"أجهدوا أنفسكم في شهر رمضان ففيه تُقسم الأرزاق"

"أجهدوا أنفسكم في شهر رمضان ففيه تُقسم الأرزاق"

لأنه موسم التطهّر والعبادة والعمل:
"أجهدوا أنفسكم في شهر رمضان ففيه تُقسم الأرزاق"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}. نستقبل شهر رمضان في يوم الاثنين القادم بحسب الثبوت العلمي بالنسبة إلى ولادة الهلال وإمكانية الرؤية، والثبوت العلمي عندنا ثبوت شرعي، ومن أحبّ أن يصوم استحباباً في يوم الأحد على أساس أنه من "شعبان" فليفعل.

القرآن كتاب الهداية إلى الله

ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم الذي قدّمه الله تعالى إلينا بأنه هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، ومعنى ذلك أنه الشهر الذي جمع فيه الله سبحانه وتعالى للإسلام كتابه، وأراد للمسلمين أن ينطلقوا من خلال هذا الكتاب وهو القرآن الكريم، ليجدوا فيه الهدى في كل حالات الضياع والضلال، فإذا تاه بنا الطريق ولم نعرف إلى أين نسير، فعلينا أن نرجع إلى القرآن ليحدد لنا الطريق، سواء في مسارنا الاقتصادي عندما تشتبه الأمور بين الحلال والحرام، أو في المسار الاجتماعي عندما تشتبه القضايا بين الاستقامة والانحراف، أو في المسار السياسي عندما تتردد الأمور بين مواقع الاستكبار والاستضعاف ومواقع العدل والظلم، فعلينا أن نرجع إلى القرآن الكريم لنتدبّره ونتفهّمه، لنجد فيه الهدى، فإن هدى الله هو الهدى، وهذا ما عبّر الله تعالى عنه للمسلمين عندما خاطبهم من خلال الرسول (ص) بقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم - إذا أردتم أن تتقرّبوا إلى أتباع هذا الدين أو ذاك حتى يرضوا عنكم، فلن يرضوا عنكم إلا إذا خرجتم من دينكم واتبعتم دينهم - قل إن هدى الله هو الهدى}..

وفي القرآن الكريم ما يبيّن لكم كل التفاصيل التي تهديكم إلى الله ورضوانه، سواء تلك التفاصيل في حياتكم العائلية أو في حياتكم الاجتماعية، وفي كل مواقع الحياة، فإن في القرآن الفرقان، أي ما يفرّق بين الحق والباطل، ليحدد لكم في كل موقف أين هو الحق وأين هو الباطل. ولعل المسلمين ضاعوا وضلّوا وابتعدوا عن النهج لأنهم أضاعوا القرآن وحوّلوه إلى كتاب للبَرَكة وللزينة، بدلاً من أن ينفتحوا عليه ليتدبّروه، {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.

الانفتاح على الله بالدعاء

ونلتقي بشهر رمضان، هذا الشهر القرآني، فإن على الإنسان أن يعيش فيه كل الخطوط العامة للإسلام، فالله تعالى أراد لنا أن نصوم هذا الشهر: {ومن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أُخر}، وأراد الله تعالى لنا في شهر رمضان كما أراد لنا في كل أيام السنة أن ندعو الله، {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، وأراد الله لنا فيه - كما في غيره من الشهور - أن نعيش الحضور بين يديه، أن نذكره في كل حالاتنا، أن نسبّحه لتتجلى عظمته في معنى التسبيح، وأن نحمده لنعرف أن الحمد كله له، فكل محمود يستمد حمده منه، وأن نهلله لنعرف أن لا إله إلا هو، ولنكبّره لنعرف أنه الأكبر وكل ما عداه هو الأصغر.

وقد ترك لنا القرآن، كما النبي محمد (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، ولا سيما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، من الأدعية المنفتحة على الله، والتي يعيش فيها الإنسان ثقافة المعرفة بالله، والمنفتحة على الرسول والرسالة وعلى الإنسان في كل نقاط ضعفه وقوته التي ينفتح من خلالها على الله، وعلى حياة الإنسان كلها في كل معاني القيم الروحية والأخلاقية. ولذلك فإن هذه الأدعية، سواء كانت أدعية الصباح والمساء والأدعية النهارية والليلية وأدعية السحر، هي التي تجعل الإنسان إذا وعاها وتفهّمها وحضّر قلبه عند قراءتها، إنساناً قريباً من الله، قريباً من الناس، قريباً من كل خطوط الرسالة.

بركات شهر رمضان

ولذلك، حاولوا أن لا تفوتكم هذه الأدعية، وفرّغوا أنفسكم لها في ليلكم ونهاركم، وإذا كان البعض يعتذر بأنه مشغول بأمور معيشته وحياته، فإن بإمكانه أن يدعو الله بما أهمّه بدعاء يحفظه أو يُنشئه، ادعُ الله بلغتك الخاصة وبلهجتك الخاصة، لأن الدعاء يجعلك تحسّ بحضور الله معك، وتشعر بأنك تناديه وتناجيه كما لو كان حاضراً أمامك.. إن القرآن الكريم أراد لنا أن نجاهد أنفسنا ونتورع عن الحرام، وننفتح على الواجبات، وفي شهر رمضان يكبر هذا الواجب وتكبر هذه المسؤولية.

وقد حدّثنا رسول الله والأئمة الهداة من أهل بيته عن هذا الشهر وعن بركاته وفضله وضرورة الاستعداد له بكل ما يمكن للإنسان من الاستعداد العقلي والروحي والشعوري والعملي، فقد خطب رسول الله(ص) في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر رمضان، فرض الله فيه صيامه، وجعل قيامه ليلة بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة في ما سواه من الشهور، تُغلق فيه أبواب النيران، وتُفتح فيه أبواب الجنان، فمن أدركه فلم يُغفر له فأبعده الله، هو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار"..

وقال (ص) في رواية أخرى: "أيها الناس، قد أقبل إليكم شهر الله بالبَرَكة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله - فالله تعالى بسط لنا في هذا الشهر مائدته في الصباح والمساء، ومائدة الله رزقه ومغفرته ورضوانه وجنته - وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله - عندما تُكرمون أنفسكم بالتقوى وتُكرمون الناس من حولكم بالخير والمحبة - أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر".

وقام عليّ (ع) بعد أن استكمل النبي (ص) خطبته وقال له: "يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر"؟ فقال (ص): "يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله"، ادرس كل ما حرّم الله عليك، ما حرّمه في كلماتك ونظراتك وطعامك وشرابك وشهواتك ومالك وتجارتك ومساكنك، انظر إلى كل ما حرّم الله عليك وابتعد عنه، فذلك من أفضل الأعمال في هذا الشهر..

شهر الإسلام

وقد كان الإمام زين العابدين (ع) يدعو الله تعالى عندما يدخل شهر رمضان وعندما يخرج، وهو يتحدث عن طبيعة هذا الشهر، فيقول (ع): "الحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصنا بملّته، وسبّلنا في سبل إحسانه لنسلكها بمنّه إلى رضوانه، حمداً يتقبّله منا ويرضى به عنا، والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان، شهر الصيام وشهر الإسلام - لاحظوا كيف أعطى الإمام زين العابدين (ع) شهر رمضان هذا الاسم، لأن هذا الشهر بكل ما فيه من فيوضات وألطاف وأجواء وأعمال، يجعل الإنسان مسلماً بعقله وقلبه وجسده وبكل حركته في الحياة، وبكل علاقته بالله وبنفسه وبالناس، ويحرّك الإسلام في الواقع كله عندما ينطلق المؤمنون الصائمون من أجل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليعيش الإسلام في كل واقع الناس، وينفتح على كل قضايا الإسلام والمسلمين - وشهر الطهور - لا طهور الجسد فحسب، ولكنه طهور العقل، بأن تطهّر عقلك من كل قذارات الباطل، وأن تطهّر قلبك من كل قذارات الحقد، وأن تطهّر حياتك من كل قذارات الشر، أن تخرج من شهر رمضان طاهراً طهر أخلاقك وروحك وحياتك كلها، ونحن أتباع الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فعلينا أن نأخذ من طهارتهم الروحية والعقلية والعملية لنجعل أنفسنا في خط تلك الطهارة وفيضها - وشهر التمحيص - أن تمحّص نفسك، أن تدرس كل نقاط ضعفك وقوتك، أن تدرس سلبياتك وإيجابياتك، حتى تمحّص نفسك وتطرد منها كل ما يبعدك عن الله، وتنفتح على كل ما يقربك من الله - وشهر القيام". وقد كان الإمام الصادق (ع) إذا دخل شهر رمضان يوصي ولده: "إذا دخل شهر رمضان فأجهدوا أنفسكم، فإن فيه تُقسم الأرزاق وتُكتب الآجال، وفيه يُكتب وفد الله"..

إنه الموسم، موسم الخير والمغفرة والرحمة والرضوان والعبادة والعدل، تعالوا لنجلس على مائدة الله ولنتقبّل ضيافته، ولنعدّ أنفسنا حتى نكون من أهل طاعة الله ومن المقرّبين إليه في هذا الشهر الفضيل، لأنكم تعرفون أن من يخسر الموسم فإنه يخسر السنة كلها ويخسر العمر كله، تعالوا نربح أنفسنا ومصيرنا في هذا الشهر الكريم، نربح الجنة عند الله {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم}.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الشهر علينا وعلى المسلمين جميعاً شهر خير ورحمة ومغفرة وبركة، وأن يعيننا على أنفسنا بما يُعين به الصالحين على أنفسهم، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في هذا الشهر المبارك الذي هو الوسيلة التي يريد الله فيها للناس أن يتدرّبوا على طاعته وأن يتركوا ما أحلّ الله لهم في نهارهم، ليكونوا أقدر على ترك ما حرّم الله عليهم في ليلهم ونهارهم وفي جميع أيامهم.. وشهر رمضان هو الشهر الذي لم ينشغل فيه النبي (ص) والمسلمون معه عن الجهاد في سبيل الله بالصيام والقيام، بل انطلقوا مجاهدين في معركة "بدر" وحققوا أول انتصار للإسلام أظهر من خلاله قوة المسلمين على الكفر والكافرين، كما فتح الله تعالى مكة للمسلمين في هذا الشهر.. وفي هذا الجو، ونحن نعيش أكثر من "بدر" أمام قضية القدس الأسيرة، علينا أن نعيش أجواء "بدر" وأجواء فتح مكة، لندعو الله ولنقف مع المجاهدين، حتى يفتح الله بيت المقدس كما فتح مكة، ولذلك لا بد لنا أن نعيش وعي ما يُخطط لنا وما يحل بنا، وما يدبّره المستكبرون والظالمون، فماذا هناك؟

الوضع الدولي في حلقة مفرغة

الانتفاضة لا تزال مستمرة، ولا يزال العدو الصهيوني يصعّد من عمليات القصف للمدن والقرى بالطائرات والمدافع، ويغتال القيادات الفلسطينية من سائر المنظمات، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي يستهدف تجويع الشعب الفلسطيني، من أجل تركيعه وإسقاط انتفاضته..

والوضع الدولي - بقيادة أمريكا - لا يزال يدور في حلقة مفرغة، فلا يقوم بأية مبادرة جديّة للضغط على إسرائيل واستنكار مجازرها الوحشية، حتى أن مجلس الأمن لم يقم بأية خطوة حتى في قرار إرسال مراقبين دوليين - غير مسلّحين - إلى فلسطين، لمراقبة الوضع وللقيام بعملية الفصل، لأن إسرائيل - ومعها أمريكا - ترفض أن تكون عملياتها العدوانية الوحشية تحت رقابة دولية.. في الوقت الذي تصدر فيه التصريحات باستنكار أيّ عمل فلسطيني ضد الإسرائيليين، كما في عملية "الخضيرة"، ولا تستنكر أيّ عمل إسرائيلي عدواني ضد الفلسطينيين كما في قصف "غزة"، وقصف السيارات المدنية وقتل الأطفال؟!

جذوة الانتفاضة تستعر

إن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً هو اتعاب الشعب الفلسطيني وإخضاعه، ليكون ذلك جزءاً من مقدمات التفاوض - في المراحل اللاحقة - من موقع ضعيف يفرض عليه تقديم التنازلات للعدو على حساب حريته واستقلاله. ولكن صمود هذا الشعب فاجأ الجميع، لا سيما عندما تحوّلت الانتفاضة في ساحة المواجهة إلى عملية حرب مواجهة بأسلحة جديدة، وخطة ثائرة، بالرغم من سقوط الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي، ما أسقط مقولة رئيس أركان جيش العدو بأنه "لاحظ بعض الإنهاك لدى الفلسطينيين" من خلال عمليات الجيش الصهيوني، الأمر الذي يحاول من خلاله "باراك" الحصول على انتصار في هذه الحرب..

إننا نحذّر الفلسطينيين من وجود رهانات دولية وإقليمية على إعطاء إسرائيل الحرية في ضرباتها الوحشية ضدهم، من دون أن يمارس أي موقف ضاغط من أجل إتعابهم، تمهيداً لإخماد جذوة الانتفاضة، حتى تذهب عليها التضحيات بدون ثمن، ويعود المفاوض الفلسطيني إلى الطاولة وهو يفتقر إلى وجود أية قوة صامدة ضاغطة..

وعلى ضوء هذا، فإننا نأمل أن تزداد الوحدة الفلسطينية تماسكاً، فلا تسمح للعدو أن ينفذ إلى داخلها من خلال بعض الثغرات، ما يفرض على الجميع اللقاء ولو على الحدّ الأدنى من المواقف، وأن تكون هناك خطة ميدانية تلتقي عندها كل العمليات في مواقع الدفاع والهجوم، بحيث يتكامل المجاهدون فيها، ويتوزّعون الأدوار، ويحاصرون العدو من حيث يريد محاصرتهم، ويحوّلون المستوطنات إلى جحيم، ولا يسمحون للمستوطنين ولا للجيش الصهيوني باستفراد هذا الموقع الجهادي أو ذاك.. إننا لا نريد إصدار النصائح لهم، بل إننا نخشى أن تؤدي الفوضى التي يخطط لها العدو في ساحة الجهاد إلى بعثرة المواقف وانفصال المواقع..

ضعف المواقف العربية والإسلامية

وفي هذا الجو، فإننا نرحّب بالخطوة المصرية في سحب سفير مصر من كيان العدو، ولكننا نتساءل: إذا كانت هذه الخطوة قد جاءت بعد سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فهل تنتظر الخطوة التالية بالمقاطعة سقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى؟؟ إننا نلاحظ أن الموقف العربي - والإسلامي لا يزال ضعيفاً ودون مستوى المرحلة، لأننا لم نجد أية مبادرة عربية أو إسلامية للضغط على مصالح الدول الداعمة لإسرائيل - وفي مقدمتها أمريكا - فلا تزال العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية على حالها بين أمريكا وبين الأنظمة، ما يشجّع إسرائيل على التمادي في عدوانها، ويدفع أمريكا إلى المزيد من المواقف الداعمة لها على حساب الحق العربي والإسلامي كله..

وبهذه المناسبة، فإننا نجدد دعوتنا للشعوب العربية والإسلامية بالنزول إلى الشارع من جديد، من أجل الضغط على سياسة حكوماتهم، وأن تعمل على مقاطعة البضائع الإسرائيلية بالمطلق، بالإضافة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية - قدر الإمكان - فذلك أضعف الإيمان، لأن هناك شعباً يُباد، ومستقبلاً يُدمَّر، وأمة تُقهر..

التحرير يتحقق بالمقاومة

وليس بعيداً من ذلك، تستمر الدعوات الدولية - الأمريكية والأوروبية للتهدئة في جنوب لبنان، وإدخال الجيش إليه، وإبعاد المقاومة عن الحدود، حفاظاً على أمن إسرائيل، بحجة المحافظة على ضبط الأمور، ولكننا نلاحظ أن هذه الدعوات لا تترافق مع دعوة العدو للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، وفي مقدمتها "مزارع شبعا"!!

إننا نسمع في هذه الأيام كلمات تتحدث بأن مزارع شبعا لا تُحرر بالحجارة أو بعمليات المقاومة!! إن المطلوب - كما يريد هؤلاء - هو الاستقلال الطائفي.. إننا نسأل: هل حررت المفاوضات لبنان؟! إن الذي حرر لبنان هو المقاومة، إن العدو اعترف بأنه هُزم أمام المقاومة وكذلك اعترف العالم بذلك، ولن يُحرر مزارع شبعا إلا المقاومة، ولن يُحرر فلسطين إلا الانتفاضة والمقاومة، وما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، ولكن مشكلتنا مع بعض الناس في هذا البلد أنهم عندما تكون المسألة مع إسرائيل فإنهم يقدّمون المواعظ بالاعتدال، وعندما تكون القضية قضية سوريا فهناك العنف والكلمات التي تثير الفتنة..

إننا نعتقد أن المرحلة لا تزال مرحلة التحرير، ولذلك فإن دور المقاومة يبقى في واجهة الدفاع عن الشعب والأرض بالتنسيق مع الجيش اللبناني والسلطة اللبنانية التي نقدّر مواقفها القوية الحاسمة، لا سيما الموقف المميّز لرئيس الجمهورية في رفض كل الضغوط الدولية لتقديم التنازلات للعدو..

وتمر علينا ذكرى الاستقلال التي تزامنت مع عملية التحرير، بفضل جهاد المجاهدين وصمود الشعب اللبناني والتفافه حول المقاومة، مما جعل للذكرى معنى جديداً، ولكن لا بد للبنانيين - شعباً ومقاومة وسلطة - من استكمال عملية استكمال الاستقلال بالتحرير الكامل، وذلك بالوحدة الوطنية وعدم الدخول في جدال عقيم يؤدي إلى الانقسامات السياسية وإثارة الحساسيات الطائفية، والحديث عن المساواة في السلبية بين العدو والشقيق، وتحريك الشارع السياسي اللبناني في بعض المواقع لتحريك بعض الأحقاد التي لا تنفع الحاضر ولا المستقبل..

التكامل لحل مشكلات المرحلة

إننا نحذّر الجميع من هذه اللعبة الخطرة، في هذه المرحلة الدقيقة التي تهتز فيها المنطقة - ومنها لبنان - وتختزن أحداثاً سياسية وعسكرية واقتصادية لا يُعرف مداها، الأمر الذي يفرض علينا التكامل والتفاعل مع مسؤوليات المرحلة، لنكون معاً في مواجهة التحديات السياسية والأمنية، ولنتحرك معاً - معارضة وموالاة - في حل المشكلة الاقتصادية وإخراج الشعب من مأساة الأزمة المعيشية..

أيها اللبنانيون: لا تلعبوا بالنار، فإن النار تحرق الذين يلعبون بها قبل أن تحرق الذين تستهدفهم.. إن المرحلة هي مرحلة الحصاد على مستوى القضايا الكبرى، فلا تُشعلوا عود الثقاب في ساحة البيدر العربي والإسلامي..

لأنه موسم التطهّر والعبادة والعمل:
"أجهدوا أنفسكم في شهر رمضان ففيه تُقسم الأرزاق"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}. نستقبل شهر رمضان في يوم الاثنين القادم بحسب الثبوت العلمي بالنسبة إلى ولادة الهلال وإمكانية الرؤية، والثبوت العلمي عندنا ثبوت شرعي، ومن أحبّ أن يصوم استحباباً في يوم الأحد على أساس أنه من "شعبان" فليفعل.

القرآن كتاب الهداية إلى الله

ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم الذي قدّمه الله تعالى إلينا بأنه هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، ومعنى ذلك أنه الشهر الذي جمع فيه الله سبحانه وتعالى للإسلام كتابه، وأراد للمسلمين أن ينطلقوا من خلال هذا الكتاب وهو القرآن الكريم، ليجدوا فيه الهدى في كل حالات الضياع والضلال، فإذا تاه بنا الطريق ولم نعرف إلى أين نسير، فعلينا أن نرجع إلى القرآن ليحدد لنا الطريق، سواء في مسارنا الاقتصادي عندما تشتبه الأمور بين الحلال والحرام، أو في المسار الاجتماعي عندما تشتبه القضايا بين الاستقامة والانحراف، أو في المسار السياسي عندما تتردد الأمور بين مواقع الاستكبار والاستضعاف ومواقع العدل والظلم، فعلينا أن نرجع إلى القرآن الكريم لنتدبّره ونتفهّمه، لنجد فيه الهدى، فإن هدى الله هو الهدى، وهذا ما عبّر الله تعالى عنه للمسلمين عندما خاطبهم من خلال الرسول (ص) بقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم - إذا أردتم أن تتقرّبوا إلى أتباع هذا الدين أو ذاك حتى يرضوا عنكم، فلن يرضوا عنكم إلا إذا خرجتم من دينكم واتبعتم دينهم - قل إن هدى الله هو الهدى}..

وفي القرآن الكريم ما يبيّن لكم كل التفاصيل التي تهديكم إلى الله ورضوانه، سواء تلك التفاصيل في حياتكم العائلية أو في حياتكم الاجتماعية، وفي كل مواقع الحياة، فإن في القرآن الفرقان، أي ما يفرّق بين الحق والباطل، ليحدد لكم في كل موقف أين هو الحق وأين هو الباطل. ولعل المسلمين ضاعوا وضلّوا وابتعدوا عن النهج لأنهم أضاعوا القرآن وحوّلوه إلى كتاب للبَرَكة وللزينة، بدلاً من أن ينفتحوا عليه ليتدبّروه، {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.

الانفتاح على الله بالدعاء

ونلتقي بشهر رمضان، هذا الشهر القرآني، فإن على الإنسان أن يعيش فيه كل الخطوط العامة للإسلام، فالله تعالى أراد لنا أن نصوم هذا الشهر: {ومن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أُخر}، وأراد الله تعالى لنا في شهر رمضان كما أراد لنا في كل أيام السنة أن ندعو الله، {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، وأراد الله لنا فيه - كما في غيره من الشهور - أن نعيش الحضور بين يديه، أن نذكره في كل حالاتنا، أن نسبّحه لتتجلى عظمته في معنى التسبيح، وأن نحمده لنعرف أن الحمد كله له، فكل محمود يستمد حمده منه، وأن نهلله لنعرف أن لا إله إلا هو، ولنكبّره لنعرف أنه الأكبر وكل ما عداه هو الأصغر.

وقد ترك لنا القرآن، كما النبي محمد (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، ولا سيما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، من الأدعية المنفتحة على الله، والتي يعيش فيها الإنسان ثقافة المعرفة بالله، والمنفتحة على الرسول والرسالة وعلى الإنسان في كل نقاط ضعفه وقوته التي ينفتح من خلالها على الله، وعلى حياة الإنسان كلها في كل معاني القيم الروحية والأخلاقية. ولذلك فإن هذه الأدعية، سواء كانت أدعية الصباح والمساء والأدعية النهارية والليلية وأدعية السحر، هي التي تجعل الإنسان إذا وعاها وتفهّمها وحضّر قلبه عند قراءتها، إنساناً قريباً من الله، قريباً من الناس، قريباً من كل خطوط الرسالة.

بركات شهر رمضان

ولذلك، حاولوا أن لا تفوتكم هذه الأدعية، وفرّغوا أنفسكم لها في ليلكم ونهاركم، وإذا كان البعض يعتذر بأنه مشغول بأمور معيشته وحياته، فإن بإمكانه أن يدعو الله بما أهمّه بدعاء يحفظه أو يُنشئه، ادعُ الله بلغتك الخاصة وبلهجتك الخاصة، لأن الدعاء يجعلك تحسّ بحضور الله معك، وتشعر بأنك تناديه وتناجيه كما لو كان حاضراً أمامك.. إن القرآن الكريم أراد لنا أن نجاهد أنفسنا ونتورع عن الحرام، وننفتح على الواجبات، وفي شهر رمضان يكبر هذا الواجب وتكبر هذه المسؤولية.

وقد حدّثنا رسول الله والأئمة الهداة من أهل بيته عن هذا الشهر وعن بركاته وفضله وضرورة الاستعداد له بكل ما يمكن للإنسان من الاستعداد العقلي والروحي والشعوري والعملي، فقد خطب رسول الله(ص) في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر رمضان، فرض الله فيه صيامه، وجعل قيامه ليلة بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة في ما سواه من الشهور، تُغلق فيه أبواب النيران، وتُفتح فيه أبواب الجنان، فمن أدركه فلم يُغفر له فأبعده الله، هو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار"..

وقال (ص) في رواية أخرى: "أيها الناس، قد أقبل إليكم شهر الله بالبَرَكة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله - فالله تعالى بسط لنا في هذا الشهر مائدته في الصباح والمساء، ومائدة الله رزقه ومغفرته ورضوانه وجنته - وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله - عندما تُكرمون أنفسكم بالتقوى وتُكرمون الناس من حولكم بالخير والمحبة - أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر".

وقام عليّ (ع) بعد أن استكمل النبي (ص) خطبته وقال له: "يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر"؟ فقال (ص): "يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله"، ادرس كل ما حرّم الله عليك، ما حرّمه في كلماتك ونظراتك وطعامك وشرابك وشهواتك ومالك وتجارتك ومساكنك، انظر إلى كل ما حرّم الله عليك وابتعد عنه، فذلك من أفضل الأعمال في هذا الشهر..

شهر الإسلام

وقد كان الإمام زين العابدين (ع) يدعو الله تعالى عندما يدخل شهر رمضان وعندما يخرج، وهو يتحدث عن طبيعة هذا الشهر، فيقول (ع): "الحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصنا بملّته، وسبّلنا في سبل إحسانه لنسلكها بمنّه إلى رضوانه، حمداً يتقبّله منا ويرضى به عنا، والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان، شهر الصيام وشهر الإسلام - لاحظوا كيف أعطى الإمام زين العابدين (ع) شهر رمضان هذا الاسم، لأن هذا الشهر بكل ما فيه من فيوضات وألطاف وأجواء وأعمال، يجعل الإنسان مسلماً بعقله وقلبه وجسده وبكل حركته في الحياة، وبكل علاقته بالله وبنفسه وبالناس، ويحرّك الإسلام في الواقع كله عندما ينطلق المؤمنون الصائمون من أجل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليعيش الإسلام في كل واقع الناس، وينفتح على كل قضايا الإسلام والمسلمين - وشهر الطهور - لا طهور الجسد فحسب، ولكنه طهور العقل، بأن تطهّر عقلك من كل قذارات الباطل، وأن تطهّر قلبك من كل قذارات الحقد، وأن تطهّر حياتك من كل قذارات الشر، أن تخرج من شهر رمضان طاهراً طهر أخلاقك وروحك وحياتك كلها، ونحن أتباع الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فعلينا أن نأخذ من طهارتهم الروحية والعقلية والعملية لنجعل أنفسنا في خط تلك الطهارة وفيضها - وشهر التمحيص - أن تمحّص نفسك، أن تدرس كل نقاط ضعفك وقوتك، أن تدرس سلبياتك وإيجابياتك، حتى تمحّص نفسك وتطرد منها كل ما يبعدك عن الله، وتنفتح على كل ما يقربك من الله - وشهر القيام". وقد كان الإمام الصادق (ع) إذا دخل شهر رمضان يوصي ولده: "إذا دخل شهر رمضان فأجهدوا أنفسكم، فإن فيه تُقسم الأرزاق وتُكتب الآجال، وفيه يُكتب وفد الله"..

إنه الموسم، موسم الخير والمغفرة والرحمة والرضوان والعبادة والعدل، تعالوا لنجلس على مائدة الله ولنتقبّل ضيافته، ولنعدّ أنفسنا حتى نكون من أهل طاعة الله ومن المقرّبين إليه في هذا الشهر الفضيل، لأنكم تعرفون أن من يخسر الموسم فإنه يخسر السنة كلها ويخسر العمر كله، تعالوا نربح أنفسنا ومصيرنا في هذا الشهر الكريم، نربح الجنة عند الله {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم}.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الشهر علينا وعلى المسلمين جميعاً شهر خير ورحمة ومغفرة وبركة، وأن يعيننا على أنفسنا بما يُعين به الصالحين على أنفسهم، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في هذا الشهر المبارك الذي هو الوسيلة التي يريد الله فيها للناس أن يتدرّبوا على طاعته وأن يتركوا ما أحلّ الله لهم في نهارهم، ليكونوا أقدر على ترك ما حرّم الله عليهم في ليلهم ونهارهم وفي جميع أيامهم.. وشهر رمضان هو الشهر الذي لم ينشغل فيه النبي (ص) والمسلمون معه عن الجهاد في سبيل الله بالصيام والقيام، بل انطلقوا مجاهدين في معركة "بدر" وحققوا أول انتصار للإسلام أظهر من خلاله قوة المسلمين على الكفر والكافرين، كما فتح الله تعالى مكة للمسلمين في هذا الشهر.. وفي هذا الجو، ونحن نعيش أكثر من "بدر" أمام قضية القدس الأسيرة، علينا أن نعيش أجواء "بدر" وأجواء فتح مكة، لندعو الله ولنقف مع المجاهدين، حتى يفتح الله بيت المقدس كما فتح مكة، ولذلك لا بد لنا أن نعيش وعي ما يُخطط لنا وما يحل بنا، وما يدبّره المستكبرون والظالمون، فماذا هناك؟

الوضع الدولي في حلقة مفرغة

الانتفاضة لا تزال مستمرة، ولا يزال العدو الصهيوني يصعّد من عمليات القصف للمدن والقرى بالطائرات والمدافع، ويغتال القيادات الفلسطينية من سائر المنظمات، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي يستهدف تجويع الشعب الفلسطيني، من أجل تركيعه وإسقاط انتفاضته..

والوضع الدولي - بقيادة أمريكا - لا يزال يدور في حلقة مفرغة، فلا يقوم بأية مبادرة جديّة للضغط على إسرائيل واستنكار مجازرها الوحشية، حتى أن مجلس الأمن لم يقم بأية خطوة حتى في قرار إرسال مراقبين دوليين - غير مسلّحين - إلى فلسطين، لمراقبة الوضع وللقيام بعملية الفصل، لأن إسرائيل - ومعها أمريكا - ترفض أن تكون عملياتها العدوانية الوحشية تحت رقابة دولية.. في الوقت الذي تصدر فيه التصريحات باستنكار أيّ عمل فلسطيني ضد الإسرائيليين، كما في عملية "الخضيرة"، ولا تستنكر أيّ عمل إسرائيلي عدواني ضد الفلسطينيين كما في قصف "غزة"، وقصف السيارات المدنية وقتل الأطفال؟!

جذوة الانتفاضة تستعر

إن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً هو اتعاب الشعب الفلسطيني وإخضاعه، ليكون ذلك جزءاً من مقدمات التفاوض - في المراحل اللاحقة - من موقع ضعيف يفرض عليه تقديم التنازلات للعدو على حساب حريته واستقلاله. ولكن صمود هذا الشعب فاجأ الجميع، لا سيما عندما تحوّلت الانتفاضة في ساحة المواجهة إلى عملية حرب مواجهة بأسلحة جديدة، وخطة ثائرة، بالرغم من سقوط الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي، ما أسقط مقولة رئيس أركان جيش العدو بأنه "لاحظ بعض الإنهاك لدى الفلسطينيين" من خلال عمليات الجيش الصهيوني، الأمر الذي يحاول من خلاله "باراك" الحصول على انتصار في هذه الحرب..

إننا نحذّر الفلسطينيين من وجود رهانات دولية وإقليمية على إعطاء إسرائيل الحرية في ضرباتها الوحشية ضدهم، من دون أن يمارس أي موقف ضاغط من أجل إتعابهم، تمهيداً لإخماد جذوة الانتفاضة، حتى تذهب عليها التضحيات بدون ثمن، ويعود المفاوض الفلسطيني إلى الطاولة وهو يفتقر إلى وجود أية قوة صامدة ضاغطة..

وعلى ضوء هذا، فإننا نأمل أن تزداد الوحدة الفلسطينية تماسكاً، فلا تسمح للعدو أن ينفذ إلى داخلها من خلال بعض الثغرات، ما يفرض على الجميع اللقاء ولو على الحدّ الأدنى من المواقف، وأن تكون هناك خطة ميدانية تلتقي عندها كل العمليات في مواقع الدفاع والهجوم، بحيث يتكامل المجاهدون فيها، ويتوزّعون الأدوار، ويحاصرون العدو من حيث يريد محاصرتهم، ويحوّلون المستوطنات إلى جحيم، ولا يسمحون للمستوطنين ولا للجيش الصهيوني باستفراد هذا الموقع الجهادي أو ذاك.. إننا لا نريد إصدار النصائح لهم، بل إننا نخشى أن تؤدي الفوضى التي يخطط لها العدو في ساحة الجهاد إلى بعثرة المواقف وانفصال المواقع..

ضعف المواقف العربية والإسلامية

وفي هذا الجو، فإننا نرحّب بالخطوة المصرية في سحب سفير مصر من كيان العدو، ولكننا نتساءل: إذا كانت هذه الخطوة قد جاءت بعد سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فهل تنتظر الخطوة التالية بالمقاطعة سقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى؟؟ إننا نلاحظ أن الموقف العربي - والإسلامي لا يزال ضعيفاً ودون مستوى المرحلة، لأننا لم نجد أية مبادرة عربية أو إسلامية للضغط على مصالح الدول الداعمة لإسرائيل - وفي مقدمتها أمريكا - فلا تزال العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية على حالها بين أمريكا وبين الأنظمة، ما يشجّع إسرائيل على التمادي في عدوانها، ويدفع أمريكا إلى المزيد من المواقف الداعمة لها على حساب الحق العربي والإسلامي كله..

وبهذه المناسبة، فإننا نجدد دعوتنا للشعوب العربية والإسلامية بالنزول إلى الشارع من جديد، من أجل الضغط على سياسة حكوماتهم، وأن تعمل على مقاطعة البضائع الإسرائيلية بالمطلق، بالإضافة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية - قدر الإمكان - فذلك أضعف الإيمان، لأن هناك شعباً يُباد، ومستقبلاً يُدمَّر، وأمة تُقهر..

التحرير يتحقق بالمقاومة

وليس بعيداً من ذلك، تستمر الدعوات الدولية - الأمريكية والأوروبية للتهدئة في جنوب لبنان، وإدخال الجيش إليه، وإبعاد المقاومة عن الحدود، حفاظاً على أمن إسرائيل، بحجة المحافظة على ضبط الأمور، ولكننا نلاحظ أن هذه الدعوات لا تترافق مع دعوة العدو للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، وفي مقدمتها "مزارع شبعا"!!

إننا نسمع في هذه الأيام كلمات تتحدث بأن مزارع شبعا لا تُحرر بالحجارة أو بعمليات المقاومة!! إن المطلوب - كما يريد هؤلاء - هو الاستقلال الطائفي.. إننا نسأل: هل حررت المفاوضات لبنان؟! إن الذي حرر لبنان هو المقاومة، إن العدو اعترف بأنه هُزم أمام المقاومة وكذلك اعترف العالم بذلك، ولن يُحرر مزارع شبعا إلا المقاومة، ولن يُحرر فلسطين إلا الانتفاضة والمقاومة، وما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، ولكن مشكلتنا مع بعض الناس في هذا البلد أنهم عندما تكون المسألة مع إسرائيل فإنهم يقدّمون المواعظ بالاعتدال، وعندما تكون القضية قضية سوريا فهناك العنف والكلمات التي تثير الفتنة..

إننا نعتقد أن المرحلة لا تزال مرحلة التحرير، ولذلك فإن دور المقاومة يبقى في واجهة الدفاع عن الشعب والأرض بالتنسيق مع الجيش اللبناني والسلطة اللبنانية التي نقدّر مواقفها القوية الحاسمة، لا سيما الموقف المميّز لرئيس الجمهورية في رفض كل الضغوط الدولية لتقديم التنازلات للعدو..

وتمر علينا ذكرى الاستقلال التي تزامنت مع عملية التحرير، بفضل جهاد المجاهدين وصمود الشعب اللبناني والتفافه حول المقاومة، مما جعل للذكرى معنى جديداً، ولكن لا بد للبنانيين - شعباً ومقاومة وسلطة - من استكمال عملية استكمال الاستقلال بالتحرير الكامل، وذلك بالوحدة الوطنية وعدم الدخول في جدال عقيم يؤدي إلى الانقسامات السياسية وإثارة الحساسيات الطائفية، والحديث عن المساواة في السلبية بين العدو والشقيق، وتحريك الشارع السياسي اللبناني في بعض المواقع لتحريك بعض الأحقاد التي لا تنفع الحاضر ولا المستقبل..

التكامل لحل مشكلات المرحلة

إننا نحذّر الجميع من هذه اللعبة الخطرة، في هذه المرحلة الدقيقة التي تهتز فيها المنطقة - ومنها لبنان - وتختزن أحداثاً سياسية وعسكرية واقتصادية لا يُعرف مداها، الأمر الذي يفرض علينا التكامل والتفاعل مع مسؤوليات المرحلة، لنكون معاً في مواجهة التحديات السياسية والأمنية، ولنتحرك معاً - معارضة وموالاة - في حل المشكلة الاقتصادية وإخراج الشعب من مأساة الأزمة المعيشية..

أيها اللبنانيون: لا تلعبوا بالنار، فإن النار تحرق الذين يلعبون بها قبل أن تحرق الذين تستهدفهم.. إن المرحلة هي مرحلة الحصاد على مستوى القضايا الكبرى، فلا تُشعلوا عود الثقاب في ساحة البيدر العربي والإسلامي..

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير