تعالوا لنتمسّك بالمنهج القرآني النبوي الإمامي

تعالوا لنتمسّك بالمنهج القرآني النبوي الإمامي

لأن العدل أساس الرسالات وقوام العالم:
تعالوا لنتمسّك بالمنهج القرآني النبوي الإمامي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

العدل أساس الرسالات

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. يؤكد الله تعالى في هذه الآية الكريمة حقيقة رسالية تشمل كل الرسالات التي بعث الله بها رسله، وهي أن العدل هو أساس الرسالات، التي تهدف جميعاً إلى أن يأخذ الناس بأسباب العدل، لأن ذلك هو الأساس الذي يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار في العالم، ويلتقي فيه الناس على أساس احترام بعضهم لبعض في كل الحقوق المتبادلة بينهم، بحسب ما فرضه الله تعالى من الحقوق على عباده، مما يرتبط بحقه عليهم وبحقوقهم مع بعضهم بعضاً، من خلال الشريعة والالتزامات العقدية التي يتعاقدون فيها على إيجاد علاقة هنا وعلاقة هناك.

فالله تعالى يريد للناس كلهم أن يعطوا كل ذي حق حقه، وأن لا يظلم أحد حق أحد، فهذا هو الذي يجسّد احترام الإنسان للإنسان الآخر، وهو الذي يؤكد على بناء القاعدة التي تنتج كل ما يرتفع بالإنسان ويسمو بالإنسانية إلى التكامل، فإذا ما حفظ الناس حقوق بعضهم بعضاً، فإن ذلك سوف يشارك في تنمية قدراتهم وطاقاتهم وثرواتهم، ويحقق أيضاً النمو العلمي والعقلي والحضاري، لأن الناس عندما يحترمون حقوق بعضهم بعضاً، فسيشغلون أنفسهم بمسؤولياتهم في تنمية إنسانيتهم بالعلم والوعي والثقافة، ما يجعلهم في الموقع المتقدّم للحضارة، أما إذا أخلّوا بهذا المبدأ وظلموا بعضهم بعضاً، سواء ظلم الحاكم لشعبه، أو ظلم الشعب لحاكمه العادل، أو ظلم الناس بعضهم لبعض في خطّ التجارة والسياسة والأمن، أو ظلم الأب لأبنائه، أو ظلم الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، عندما يتحوّل المجتمع إلى حال من الظلم الفردي والاجتماعي، وسوف يُشغل عن كل تنمية وتقدم وانتفاع بالمستوى العلمي والعقلي والحضاري.

ولعلّ المشكلة في كثير من مواقعنا في الشرق كله أو في العالم الثالث كله، هي أننا مشغولون بمشكلة الظلم وكيف نتخفف منه، لأننا نعيش الظلم في بيوتنا وأسواقنا ونوادينا ومواقع الحكم فينا، وفي مواقع قوة الاستكبار العالمي على الشعوب المستضعفة، ولذلك نجد الناس مشغولين بالتخفّف من الظلم أو بمجاملة الظالم هنا وهناك، وهذا ما يجعل التخلّف هو المرض الذي يسود المجتمعات.

وقد ورد في تحليل الإمام عليّ (ع) للعدل قوله: "العدل أساس به قوام العالم"، أي أنّ العالم يقوم على أساس العدل، بحيث يسقط ويهتز ويتخلخل ويضعف إذا أخل الناس بالعدل، ويقول(ع): "إن العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه"، لأن الله تعالى أراد من خلال سلطته على عباده ورعايته لهم أن يأخذوا بأسباب العدل. ويقول عليّ (ع): "العدل يصلح البرية، صلاح الرعية العدل".

العدل بمعرفة الحقوق

وفي ضوء هذا، فإن مسألة العدل هي مسألة أن تكون مسلماً كما يريد الله تعالى لك أن تكون، لأن العدل هو أساس الإسلام، وهذا أمر لا بد أن نربي أنفسنا وأجيالنا عليه، ولا بد لنا لكي نأخذ بأسباب العدل، أن نعرف حقوق بعضنا على بعض، وما هو حق الله علينا، فلله علينا أن نعبده ونوحده ونطيعه من دون أن نشرك به شيئاً، وللحاكم على الرعية أن يعدل فيهم وأن يوفـّي لهم حقوقهم العامة مما يتصل بمسؤوليته في الحكم على مستوى القانون الذي يتساوون أمامه، وعلى مستوى التنفيذ في تحريك القانون في الواقع، والعدل بين الناس في الشؤون المالية بأن تعطي لكل إنسان ما له عليك من مال ولا تغمط أحداً حقه، والعدل في العلاقات الإنسانية هو أن تعرف ما هو حق الوالدين على الأولاد وحق الأولاد على والديهم، وما هو حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها، أن نعرف ما هي حقوق بعضنا بعضاً حتى لا نخطئ، وأن لا يعتبر أيّ إنسان أن قوته تبرر له أن يفرض نفسه على الآخر، لأن الشيطان قد يغري أصحاب القوة أن يظلموا الضعفاء من خلال هذه النزعة الاستكبارية التي يعيشها أقوياء المال والسلاح والعشيرة، وما إلى ذلك من مواقع القوة.

بذلك نستطيع أن نعيش في مجتمع يحكم بالعدل، وهذا ما أراده الله في خطابه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. وقد ورد عن رسول الله(ص) عندما سئل: من أعدل الناس؟ قال (ص): "أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه". وقد رأينا كيف أن الله تعالى أراد للناس أن يأخذوا بالعدل بعيداً من القرابة والصداقة والعداوة، فالعدل مغمض العينين أمام خصوصيات الناس الذين يستحقونه منك، فلا تنظر إلى نسب الإنسان وموقعه وثروته أو إلى قوته وقرابته أو صداقته، ولا تنظر في الجانب السلبي إلى عداوته، بل انظر ـ فقط ـ هل هو صاحب حق أم لا؟ هل الحق معه أم عليه؟ وهذا ما جاء عن عليّ (ع): "القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقه".

العدل مع العدو والصديق

وهذا ما جاء به القرآن الكريم، فالله تعالى يقول في العدل بالحكم والشهادة، أن تشهد بالحق حتى تركّز لصاحب الحق حقه، بقطع النظر عن المشهود له أو عليه، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ـ فلا تشهد لحساب قريبك أو صديقك، بل أن تشعر بأنك تشهد لحساب الله لإقامة العدل ـ ولو على أنفسكم ـ إذا كان الحق عليك فاشهد على نفسك ـ أو الوالدين ـ حتى والداك اللذان ربياك إذا كان عليهما الحق فقف أمام المحكمة وقل إن أبي أو أمي عليهما الحق لفلان أو فلانة ـ والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً}.

وفي آية أخرى، يركِّز الله تعالى على العدل حتى مع العدو، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله ـ ليكن كل قيامكم في كل تصرفاتكم لله تعالى ـ شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم ـ يمنعكم ـ شنآن ـ عداوة ـ قوم على ألاّ تعدلوا ـ فالحق لا يعرف عدواً ولا صديقاً ـ اعدلوا هو أقرب للتقوى ـ أن تعدل حتى مع عدوّك فهذا أقرب للالتزام بما أمر الله ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. وقد جاء في وصية الإمام عليّ (ع) لابنه الحسين (ع) يقول: "أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو"، فالإمام(ع) يؤكد للحسين(ع) ـ وهو رجل الحق والعدل ـ أن يكون عادلاً مع الصديق والعدو، وبأن يعطي الإنسان عدوّه حقه إذا كان له حق عنده.

وفي دعاء الإمام زين العابدين (ع) ـ وقيمة هذه الأدعية أنها ثروة تثـقّف الإنسان المؤمن ـ يقول (ع): "اللهم صلِّ على محمد وآله، وارزقني التحفظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في الدنيا والآخرة، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي"...

ويقول تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا}، أي ينبغي أن لا تعطِ إنساناً أكثر من حقه، ولا تنقص إنساناً ما يستحقه، لأن بعض الناس إذا أحبوا شخصاً رفعوه إلى السماء وهو لا يزال في الأرض، وإذا أبغضوا شخصاً أنزلوه إلى الحضيض وهو لا يزال مرتفعاً، وذلك نتيجة لعصبياتنا ومزاجياتنا. ويقول النبي(ص): "إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحق، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس بحق".

لو أن المسلمين أخذوا بهذا المنهج القرآني النبوي الإمامي، فكم تكون الحياة مستقرة وعزيزة وكريمة، وكم يكون المجتمع موحداً؟ ولكن مشكلتنا أننا نأخذ من القرآن رسمه، ومن الإسلام اسمه، ونتحرك بأخلاق الكفر والانحراف، والله تعالى يقول: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون}، وهذا ما نرجو الله تعالى أن يوفقنا للأخذ به، حتى نحصل على رضاه في الدنيا وفي الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في عباده وبلاده، وخذوا بأسباب العدل، وكونوا للظالم خصماً أياً كانت قوة الظالم وامتداده وسياسته، وللمظلوم عوناً، سواء أكان شخصاً أم شعباً أم أمة، فتلك هي دعوة الله تعالى؛ أن نقف ضد الظالمين، وأن لا نركن إليهم أو نساعدهم بما يقوّي ظلمهم ويدعم مواقعهم. علينا أن يكون رفض الظلم ديناً ندين به، وعقيدة نلتزمها، ومنهجاً نتحرك فيه، حتى يشعر الظالمون على المستوى الفردي والاجتماعي بأنهم محاصرون بالشعوب، لأنها لا تساعدهم وتعاونهم، بل تقاومهم بما يتوافر لديها من وسائل المقاومة..

ونحن لا نزال نعيش في هذه المرحلة من حياتنا ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، ولا بد لنا من أن تكون لنا ثقافة الواقع السياسي والأمني على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لأننا عندما نعي خططهم نعرف كيف نتفاداها ونواجهها، ولذلك فإننا لا نحاول أن نستهلك الكلام، بل نعمل على أن نحلّل الواقع لتكون لنا ثقافته التي تدفعنا إلى قوة الموقف، والقضية الفلسطينية في الواجهة، فماذا هناك؟

وثيقة جنيف: مماطلة وتضييع للوقت

تمر القضية الفلسطينية في صراعها مع العدو الصهيوني بتعقيدات سياسية وأمنية قد تخلط الأوراق، وتثير أكثر من جدل سياسي في الساحة الملتهبة، وتفتح الأوضاع على أكثر من متاهة في حركة المشكلة والحل...

فهناك لقاءات إسرائيلية ـ فلسطينية تتداخل فيها مواقع أمريكية وأوروبية في جنيف، من خلال الوثيقة المثيرة للجدل فلسطينياً، لأنها تتضمن تقديم التنازل عن حق العودة، وإسرائيلياً من خلال الصراعات الحزبية الداخلية، ما قد يثير أكثر من وضع داخلي ليس في مصلحة حكومة "الليكود"... في الوقت الذي تعطي الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر ـ الممتزج بالصفرة ـ لوزير خارجيتها للقاء واضعي وثيقة جنيف، ما أثار الموقف الصهيوني الذي بدأ يطرح شعار تنفيذ خريطة الطريق من دون أية آلية واقعية من جانب الكيان العبري، لأن الموقف لا يزال هو الضغط على الفلسطينيين ليتحملوا مسؤولية الخريطة، بتفكيك البنية التحتية للانتفاضة، وتقطيع أوصال المقاومة، وإيجاد حال أمنية خطيرة تتمثّل بتحريك الفتنة المسلحة في داخل الشعب الفلسطيني كشرط للمفاوضات حول الخريطة، بالتنسيق مع أمريكا...

وفي القاهرة، امتداد لحركة الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني من أجل هدنة جديدة تجمع الفصائل كلها مع السلطة، أو مشروع لقيادة فلسطينية موحدة قد لا تملك الكثير من الواقعية الحركية، وخصوصاً أن إسرائيل تعلن ـ من خلال مسؤوليها ـ عن رفضها الهدنة وإصرارها على شروطها التعجيزية، وتوتير الأجواء عبر الاستمرار في الاجتياحات والاعتقالات وعمليات الدهم والتدمير اليومية التي تؤدي إلى أكثر من مجزرة تقتل الأطفال والشيوخ والنساء، وتدمّر المواقع المدنية...

ويترافق ذلك مع التخطيط لبناء مستوطنات جديدة، ولا سيما في القدس، وذلك من أجل تعطيل أية هدنة أو تهدئة أو تحريك لمشروع الحل، لأن أميركا دخلت في حملة الانتخابات الرئاسية، التي لا يستطيع الرئيس المرشح أن يعارض أي مشروع إسرائيلي خلالها. ولذلك، فإن المطّلعين على أسرار الإدارة الأمريكية يؤكدون أنه ليست هناك فرصة في سياستها للحل في السنة المقبلة، وربما في ما بعدها، بل كل ما هناك هو تقطيع للوقت وتمييع للمشاريع وإلهاء المواقع السياسية باللقاءات والمؤتمرات الاحتفالية التي لا تحقق أية نتيجة عملية حاسمة.

فلسطين: التمسّك بالوحدة وبالانتفاضة

ولذلك، فإن المطلوب من الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المزيد من الحذر من خلفيات هذه الأوضاع، التي قد تكون وسيلة من وسائل إضعاف الموقف الفلسطيني وتمييع المشروع التحريري، وإيصال القضية إلى الخطة الصهيونية في إجهاض المستقبل الفلسطيني... إن هناك موقفين رئيسين ثابتين، هما الوحدة الفلسطينية التي لا يسمح معها لأحد بإضعافها، والانتفاضة المجاهدة التي لا بد من استمرارها في حركة المقاومة الجهادية والخطة السياسية، والتكامل ما بين مواقع الشعب الفلسطيني بكل فئاته السياسية والثقافية والأمنية والاجتماعية.

ومن جانب آخر، وليس بعيداً من هذا المناخ، فإن العلاقات الأمريكية مع سوريا ومع المنطقة كلها خاضعة للعلاقات مع إسرائيل، لأن سياسة الإدارة الأمريكية الاستراتيجية هي أن أية علاقة تفاوضية أو اقتصادية أو سياسية لأي دولة، لا بد أن تمر بعلاقتها مع الكيان الصهيوني، فإسرائيل هي مفتاح العلاقة مع أمريكا، حتى لو كان ذلك على حساب مصالحها، لأن الالتزام الأمريكي بالأمن الإسرائيلي المطلق، ربما كان أكثر من الالتزام بأمن أمريكا نفسها، ذلك أن جماعة إسرائيل في الإدارة ومجلسي النواب والشيوخ يفكرون بإسرائيل أولاً، ومن ثم بأمريكا ثانياً.

وهذا ما لاحظناه عند مناقشة مشروع قانون محاسبة سوريا الذي ينتظر توقيع الرئيس الأمريكي لاستكمال الضغط على سوريا ولبنان، لأن المسألة تخضع لشروط أمريكية عدة للضغط على المنطقة، منها:

ـ أولاً: التخلي عن أوراق القوة قبل معاودة المفاوضات على التسوية التي طرحت سوريا استعدادها للتفاوض عليها، مع ملاحظة أن أمريكا لا تضمن في طرحها عودة الأرض بالكامل...

ـ ثانياً: الحصول على مطالب سياسية وأمنية عدة قبل بداية الحوار، ما يعني تعطيله من حيث المبدأ...

ـ ثالثاً: رفض الأدوار الإقليمية في العراق، ودعوة دول الجوار الإقليمي إلى التخلي عن مصالحها لضمان النجاح الأمريكي...

ـ رابعاً: تنفيذ مخططات المحافظين الجدد الذين هم أكثر صهيونية من اليهود، في إبقاء سياسة الاهتزاز ونسف سياسة الاستقرار من خلال هذا الفريق الذي يسمّونه فلاسفة الفوضى...

وهذه هي السياسة الخطيرة، سواء أكانت سياسة أمريكية تستفيد منها إسرائيل، أم سياسة إسرائيلية تمارسها أمريكا... وهذا هو الذي يجعل شعوبنا العربية والإسلامية تفقد الثقة بأمريكا التي تتحرك أهدافها الإمبراطورية بما يتجاوز حقوق الشعوب ومصالحها الشرعية الدولية، مع أنها فشلت في إحراز نصر سياسي بعد النصر العسكري، كما كشفت التجربة في أفغانستان والعراق.

إننا نقول للشعب الأمريكي: إننا نحب الحرية كما تحبها، ونكره الإرهاب كما تكرهه، ولكننا نرفض مصادرة مصالحنا وقضايانا والتخطيط للسيطرة على أراضينا من قِبَل إسرائيل وأمريكا... لذلك، نريدكم أن تتبصروا بنتائج السياسة الخارجية والحملة العسكرية لإدارتكم، لأنها سوف تنتهي بكم إلى العزلة عن العالم، فالقوة لن تستطيع أن تصنع النصر في أبعاده الإنسانية.

العراق: الاحتلال شرٌ مطلق

وفي هذا الاتجاه، يبقى العراق الجرح النازف الذي لا تزال الفوضى تفترس أمنه وسياسته واقتصاده، ولم يستطع ـ حتى الآن ـ أن يصنع الدولة العادلة القادرة على معالجة مشاكله وأزماته، لأن قوى الاحتلال لا تزال تفرض نفسها على مؤسساته، بالرغم مما يتحدث به البعض من امتلاك العراقيين ـ في بعض المواقع السياسية ـ لمصيرهم...

ولا يزال العنف الدامي القاسي يتحرك، والذي لا يسقط فيه جنود الاحتلال فحسب، بل يسقط فيه أيضاً الكثيرون من المدنيين العراقيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يعانون من الطريقة الأمريكية ـ الإسرائيلية في تدمير البيوت وتشريد الناس منها لسبب ولآخر...

إننا نعتقد أن الاحتلال شر مطلق لا خير فيه، وعلى الشعب العراقي أن يقف مع وحدته الوطنية، وأن يسعى لاكتشاف الأفق الذي يملك فيه أن يؤكد حريته، ويحرك أصالته، ويقرر مصيره بيده، وما ضاع حق وراءه مطالب.

لبنان: المسؤولون غارقون في خلافاتهم

وفي لبنان، لا تزال فوضى العلاقات بين أهل الحكم تفرض نفسها على كل الأوضاع الإدارية والسياسية والخدماتية، ما يجعل الطابع الذي يغلب على الوضع يتمثل في أنه بين كل اهتزاز واهتزاز هناك اهتزاز جديد... وهذا ما يؤكده انتشار البطالة ومشاكل الهجرة واختلال المواقع التربوية، ولا سيما في نطاق الجامعة الوطنية التي لا تجد الدراسة العميقة العلمية لرفع مستواها وتعزيز أجهزتها، ما قد يُخشى معه سقوطها تحت تأثير المشاكل الخانقة...

إننا في حاجة إلى دولة المؤسسة التي تخطط للسير إلى الأمام، ولا تعيدنا ـ كما هو الواقع الآن ـ إلى الوراء... إن الشعب في حاجة إلى من يمثل مستقبله في خطة الإنقاذ، ولكنه لا يزال يتخبط من خلال بعض الذين وضعوا أنفسهم في مواقع تمثيله من دون معنى.

لأن العدل أساس الرسالات وقوام العالم:
تعالوا لنتمسّك بالمنهج القرآني النبوي الإمامي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

العدل أساس الرسالات

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. يؤكد الله تعالى في هذه الآية الكريمة حقيقة رسالية تشمل كل الرسالات التي بعث الله بها رسله، وهي أن العدل هو أساس الرسالات، التي تهدف جميعاً إلى أن يأخذ الناس بأسباب العدل، لأن ذلك هو الأساس الذي يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار في العالم، ويلتقي فيه الناس على أساس احترام بعضهم لبعض في كل الحقوق المتبادلة بينهم، بحسب ما فرضه الله تعالى من الحقوق على عباده، مما يرتبط بحقه عليهم وبحقوقهم مع بعضهم بعضاً، من خلال الشريعة والالتزامات العقدية التي يتعاقدون فيها على إيجاد علاقة هنا وعلاقة هناك.

فالله تعالى يريد للناس كلهم أن يعطوا كل ذي حق حقه، وأن لا يظلم أحد حق أحد، فهذا هو الذي يجسّد احترام الإنسان للإنسان الآخر، وهو الذي يؤكد على بناء القاعدة التي تنتج كل ما يرتفع بالإنسان ويسمو بالإنسانية إلى التكامل، فإذا ما حفظ الناس حقوق بعضهم بعضاً، فإن ذلك سوف يشارك في تنمية قدراتهم وطاقاتهم وثرواتهم، ويحقق أيضاً النمو العلمي والعقلي والحضاري، لأن الناس عندما يحترمون حقوق بعضهم بعضاً، فسيشغلون أنفسهم بمسؤولياتهم في تنمية إنسانيتهم بالعلم والوعي والثقافة، ما يجعلهم في الموقع المتقدّم للحضارة، أما إذا أخلّوا بهذا المبدأ وظلموا بعضهم بعضاً، سواء ظلم الحاكم لشعبه، أو ظلم الشعب لحاكمه العادل، أو ظلم الناس بعضهم لبعض في خطّ التجارة والسياسة والأمن، أو ظلم الأب لأبنائه، أو ظلم الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، عندما يتحوّل المجتمع إلى حال من الظلم الفردي والاجتماعي، وسوف يُشغل عن كل تنمية وتقدم وانتفاع بالمستوى العلمي والعقلي والحضاري.

ولعلّ المشكلة في كثير من مواقعنا في الشرق كله أو في العالم الثالث كله، هي أننا مشغولون بمشكلة الظلم وكيف نتخفف منه، لأننا نعيش الظلم في بيوتنا وأسواقنا ونوادينا ومواقع الحكم فينا، وفي مواقع قوة الاستكبار العالمي على الشعوب المستضعفة، ولذلك نجد الناس مشغولين بالتخفّف من الظلم أو بمجاملة الظالم هنا وهناك، وهذا ما يجعل التخلّف هو المرض الذي يسود المجتمعات.

وقد ورد في تحليل الإمام عليّ (ع) للعدل قوله: "العدل أساس به قوام العالم"، أي أنّ العالم يقوم على أساس العدل، بحيث يسقط ويهتز ويتخلخل ويضعف إذا أخل الناس بالعدل، ويقول(ع): "إن العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه"، لأن الله تعالى أراد من خلال سلطته على عباده ورعايته لهم أن يأخذوا بأسباب العدل. ويقول عليّ (ع): "العدل يصلح البرية، صلاح الرعية العدل".

العدل بمعرفة الحقوق

وفي ضوء هذا، فإن مسألة العدل هي مسألة أن تكون مسلماً كما يريد الله تعالى لك أن تكون، لأن العدل هو أساس الإسلام، وهذا أمر لا بد أن نربي أنفسنا وأجيالنا عليه، ولا بد لنا لكي نأخذ بأسباب العدل، أن نعرف حقوق بعضنا على بعض، وما هو حق الله علينا، فلله علينا أن نعبده ونوحده ونطيعه من دون أن نشرك به شيئاً، وللحاكم على الرعية أن يعدل فيهم وأن يوفـّي لهم حقوقهم العامة مما يتصل بمسؤوليته في الحكم على مستوى القانون الذي يتساوون أمامه، وعلى مستوى التنفيذ في تحريك القانون في الواقع، والعدل بين الناس في الشؤون المالية بأن تعطي لكل إنسان ما له عليك من مال ولا تغمط أحداً حقه، والعدل في العلاقات الإنسانية هو أن تعرف ما هو حق الوالدين على الأولاد وحق الأولاد على والديهم، وما هو حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها، أن نعرف ما هي حقوق بعضنا بعضاً حتى لا نخطئ، وأن لا يعتبر أيّ إنسان أن قوته تبرر له أن يفرض نفسه على الآخر، لأن الشيطان قد يغري أصحاب القوة أن يظلموا الضعفاء من خلال هذه النزعة الاستكبارية التي يعيشها أقوياء المال والسلاح والعشيرة، وما إلى ذلك من مواقع القوة.

بذلك نستطيع أن نعيش في مجتمع يحكم بالعدل، وهذا ما أراده الله في خطابه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. وقد ورد عن رسول الله(ص) عندما سئل: من أعدل الناس؟ قال (ص): "أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه". وقد رأينا كيف أن الله تعالى أراد للناس أن يأخذوا بالعدل بعيداً من القرابة والصداقة والعداوة، فالعدل مغمض العينين أمام خصوصيات الناس الذين يستحقونه منك، فلا تنظر إلى نسب الإنسان وموقعه وثروته أو إلى قوته وقرابته أو صداقته، ولا تنظر في الجانب السلبي إلى عداوته، بل انظر ـ فقط ـ هل هو صاحب حق أم لا؟ هل الحق معه أم عليه؟ وهذا ما جاء عن عليّ (ع): "القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقه".

العدل مع العدو والصديق

وهذا ما جاء به القرآن الكريم، فالله تعالى يقول في العدل بالحكم والشهادة، أن تشهد بالحق حتى تركّز لصاحب الحق حقه، بقطع النظر عن المشهود له أو عليه، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ـ فلا تشهد لحساب قريبك أو صديقك، بل أن تشعر بأنك تشهد لحساب الله لإقامة العدل ـ ولو على أنفسكم ـ إذا كان الحق عليك فاشهد على نفسك ـ أو الوالدين ـ حتى والداك اللذان ربياك إذا كان عليهما الحق فقف أمام المحكمة وقل إن أبي أو أمي عليهما الحق لفلان أو فلانة ـ والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً}.

وفي آية أخرى، يركِّز الله تعالى على العدل حتى مع العدو، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله ـ ليكن كل قيامكم في كل تصرفاتكم لله تعالى ـ شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم ـ يمنعكم ـ شنآن ـ عداوة ـ قوم على ألاّ تعدلوا ـ فالحق لا يعرف عدواً ولا صديقاً ـ اعدلوا هو أقرب للتقوى ـ أن تعدل حتى مع عدوّك فهذا أقرب للالتزام بما أمر الله ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. وقد جاء في وصية الإمام عليّ (ع) لابنه الحسين (ع) يقول: "أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو"، فالإمام(ع) يؤكد للحسين(ع) ـ وهو رجل الحق والعدل ـ أن يكون عادلاً مع الصديق والعدو، وبأن يعطي الإنسان عدوّه حقه إذا كان له حق عنده.

وفي دعاء الإمام زين العابدين (ع) ـ وقيمة هذه الأدعية أنها ثروة تثـقّف الإنسان المؤمن ـ يقول (ع): "اللهم صلِّ على محمد وآله، وارزقني التحفظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في الدنيا والآخرة، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي"...

ويقول تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا}، أي ينبغي أن لا تعطِ إنساناً أكثر من حقه، ولا تنقص إنساناً ما يستحقه، لأن بعض الناس إذا أحبوا شخصاً رفعوه إلى السماء وهو لا يزال في الأرض، وإذا أبغضوا شخصاً أنزلوه إلى الحضيض وهو لا يزال مرتفعاً، وذلك نتيجة لعصبياتنا ومزاجياتنا. ويقول النبي(ص): "إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحق، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس بحق".

لو أن المسلمين أخذوا بهذا المنهج القرآني النبوي الإمامي، فكم تكون الحياة مستقرة وعزيزة وكريمة، وكم يكون المجتمع موحداً؟ ولكن مشكلتنا أننا نأخذ من القرآن رسمه، ومن الإسلام اسمه، ونتحرك بأخلاق الكفر والانحراف، والله تعالى يقول: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون}، وهذا ما نرجو الله تعالى أن يوفقنا للأخذ به، حتى نحصل على رضاه في الدنيا وفي الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في عباده وبلاده، وخذوا بأسباب العدل، وكونوا للظالم خصماً أياً كانت قوة الظالم وامتداده وسياسته، وللمظلوم عوناً، سواء أكان شخصاً أم شعباً أم أمة، فتلك هي دعوة الله تعالى؛ أن نقف ضد الظالمين، وأن لا نركن إليهم أو نساعدهم بما يقوّي ظلمهم ويدعم مواقعهم. علينا أن يكون رفض الظلم ديناً ندين به، وعقيدة نلتزمها، ومنهجاً نتحرك فيه، حتى يشعر الظالمون على المستوى الفردي والاجتماعي بأنهم محاصرون بالشعوب، لأنها لا تساعدهم وتعاونهم، بل تقاومهم بما يتوافر لديها من وسائل المقاومة..

ونحن لا نزال نعيش في هذه المرحلة من حياتنا ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، ولا بد لنا من أن تكون لنا ثقافة الواقع السياسي والأمني على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لأننا عندما نعي خططهم نعرف كيف نتفاداها ونواجهها، ولذلك فإننا لا نحاول أن نستهلك الكلام، بل نعمل على أن نحلّل الواقع لتكون لنا ثقافته التي تدفعنا إلى قوة الموقف، والقضية الفلسطينية في الواجهة، فماذا هناك؟

وثيقة جنيف: مماطلة وتضييع للوقت

تمر القضية الفلسطينية في صراعها مع العدو الصهيوني بتعقيدات سياسية وأمنية قد تخلط الأوراق، وتثير أكثر من جدل سياسي في الساحة الملتهبة، وتفتح الأوضاع على أكثر من متاهة في حركة المشكلة والحل...

فهناك لقاءات إسرائيلية ـ فلسطينية تتداخل فيها مواقع أمريكية وأوروبية في جنيف، من خلال الوثيقة المثيرة للجدل فلسطينياً، لأنها تتضمن تقديم التنازل عن حق العودة، وإسرائيلياً من خلال الصراعات الحزبية الداخلية، ما قد يثير أكثر من وضع داخلي ليس في مصلحة حكومة "الليكود"... في الوقت الذي تعطي الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر ـ الممتزج بالصفرة ـ لوزير خارجيتها للقاء واضعي وثيقة جنيف، ما أثار الموقف الصهيوني الذي بدأ يطرح شعار تنفيذ خريطة الطريق من دون أية آلية واقعية من جانب الكيان العبري، لأن الموقف لا يزال هو الضغط على الفلسطينيين ليتحملوا مسؤولية الخريطة، بتفكيك البنية التحتية للانتفاضة، وتقطيع أوصال المقاومة، وإيجاد حال أمنية خطيرة تتمثّل بتحريك الفتنة المسلحة في داخل الشعب الفلسطيني كشرط للمفاوضات حول الخريطة، بالتنسيق مع أمريكا...

وفي القاهرة، امتداد لحركة الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني من أجل هدنة جديدة تجمع الفصائل كلها مع السلطة، أو مشروع لقيادة فلسطينية موحدة قد لا تملك الكثير من الواقعية الحركية، وخصوصاً أن إسرائيل تعلن ـ من خلال مسؤوليها ـ عن رفضها الهدنة وإصرارها على شروطها التعجيزية، وتوتير الأجواء عبر الاستمرار في الاجتياحات والاعتقالات وعمليات الدهم والتدمير اليومية التي تؤدي إلى أكثر من مجزرة تقتل الأطفال والشيوخ والنساء، وتدمّر المواقع المدنية...

ويترافق ذلك مع التخطيط لبناء مستوطنات جديدة، ولا سيما في القدس، وذلك من أجل تعطيل أية هدنة أو تهدئة أو تحريك لمشروع الحل، لأن أميركا دخلت في حملة الانتخابات الرئاسية، التي لا يستطيع الرئيس المرشح أن يعارض أي مشروع إسرائيلي خلالها. ولذلك، فإن المطّلعين على أسرار الإدارة الأمريكية يؤكدون أنه ليست هناك فرصة في سياستها للحل في السنة المقبلة، وربما في ما بعدها، بل كل ما هناك هو تقطيع للوقت وتمييع للمشاريع وإلهاء المواقع السياسية باللقاءات والمؤتمرات الاحتفالية التي لا تحقق أية نتيجة عملية حاسمة.

فلسطين: التمسّك بالوحدة وبالانتفاضة

ولذلك، فإن المطلوب من الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المزيد من الحذر من خلفيات هذه الأوضاع، التي قد تكون وسيلة من وسائل إضعاف الموقف الفلسطيني وتمييع المشروع التحريري، وإيصال القضية إلى الخطة الصهيونية في إجهاض المستقبل الفلسطيني... إن هناك موقفين رئيسين ثابتين، هما الوحدة الفلسطينية التي لا يسمح معها لأحد بإضعافها، والانتفاضة المجاهدة التي لا بد من استمرارها في حركة المقاومة الجهادية والخطة السياسية، والتكامل ما بين مواقع الشعب الفلسطيني بكل فئاته السياسية والثقافية والأمنية والاجتماعية.

ومن جانب آخر، وليس بعيداً من هذا المناخ، فإن العلاقات الأمريكية مع سوريا ومع المنطقة كلها خاضعة للعلاقات مع إسرائيل، لأن سياسة الإدارة الأمريكية الاستراتيجية هي أن أية علاقة تفاوضية أو اقتصادية أو سياسية لأي دولة، لا بد أن تمر بعلاقتها مع الكيان الصهيوني، فإسرائيل هي مفتاح العلاقة مع أمريكا، حتى لو كان ذلك على حساب مصالحها، لأن الالتزام الأمريكي بالأمن الإسرائيلي المطلق، ربما كان أكثر من الالتزام بأمن أمريكا نفسها، ذلك أن جماعة إسرائيل في الإدارة ومجلسي النواب والشيوخ يفكرون بإسرائيل أولاً، ومن ثم بأمريكا ثانياً.

وهذا ما لاحظناه عند مناقشة مشروع قانون محاسبة سوريا الذي ينتظر توقيع الرئيس الأمريكي لاستكمال الضغط على سوريا ولبنان، لأن المسألة تخضع لشروط أمريكية عدة للضغط على المنطقة، منها:

ـ أولاً: التخلي عن أوراق القوة قبل معاودة المفاوضات على التسوية التي طرحت سوريا استعدادها للتفاوض عليها، مع ملاحظة أن أمريكا لا تضمن في طرحها عودة الأرض بالكامل...

ـ ثانياً: الحصول على مطالب سياسية وأمنية عدة قبل بداية الحوار، ما يعني تعطيله من حيث المبدأ...

ـ ثالثاً: رفض الأدوار الإقليمية في العراق، ودعوة دول الجوار الإقليمي إلى التخلي عن مصالحها لضمان النجاح الأمريكي...

ـ رابعاً: تنفيذ مخططات المحافظين الجدد الذين هم أكثر صهيونية من اليهود، في إبقاء سياسة الاهتزاز ونسف سياسة الاستقرار من خلال هذا الفريق الذي يسمّونه فلاسفة الفوضى...

وهذه هي السياسة الخطيرة، سواء أكانت سياسة أمريكية تستفيد منها إسرائيل، أم سياسة إسرائيلية تمارسها أمريكا... وهذا هو الذي يجعل شعوبنا العربية والإسلامية تفقد الثقة بأمريكا التي تتحرك أهدافها الإمبراطورية بما يتجاوز حقوق الشعوب ومصالحها الشرعية الدولية، مع أنها فشلت في إحراز نصر سياسي بعد النصر العسكري، كما كشفت التجربة في أفغانستان والعراق.

إننا نقول للشعب الأمريكي: إننا نحب الحرية كما تحبها، ونكره الإرهاب كما تكرهه، ولكننا نرفض مصادرة مصالحنا وقضايانا والتخطيط للسيطرة على أراضينا من قِبَل إسرائيل وأمريكا... لذلك، نريدكم أن تتبصروا بنتائج السياسة الخارجية والحملة العسكرية لإدارتكم، لأنها سوف تنتهي بكم إلى العزلة عن العالم، فالقوة لن تستطيع أن تصنع النصر في أبعاده الإنسانية.

العراق: الاحتلال شرٌ مطلق

وفي هذا الاتجاه، يبقى العراق الجرح النازف الذي لا تزال الفوضى تفترس أمنه وسياسته واقتصاده، ولم يستطع ـ حتى الآن ـ أن يصنع الدولة العادلة القادرة على معالجة مشاكله وأزماته، لأن قوى الاحتلال لا تزال تفرض نفسها على مؤسساته، بالرغم مما يتحدث به البعض من امتلاك العراقيين ـ في بعض المواقع السياسية ـ لمصيرهم...

ولا يزال العنف الدامي القاسي يتحرك، والذي لا يسقط فيه جنود الاحتلال فحسب، بل يسقط فيه أيضاً الكثيرون من المدنيين العراقيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يعانون من الطريقة الأمريكية ـ الإسرائيلية في تدمير البيوت وتشريد الناس منها لسبب ولآخر...

إننا نعتقد أن الاحتلال شر مطلق لا خير فيه، وعلى الشعب العراقي أن يقف مع وحدته الوطنية، وأن يسعى لاكتشاف الأفق الذي يملك فيه أن يؤكد حريته، ويحرك أصالته، ويقرر مصيره بيده، وما ضاع حق وراءه مطالب.

لبنان: المسؤولون غارقون في خلافاتهم

وفي لبنان، لا تزال فوضى العلاقات بين أهل الحكم تفرض نفسها على كل الأوضاع الإدارية والسياسية والخدماتية، ما يجعل الطابع الذي يغلب على الوضع يتمثل في أنه بين كل اهتزاز واهتزاز هناك اهتزاز جديد... وهذا ما يؤكده انتشار البطالة ومشاكل الهجرة واختلال المواقع التربوية، ولا سيما في نطاق الجامعة الوطنية التي لا تجد الدراسة العميقة العلمية لرفع مستواها وتعزيز أجهزتها، ما قد يُخشى معه سقوطها تحت تأثير المشاكل الخانقة...

إننا في حاجة إلى دولة المؤسسة التي تخطط للسير إلى الأمام، ولا تعيدنا ـ كما هو الواقع الآن ـ إلى الوراء... إن الشعب في حاجة إلى من يمثل مستقبله في خطة الإنقاذ، ولكنه لا يزال يتخبط من خلال بعض الذين وضعوا أنفسهم في مواقع تمثيله من دون معنى.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير