل من المأزق الذي تواجهه، والسعي لإطلاق الجنود الإسرائيليين الثلاثة الذين أسرتهم المقاومة الإسلامية في لبنان. حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة صرّح بأن المقاومة "قد خالفت القرار 425 في عمليتها هذه"، كما قال؟! مع العلم أن مزارع "شبعا" غير مشمولة بهذا القرار في نظر "أنان"، في الوقت الذي يؤكد فيه لبنان أنها داخلة فيه، ما يعني أن إسرائيل لم تطبقه، الأمر الذي يجعل لبنان حرّاً في استعادة أرضه، إلى جانب استعادة أسراه لدى العدو.

إننا نتساءل: لماذا لم نجد مثل هذه الغيرة المفاجِئة عند خطف الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني وغيرهما، وهو ما يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان واحترام المواثيق الدولية؟ إن العالم المستكبر يرى في إسرائيل ما لا يراه في أيّ إنسان عربي أو مسلم، لأن أمريكا التي تقود المحور الاستكباري تضع إسرائيل في قمة اهتماماتها السياسية والأمنية في العالم، حتى أن المرشحَين الجمهوري والديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية اتفقا على إدانة الفلسطينيين في العنف المدمّر في فلسطين، ولم يوجها النداء بإيقاف العنف إلا للفلسطينيين، وأكدا على الوقوف مع إسرائيل في كل الاتجاهات، تماماً كما لو أنها جزء من الاتحاد الأمريكي، بل قد تكون الجزء الأهم؟!

الواقع العربي.. المأزق:

أما الواقع العربي، فإن القمة العربية مؤجّلة إلى وقت آخر، بانتظار المداولات الدولية التي قد توقف الانتفاضة، لأنهم يشعرون بالإحراج من مهمة إيقافها بقرار عربي، ولأنهم لا يملكون ما يقدّمونه للشعب الفلسطيني من قرارات سياسية واقتصادية حاسمة، بفعل الضغوط الأمريكية.. ولم تقع الأنظمة العربية بالإحراج في تاريخها كما وقعت فيه الآن بفعل الانتفاضة، لأن شعوبها سبقتها في التحرك السياسي العربي والإسلامي، إلى درجة التي اضطرتها لأن تقيّد حركة الشعوب في بعض البلدان، فلم تسمح لها بالخروج إلى الشارع أو الاقتراب من السفارة الصهيونية، وبادرت إلى قمع بعضها بالقوة!!

إن الأنظمة العربية لم تتخذ أي قرار بسحب سفرائها أو ممثلي مكاتبها من الكيان الصهيوني، وكانت الشعوب تطالب بقطع علاقاتها الدبلوماسية والتطبيعية مع العدو، وأن تعيد المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني الذي يقوم بعملية إبادة للشعب الفلسطيني، ويرفض بطريقة حاسمة إعادة المقدّسات لأصحابها، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، ومنح الاستقلال الكامل للدولة الفلسطينية القادمة.

لقد استطاعت الشعوب العربية والإسلامية أن تنتج لنا العالم العربي والإسلامي من جديد، في حيويته وتضامنه ووحدته، والتفافه حول قضاياه المصيرية، ولم تكن الأنظمة بمستوى هذا الإنجاز..

القمة العربية.. إجهاض الانتفاضة:

لقد دعت مصر إلى قمة رباعية أمريكية - إسرائيلية - فلسطينية - مصرية، بعد إيقاف إسرائيل قصفها للشعب الفلسطيني، ونحن نتصوّر أن هذه القمة تنطلق من أجل إخراج الجميع من المأزق السياسي والأمني، ولا سيما الجانب الأمريكي والإسرائيلي، اللذين فقدا الكثير من المصداقية لدى الرأي العام العالمي، باعتراف الصحافة الإسرائيلية..

إن المطلوب الآن - أمريكياً وإسرائيلياً وربما عربياً - هو إيقاف الانتفاضة، بعد أن أطلق رئيس وزراء العدو فزّاعة سياسية جديدة في الدعوة إلى ما يسمى بـ"حكومة اتحاد وطني" يدخلها "شارون"، وهو ما لا يرتاح له الأمريكيون في الإدارة الحالية.. ونحن نعرف أن الهدف من هذه القمة الرباعية إجهاض الانتفاضة، أو تفريغها من مضمونها، من خلال العمل على المساواة بين المجرم والضحية؟!

إن الخطورة كل الخطورة هي، أن اللعبة السياسية الدولية، وربما الإقليمية، هي إنقاذ إسرائيل باسم إنقاذ ما يسمونه "السلام"، الذي يُراد له أن يكون إسرائيلياً، لا إنقاذ الشعب الفلسطيني الذي يُراد له - أمريكياً - أن تكون له دولة فارغة من القوة، مقطّعة الأوصال، خاضعة في كل مرافقها الحيوية لإسرائيل.

نحو مقاطعة شاملة للكيان الصهيوني:

إننا في مواجهة ذلك كله، ندعو إلى وقفة عربية وإسلامية شاملة مع الشعب الفلسطيني، الذي يصنع تاريخه ومستقبله بدمائه، في مرحلة من أقسى المراحل وأصعبها، حيث لم يتحرّك في أيّ ظرف من الظروف بالمستوى الذي يتحرّك به الآن، ولم يحصل له في الماضي من التأييد والامتداد ما حصل عليه الآن من هذا التأييد والامتداد في ضمير الشعوب الحرّة.. لذلك نقول لهم: لا تضيّعوا الفرصة الذهبية التي قد لا تتكرر، وتابعوا مسيرتكم، لأن القضية هي قضية المستقبل في المصير، وإنني أجدد الدعوة لمقاطعة البضائع الصهيونية بالمطلق، والبضائع الأمريكية ما أمكننا ذلك، فإنه نوع من أنواع النهي عن المنكر..

ونقول للأنظمة العربية: إن عليها أن تعيد احترامها لنفسها ولشعوبها ولمستقبلها، بالمقاطعة الشاملة للكيان الصهيوني، ما قد يؤدي إلى هزّة سياسية كبرى على أكثر من صعيد، لأنكم إذا كنتم لا تريدون خوض حرب عسكرية، فحاولوا خوض الحرب السياسية والاقتصادية والدبلوماسية ضد هذا العدو، فإنكم تملكون ذلك إذا توفّرت لكم الإرادة الحرة..

إنساننا عظيم في قضية حريته:

وتبقى مسألة الأسرى اللبنانيين وغيرهم في سجون العدو، وهي القضية الحيوية التي لا بد من الإصرار عليها، والصمود في وجه كل الضغوط الدولية، ليعلم العالم كله أن إنساننا كبير في قيمته، عظيم في قضية حريته، وعليه أن يحترمه ويطالب بتحريره أكثر مما يطالب بإطلاق الجنود الإسرائيليين الذين هم أسرى حرب، وليسوا مخطوفين ومعتقلين كأسرانا عند العدو..

وإننا نتصوّر أن العدو لا يملك تنفيذ تهويله وتهديده، أمام توازن الرعب الذي حققته المقاومة الإسلامية التي هي الموقع الأقوى الآن، فلم يعد لبنان ساحة مستباحة يملك العدو فيها حرية الحركة متى شاء وكيفما شاء.

وعلينا - في هذه المرحلة - أن نُسكت صوت الخلافات والتعقيدات على مستوى لبنان والعالم العربي والإسلامي، فلا يبقى إلا صوت الوحدة من أجل التحرير في أقدس قضايا المصير، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

في ذكرى عليّ (ع) الذي ملأ حياة النبي: كان المؤهل وحده لقيادة المسلمين بعد الرسول (ص)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

السلام عليك يا أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، السلام عليك يا أمير المؤمنين، أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده، وعملت بكتابه، واتّبعت سنن نبيّه (ص)، حتى دعاك الله إلى جواره، فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع ما لك من الحجج البالغة على جميع خلقه..

شخصيته شخصية الرسول(ص):

كنا قبل يومين في ذكرى ولادة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي عاش الإسلام كله، وجاهد في الإسلام بكله، وباع نفسه لله، وعاش كل حياته مع رسول الله (ص)، وكان بيته بيت النبي (ص)، وكان الإنسان الذي لم يكن للباطل أي دور فيه، فقد قال رسول الله (ص): "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"، وكان أعلم المسلمين في كل ما جاء به رسول الله (ص)، فقد قال (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، حتى قال رسول الله (ص) مما رواه الخاص والعام: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال له: "يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". وكانت نفسه نفس رسول الله(ص)، لأن شخصيته انطبعت بشخصية رسول الله في عقله وروحه وقلبه وأخلاقه.

الاعداد الإلهي:

وقد أكرم الله تعالى عليّاً (ع) بما لم يكرم أحداً من قبله ولا من بعده، حيث وُلد في بيت الله، في الكعبة المشرّفة، في ذلك المكان المقدّس، للإيحاء بأن عليّاً (ع) هو الإنسان الذي أعدّه الله تعالى ليكسّر الأصنام أثناء فتح مكة، عندما طلب منه رسول الله (ص) أن يعلو على كتفيه ليقوم بتكسير الأصنام، وهو الذي انطلق من أجل الجهاد في سبيل الله في كل حياته، كان شبابه جهاداً في سبيل الله، وكان ينتقل من معركة إلى معركة، حتى قال عنه النبي (ص) عندما برز إلى "عمرو بن عبد ود": "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، ورفع يديه إلى السماء وهو يتطلّع إلى عليّ(ع) بعينين دامعتين وقال: "ربي، لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين". إننا نعرف من ذلك كم كان عليّ (ع) يملأ كل حياة رسول الله(ص)، حيث بات يشعر أنه وحده مع رسول الله لأنه هو الذي فهم رسول الله كما لم يفهمه أحد، ووعى رسول الله(ص) كما لم يعه أحد، وأحبّ رسول الله كما لم يحبه أحد، وأحبّ الله كما لم يحبه أحد بعد رسول الله، ولذلك قال النبي (ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".

المؤهل الوحيد لقيادة المسلمين:

ولذلك، كان عليّ (ع) وحده المؤهّل لأن يقود المسلمين بروح رسول الله (ص) وعقله وعمله وإخلاصه، لأنه وحده الذي كان مع رسول الله منذ طفولته الأولى، فقد جاء إلى عمه أبي طالب وقال له: إنك كثير العيال، أعطني ولداً من أولادك لأساعدك في تربيته، واختار عليّاً، لأنه كان يعدّه إعداداً للمستقبل الكبير الذي أراد الله تعالى لعليّ(ع) أن يكون فيه، فقد أراد الله له أن يعيش في حضن رسول الله حتى لا يتربى حتى عند أبيه، وأبوه هو المؤمن الكافل لرسول الله(ص)، كان يريد لرسول الله(ص) أن يفتح عقل عليّ وقلبه وروحه ووعيه على كل ما عنده - وسنسمع عليّاً كيف يتحدث عن تلك الفترة - ولذلك كان "يوم الغدير"، وهو اليوم الذي أعلن فيه رسول الله (ص) أن الأمر من بعده لعليّ (ع)، بعد أن أنزل الله تعالى عليه كتابه: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}، ووقف رسول الله (ص) وهو يقول: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: اللهم بلى.. قال: "اللهم اشهد".. ثم قال: "من كنت مولاه - من كنت أولى به من نفسه، من كنت وليّه في المسؤولية وفي الحكم - فعليّ مولاه - لعليّ ما هو لي من الولاية على المؤمنين في معنى الحاكمية - اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار".

ومرّت خطوب وخطوب ومشاكل ومشاكل، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه، وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، ليست المشكلة عندي أن أُظلم، فأنا أتحمل الظلم، بل القضية عند عليّ (ع) أن لا يُظلم الإسلام والمسلمون، أن لا يعيش المسلمون الفتنة والحرب فيما بينهم، فصبر "وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً"..

علاقته برسول الله(ص):

تعالوا نستمع إلى عليّ (ع) كيف يحدثنا عن علاقته برسول الله (ص)، يقول: "أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب - بأشرافهم - وكسرت نواجم قرون "ربيعة" و"مضر" - كسرت عنفوانهم - وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة - فأنا ابن عمه وزوج ابنته - والمنزلة الخصيصة - عندما قال(ص): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" - وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه - عطره - وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة - خطأ - في فعل، ولقد قرن الله به (ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره - فكان النبي (ص) في المستوى الأعلى في الأخلاق، لأن أستاذه هو الله تعالى الذي علّمه على يد أعظم ملك من ملائكته فيما كان يوحي به إليه قبل الرسالة من أصول التربية ومحاسن الأخلاق وعظمة القيم - ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بـ"حراء"، فأراه ولا يراه غيري - لأنه كان يصطحبه معه - ولم يجمع بيت واحد في الإسلام - في بداية الدعوة - غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص)، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير".

منهجه الرسالة:

لقد اختاره النبي (ص) وزيراً وهو في تلك السن، لأنه رأى كيف تنمو عبقرية عليّ (ع) الفكرية والروحية والعملية منذ بداية شبابه وحياته. ثم يقول (ع) في نهاية هذه الخطبة وهو يتحدث عن بيئة أهل البيت (ع): "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم - عندما يكون الموقف مع الله فإنهم يقفون مع الله حتى لو وقف كل الناس ضدهم - سيماهم سيمة الصدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل - بالعبادة - ومنار النهار - بالوعي والعلم والجهاد في سبيل الله - متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"، فهم يعملون في خط الطريق إلى الجنة التي تمثل رضا الله في ذلك كله.

هذا هو عليّ (ع) في نشأته، ونشأته هي التي قادت شبابه، وشبابه هو الذي قاد حركته في كهولته، عندما عاش الصعاب، وواجه التحديات، حتى عندما استُخلف يقول (ع): "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيثما يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}، وقد نكثوا ومرقوا وقسطوا لأنهم أرادوا العلوّ والفساد، وعليّ (ع) يريد الرسالة وتقوى الله وطاعته، ويتحركون مع عباد الله في خط الصلاح، وهذا ما قاله عليّ (ع): "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، اللهم إني أول من سمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة، بلى لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.. ولولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز"..

هذا هو عليّ (ع) الذي أراد أن يرفع مستوى الناس من حوله بعد رسول الله (ص)، ولكنهم أرادوا له أن ينزل ليكون في كل وحولهم، وقال لهم: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم". عليّ (ع) في الموقع الأعلى الذي لا يساويه أحد بعد رسول الله (ص) في كل فضائله، لذلك تعالوا إلى عليّ حتى نتعظ به ونسير وراءه، لا يكن وضعنا مع عليّ بعد كل هذه القرون كوضع أولئك الذين كان يقول لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، ويسأله شخص: كم شعرة في رأسي؟! تعالوا لنرتفع بعليّ (ع)، ولنسمو به، فإن عليّاً لا يريد أن يسير بنا إلا إلى الله والجنة، إن علينا ان نقرأه ونفهمه جيداً. ونحن نتمثل قول الشاعر المسيحي "بولس سلامة":

يا سماءُ اخشعي ويا أرضُ قــرّي واخضعي إنني ذكرت عليّا


الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وتحركوا في خط عليّ(ع)، الذي أراد لنا أن لا نقرّ على ظلم ظالم، ولا سغب مظلوم، ولا نقر على استكبار مستكبر، وأراد لنا أن نقول كلمة الحق والعدل في وجه كل الذين يواجهوننا بالباطل والظلم، وأن نعمل بكل قوتنا لنكون صفاً واحداً، لأننا أمة واحدة، لنواجه التحديات من موقع واحد، لأن الكفر والاستكبار قد حشد كل قوته على المستوى السياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري في وجه الأمة كلها، يدعم بعضه بعضاً، يتحركون في إعلامهم بالباطل، فيزوّرون الحقيقة، ويزيّفون الواقع، حتى يتحوّل المظلوم إلى ظالم والظالم إلى مظلوم..

إنهم يخططون من أجل أن يجعلوا إسرائيل القوة الكبرى في المنطقة، ويضغطون على الحكّام في العالم العربي والإسلامي في سبيل أن يعطوا بأيديهم إعطاء الذليل، ورأينا الكثير من هؤلاء يتركون أمتهم حتى ترضى عنهم أمريكا، ولن ترضى عنهم أمريكا حتى ترضى عنهم إسرائيل.. إننا نريد أن نرفض هذا الواقع، فتعالوا لنتعرف ماذا هناك، لنحدد الموقف، ونصلّب الإرادة.

الانتفاضة.. المواجهة والإرادة الحرة:

لقد تحوّلت الانتفاضة إلى ما يشبه الثورة، ولا يزال الشعب الفلسطيني يواجه قصف الطائرات والمدافع والصواريخ الإسرائيلية باللحم العاري والإرادة الحرّة.. وقد بلغت التحديات المستوى الخطير، حيث انطلق الجيش والشرطة والمستوطنون الصهاينة يعيثون في الأرض فساداً، ويقتلون ويجرحون ويدمّرون، ما أوجب إعلان التعبئة العامة للفلسطينيين في وحدة شاملة لأول مرة..

الاستكبار.. قلب الحقائق:

أما الرئيس الأمريكي، فإنه لم يتألم إلا لجنديين إسرائيليين قُتلا في "رام الله"، فاحتج على ذلك، ولم يحتج على أكثر من مائة شهيد وما يزيد على الثلاثة آلاف جريح من الفلسطينيين، بالإضافة إلى البيوت والمساجد المدمّرة.. وهكذا، تحدثت وزيرة خارجيته بأن اليهود "محاصَرون من قِبَل الفلسطينيين، ما يعني أنهم - في قصفهم الوحشي - يتحركون من موقع الدفاع عن النفس"، كما ادّعت..

أما الوفود الدولية، وفي مقدمتها الأمين العام للأمم المتحدة، فإن كل خلفياتها السياسية هو إنقاذ إسرائيل من المأزق الذي تواجهه، والسعي لإطلاق الجنود الإسرائيليين الثلاثة الذين أسرتهم المقاومة الإسلامية في لبنان. حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة صرّح بأن المقاومة "قد خالفت القرار 425 في عمليتها هذه"، كما قال؟! مع العلم أن مزارع "شبعا" غير مشمولة بهذا القرار في نظر "أنان"، في الوقت الذي يؤكد فيه لبنان أنها داخلة فيه، ما يعني أن إسرائيل لم تطبقه، الأمر الذي يجعل لبنان حرّاً في استعادة أرضه، إلى جانب استعادة أسراه لدى العدو.

إننا نتساءل: لماذا لم نجد مثل هذه الغيرة المفاجِئة عند خطف الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني وغيرهما، وهو ما يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان واحترام المواثيق الدولية؟ إن العالم المستكبر يرى في إسرائيل ما لا يراه في أيّ إنسان عربي أو مسلم، لأن أمريكا التي تقود المحور الاستكباري تضع إسرائيل في قمة اهتماماتها السياسية والأمنية في العالم، حتى أن المرشحَين الجمهوري والديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية اتفقا على إدانة الفلسطينيين في العنف المدمّر في فلسطين، ولم يوجها النداء بإيقاف العنف إلا للفلسطينيين، وأكدا على الوقوف مع إسرائيل في كل الاتجاهات، تماماً كما لو أنها جزء من الاتحاد الأمريكي، بل قد تكون الجزء الأهم؟!

الواقع العربي.. المأزق:

أما الواقع العربي، فإن القمة العربية مؤجّلة إلى وقت آخر، بانتظار المداولات الدولية التي قد توقف الانتفاضة، لأنهم يشعرون بالإحراج من مهمة إيقافها بقرار عربي، ولأنهم لا يملكون ما يقدّمونه للشعب الفلسطيني من قرارات سياسية واقتصادية حاسمة، بفعل الضغوط الأمريكية.. ولم تقع الأنظمة العربية بالإحراج في تاريخها كما وقعت فيه الآن بفعل الانتفاضة، لأن شعوبها سبقتها في التحرك السياسي العربي والإسلامي، إلى درجة التي اضطرتها لأن تقيّد حركة الشعوب في بعض البلدان، فلم تسمح لها بالخروج إلى الشارع أو الاقتراب من السفارة الصهيونية، وبادرت إلى قمع بعضها بالقوة!!

إن الأنظمة العربية لم تتخذ أي قرار بسحب سفرائها أو ممثلي مكاتبها من الكيان الصهيوني، وكانت الشعوب تطالب بقطع علاقاتها الدبلوماسية والتطبيعية مع العدو، وأن تعيد المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني الذي يقوم بعملية إبادة للشعب الفلسطيني، ويرفض بطريقة حاسمة إعادة المقدّسات لأصحابها، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، ومنح الاستقلال الكامل للدولة الفلسطينية القادمة.

لقد استطاعت الشعوب العربية والإسلامية أن تنتج لنا العالم العربي والإسلامي من جديد، في حيويته وتضامنه ووحدته، والتفافه حول قضاياه المصيرية، ولم تكن الأنظمة بمستوى هذا الإنجاز..

القمة العربية.. إجهاض الانتفاضة:

لقد دعت مصر إلى قمة رباعية أمريكية - إسرائيلية - فلسطينية - مصرية، بعد إيقاف إسرائيل قصفها للشعب الفلسطيني، ونحن نتصوّر أن هذه القمة تنطلق من أجل إخراج الجميع من المأزق السياسي والأمني، ولا سيما الجانب الأمريكي والإسرائيلي، اللذين فقدا الكثير من المصداقية لدى الرأي العام العالمي، باعتراف الصحافة الإسرائيلية..

إن المطلوب الآن - أمريكياً وإسرائيلياً وربما عربياً - هو إيقاف الانتفاضة، بعد أن أطلق رئيس وزراء العدو فزّاعة سياسية جديدة في الدعوة إلى ما يسمى بـ"حكومة اتحاد وطني" يدخلها "شارون"، وهو ما لا يرتاح له الأمريكيون في الإدارة الحالية.. ونحن نعرف أن الهدف من هذه القمة الرباعية إجهاض الانتفاضة، أو تفريغها من مضمونها، من خلال العمل على المساواة بين المجرم والضحية؟!

إن الخطورة كل الخطورة هي، أن اللعبة السياسية الدولية، وربما الإقليمية، هي إنقاذ إسرائيل باسم إنقاذ ما يسمونه "السلام"، الذي يُراد له أن يكون إسرائيلياً، لا إنقاذ الشعب الفلسطيني الذي يُراد له - أمريكياً - أن تكون له دولة فارغة من القوة، مقطّعة الأوصال، خاضعة في كل مرافقها الحيوية لإسرائيل.

نحو مقاطعة شاملة للكيان الصهيوني:

إننا في مواجهة ذلك كله، ندعو إلى وقفة عربية وإسلامية شاملة مع الشعب الفلسطيني، الذي يصنع تاريخه ومستقبله بدمائه، في مرحلة من أقسى المراحل وأصعبها، حيث لم يتحرّك في أيّ ظرف من الظروف بالمستوى الذي يتحرّك به الآن، ولم يحصل له في الماضي من التأييد والامتداد ما حصل عليه الآن من هذا التأييد والامتداد في ضمير الشعوب الحرّة.. لذلك نقول لهم: لا تضيّعوا الفرصة الذهبية التي قد لا تتكرر، وتابعوا مسيرتكم، لأن القضية هي قضية المستقبل في المصير، وإنني أجدد الدعوة لمقاطعة البضائع الصهيونية بالمطلق، والبضائع الأمريكية ما أمكننا ذلك، فإنه نوع من أنواع النهي عن المنكر..

ونقول للأنظمة العربية: إن عليها أن تعيد احترامها لنفسها ولشعوبها ولمستقبلها، بالمقاطعة الشاملة للكيان الصهيوني، ما قد يؤدي إلى هزّة سياسية كبرى على أكثر من صعيد، لأنكم إذا كنتم لا تريدون خوض حرب عسكرية، فحاولوا خوض الحرب السياسية والاقتصادية والدبلوماسية ضد هذا العدو، فإنكم تملكون ذلك إذا توفّرت لكم الإرادة الحرة..

إنساننا عظيم في قضية حريته:

وتبقى مسألة الأسرى اللبنانيين وغيرهم في سجون العدو، وهي القضية الحيوية التي لا بد من الإصرار عليها، والصمود في وجه كل الضغوط الدولية، ليعلم العالم كله أن إنساننا كبير في قيمته، عظيم في قضية حريته، وعليه أن يحترمه ويطالب بتحريره أكثر مما يطالب بإطلاق الجنود الإسرائيليين الذين هم أسرى حرب، وليسوا مخطوفين ومعتقلين كأسرانا عند العدو..

وإننا نتصوّر أن العدو لا يملك تنفيذ تهويله وتهديده، أمام توازن الرعب الذي حققته المقاومة الإسلامية التي هي الموقع الأقوى الآن، فلم يعد لبنان ساحة مستباحة يملك العدو فيها حرية الحركة متى شاء وكيفما شاء.

وعلينا - في هذه المرحلة - أن نُسكت صوت الخلافات والتعقيدات على مستوى لبنان والعالم العربي والإسلامي، فلا يبقى إلا صوت الوحدة من أجل التحرير في أقدس قضايا المصير، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير