من دروس معركة بدر: النصـر باستيفـاء شروطـه

من دروس معركة بدر: النصـر باستيفـاء شروطـه

من دروس معركة بدر: النصـر باستيفـاء شروطـه


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

هذا اليوم ـ السابع عشر من شهر رمضان ـ تمرّ علينا ذكرى معركة بدر، هذه المعركة التي خاضها المسلمون بقيادة النبي(ص) ضد المشركين من قريش، وانتصروا فيها عليهم نصراً مؤزّراً، ما جعل منطقة شبه الجزيرة العربية تشعر بوجود قوة جديدة، بعد أن كانت قريش تستفرد بهذه القوة.

بدر: مقدمات المواجهة

وقصة هذه المعركة، هي أن النبي(ص) خطط لتحدي قريش اقتصادياً، لأن قريشاً كانت لها رحلتان، رحلة إلى الشام، ورحلة إلى اليمن، وكان القرشيون يشاركون في هذه الرحلة، فيدفع كل واحد منهم ما يريد من مال من أجل تجارته، أو من أجل استيراد البضائع من الشام أو من اليمن. وبهذا، فإن القافلة التي تتحرك من مكة إلى هذا البلد أو ذاك، تعتبر جامعة لأموال قريش، بحيث يتأثر بها كل واحد من القرشيين سلباً أو إيجاباً. وقد أراد النبي(ص) أن يتعرّض لهذه القافلة ويصادرها، لا رغبةً بالمال، ولكن من أجل قطع الطريق على هذا الوضع الاقتصادي الحيوي، لإضعاف قريش رداً على ما مارسوه ضد المسلمين.

وهكذا أرسل النبي(ص) جماعة من المسلمين ليعترضوا القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، فأحسّ أبو سفيان بالخطر يتهدّد القافلة، فأرسل إلى قريش بكل شخصياتها يستغيث بهم لحمايتها، واجتمعت قريش بكل قياداتها، وهيّأوا العدّة والعديد لحماية القافلة ولحرب النبي(ص)، واستطاع أبو سفيان أن يتّخذ جانب البحر، في الوقت الذي ضرب المسلمون الحصار على البر، فنجا بالقافلة، ولكن القرشيين كانوا قد استنفروا كل عدّتهم وعديدهم، بحيث بلغ عددهم ما يقارب الألف، وأخرجوا معهم الخيول والإبل والطبول والدفوف والنساء، تماماً كما هو خروج المنتصر، لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم في مركز القوة، والمسلمين في مركز الضعف.

الرساليون: ثباتٌ في الموقف

وهنا واجه النبي(ص) المسألة في حدث جديد، فجمع أصحابه من المهاجرين والأنصار، واستشارهم في العمل: هل ندخل في حرب مع قريش التي استعدت لحرب المسلمين؟! واقترب القرشيون من معسكر المسلمين، واختلف المسلمون، فقال بعض المهاجرين، وهو يعيش في نفسه حالة الشعور بقوة قريش: يا رسول الله، هذه قريش جاءت بخيلائها وأفلاذ أكبادها، وإنها ما ذلّت منذ عزّت. ثم قام المقداد بن عمر (رض) فقال: "يا رسول الله، إمضِ لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل نقول لك إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه". فدعا له النبي(ص) بالخير، ثم قال(ص): "أشيروا عليّ أيها الناس" ـ وكان يقصد الأنصار الذين بايعوه على حمايته كما يحمون أبناءهم ونساءهم في المدينة، والمعركة ستحصل في خارجها ـ فقال له سعد بن معّاذ: "لكأنك تريدنا يا رسول الله؟"، فقال(ص): "أجل"، فقال: "لقد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا... فامضِ يا رسول الله لما أُمرت، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخضناه معك... وما نكره أن تلقى العدو بنا غداً، إنا لصبّر عند الحرب، صدّق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله".

القرآن يصوّر الحالة النفسية للمؤمنين

وقد أشار الله تعالى إلى هذا الجو الذي عاشه المسلمون آنذاك قبل المعركة وبعدها، قال تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ـ وهنا نلاحظ أن القرآن الكريم يتحدث عن نقاط الضعف عند المسلمين، تماماً كما يتحدث في مواضع أخرى عن نقاط القوة، وهذا ما يجب أن نتعلّمه، لأن من المعروف في كل أوضاعنا الدينية أو السياسية أو العسكرية، أننا لا نتحدث عن نقاط ضعفنا. القرآن الكريم أراد للمسلمين وللمؤمنين أن يكونوا واقعيين، وأن يعترفوا بضعفهم في مواقع الضعف، وأن ينطلقوا بنقاط قوتهم إذا وُجدت ـ يجادلونك في الحق ـ أن قريش قوية عظيمة ونحن لا نقدر عليها ـ بعد ما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ـ حالتهم النفسية كالذي يسيرون به إلى الإعدام ـ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ـ إما أن تواجهوا الغنيمة بالسيطرة على القافلة، وإما أن تواجهوا الحرب مع قريش ـ وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ـ وهي كناية عن الحرب ـ ويريد الله أن يُحقّ الحق بكلماته ـ القضية ليست الحصول على الغنيمة، بل إن الله يريد أن تكون للمسلمين قوة ـ ويقطع دابر الكافرين} (الأنفال:5-7).

ويصوّر الله تعالى أيضاً الحالة النفسية للمؤمنين بعد أن قرر النبي(ص) المعركة، لأن المسلمين كانوا يواجهون جيشاً مزوّداً بكل عناصر القوة، في غياب هذه التجهيزات عندهم: {إذ تستغيثون ربكم ـ عندما رأيتم أنكم لا تملكون القوّة، بدأتم بالاستغاثة بالله ليمنحكم القوة على مواجهة هذا التحدي الكبير. ويروى عن ابن عباس، أنه لما كان يوم بدر، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره. واستغاث المسلمون، فنزلت الآية، وقيل إن النبي(ص) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين، استقبل القبلة، وقال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، فما زال ينادي ربه، مادّاً يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأنزل الله هذه الآية ـ فاستجاب لكم ـ والله أراد أن يعطيهم قوة روحية معنوية بالإيحاء بأن الملائكة معهم ـ أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين* وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ـ ليزول هذا القلق النفسي ـ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم* إذ يغشّيكم النعاس أمنةً منه ـ الله ألقى عليهم النعاس ليرتاحوا من عناء السفر، وليشعروا بالأمن والراحة ـ وينزل عليكم من السماءً ماء ليطهّركم به ـ الظاهر أن بعض هؤلاء أُصيبوا بالاحتلام، فأنزل الله عليهم المطر ليغتسلوا ـ ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام ـ لأن المطر الذي نزل وقتذاك كان رذاذاً (خفيفاً)، حتى يثبت الأرض ولا تتحوّل إلى وحل ـ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا ـ هيِّئوا لهم أجواء الشعور بالأمن والسكينة ـ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ـ الله جعل المشركين يشعرون بالخوف والرعب من المسلمين على الرغم من قلتهم وضعفهم ـ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان* ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب* ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} (الأنفال:9-14).

المسلمون يحققون النصر

وهكذا انطلقت المعركة وانتصر المسلمون، ويُقال في السيرة، إن فارس معركة بدر الأول والأقوى كان عليّ بن أبي طالب(ع). والملحوظ أنه لم يكن قد خاض معركةً أو حرباً من قبل، وكان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن قوة الإيمان هي التي تعطي الإنسان قوة الموقف وصلابة التحدي، حتى قيل إن علياً(ع) قتل نصف المشركين الذين قُتلوا، وشارك المسلمين في قتل البقية، وفي الوقت نفسه، كانت عينه على رسول الله(ص)، فكان يترك المعركة ليتفقده، وقد روي عنه أنه كان يأتي إلى رسول الله فيجده ساجداً، وهو يقول: "يا عليّ يا عظيم"، وانتصر المسلمون على الرغم من قلتهم وضعفهم: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} (آل عمران:123)، واستطاع المسلمون آنذاك أن يثبتوا أنهم القوة الثانية في منطقة شبه الجزيرة العربية.

وأنزل الله تعالى على رسوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ـ بإلقاء الرعب في نفوس المشركين، وإفاضة حالة معنوية على المسلمين حصلوا من خلالها على قوة الموقف ـ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم* ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين* إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين} (الأنفال:17-19).

هذه معركة بدر التي خاضها المسلمون بقيادة النبي(ص) في شهر رمضان، وعاشوا القوة الروحية والعسكرية، وانطلقوا ليأخذوا بأسباب القوة. ونحن عندما نستعيد معركة بدر في هذا الواقع الذي يقف فيه المستكبرون ضد المسلمين، تماماً كما وقف المستكبرون من قريش ضد المسلمين مع النبي(ص)، فإن علينا أن نأخذ منها الدرس والعبرة؛ أن لا نشعر بالضعف، بل أن نأخذ بأسباب القوة، حتى نستطيع الانتصار على قوى الكفر والاستكبار، والله تعالى قال: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم} (محمّد:7).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في أموركم، وفي مواجهة كل التحديات التي يوجهها المستكبرون ضدكم، وقفوا صفاً واحداً في وحدة إسلامية شاملة، يدعم فيها المسلمون بعضهم بعضاً، ويهتم المسلمون بأمورهم في كل قضاياهم الصغيرة والكبيرة، لأن المعركة بيننا وبين المستكبرين طويلة طويلة، لأنهم يعملون على أن لا تقوم للإسلام والمسلمين قائمة، وعلينا أن نعمل لتكون القوة والعزة لنا، وهذا هو التحدي الكبير الذي لا بد لنا فيه من صنع القوة الروحية والسياسية والعسكرية وما إلى ذلك، فماذا هناك؟

محاولات الإجهاز على فكرة الدولة الفلسطينية

لا تزال الاعتقالات تتتابع في فلسطين، في الوقت الذي يوقف الإسرائيليون الاتصالات مع السلطة الفلسطينية للبحث في القضايا الأمنية والسياسية، أو لإعداد اللقاء مع شارون الذي يحاول إذلال قيادة السلطة بالتسويف والإهمال، باعتبار أنها لا تمثّل ـ عنده ـ موقعاً سياسياً للتفاوض، بل هي مجرد ملحق للضغط الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تنطلق بعض الأصوات العربية لإعلان الدولة الفلسطينية في غزة، والاستعداد في الضفة الغربية للالتحاق بالأردن كجزء من كونفدرالية معه، لأن الوضع السياسي الدولي ـ حسب قول مسؤول أردني رفيع المستوى لأبي مازن ـ لا يسير لمصلحة الفلسطينيين حتى على مستوى تنفيذ خارطة الطريق، ما يفرض على السلطة الفلسطينية الانسجام مع ذلك بهذه الطريقة، وربما كانت هذه الخطة موقع دراسة لدى الإدارة الأمريكية التي تعمل من أجل تنفيذ استراتيجية شارون لتفادي فكرة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في الـ67.

وتستمر إسرائيل في التضييق على الفلسطينيين في المعابر، والتخطيط لفصل مسار الفلسطينيين في الضفة عن مسار المستوطنين، بما يرهق الأوضاع الفلسطينية. وأمام هذا العبث الصهيوني في الوضع الفلسطيني بالمزيد من الإرباك والتمزيق، فإننا لا نجد في زيارة محمود عباس للبيت الأبيض أية مبادرات جديدة لمصلحة الفلسطينيين، لأن أمريكا لا تتقدّم خطوة واحدة للضغط على إسرائيل لحساب الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ولإجراء الانتخابات التي تشارك فيها كل الأطياف الفلسطينية بما في ذلك حماس.

إنّ المشكلة الحاضرة الآن هي التخطيط العربي ـ الإسرائيلي ـ الأمريكي، وربما الأوروبي، لإدخال القضية الفلسطينية في المتاهات السياسية والأمنية بما لا يحقق للشعب الفلسطيني أية فرصة للحرية والاستقلال، لأن الخطة تعمل لتفرض عليه أن يقبل بما يقدّمه له التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي من دون اعتراض، لأن الأمن الإسرائيلي في نظر أمريكا فوق كل أمن.

محاولات إخضاع المنطقة لإرادة أمريكا

إن هذا المشهد الفلسطيني يلتقي بالخطة الأمريكية للمنطقة التي يُراد لها الخضوع لإرادة الإدارة الأمريكية في فرض الشروط المهينة للواقع العربي، لأنه معنيّ بتنفيذ كل ما يحقق لأمريكا خطوطها السياسية في الأمن الإسرائيلي المطلق، الذي يُحاول نزع سلاح المقاومة في لبنان، والتضييق على السلاح الفلسطيني، ويعمل على ممارسة ضغط دولي ـ من خلال التحرك الأمريكي في مجلس الأمن ـ على سوريا لتخضع للإملاءات الأمريكية في التضييق على الفصائل الفلسطينية وحماية الاحتلال الأمريكي في العراق، إضافة إلى تنفيذ الخطة الأمريكية في لبنان، هذا إلى جانب تطويق الأوضاع العربية والإسلامية بالتهديد بالعقوبات في مجلس الأمن الخاضع للإدارة الأمريكية الحالية، إذا لم يخضع الجميع للشروط المفروضة لحساب مصالحها، وخصوصاً المشروع النووي الإيراني السلمي.

إنها السياسة الأمريكية الممتدة في طول المنطقة وعرضها، كمظهر للإمبراطورية التي تعمل على ابتزاز الشعوب في ثرواتها وسياستها وأمنها، ليبقى العالم خاضعاً لما تريده جملةً وتفصيلاً. وهذا هو ما ينبغي للعالم أن ينتبه إليه ليعرف كيف يحمي نفسه من ذلك كله.

العراق في دوامة الاحتلال

أما في العراق، فلا تزال الدوّامة الداخلية خاضعة للاحتلال في خطواته ومفاعيله، حتى بعد الاستفتاء الذي عبّر فيه الشعب عن إرادة حرّة توحي للمحتل بأنها قادرة على أن تقول كلمتها في مستقبل البلد من دون أية هيمنة خارجية، وأن الناس قادرون على حماية أمنهم بشكل مستقل من دون حاجة لقوات الاحتلال، لأن الاحتلال هو الذي خلق المشكلة، وهو الذي ساهم في الخلل الأمني، وهو الذي أفقر البلاد والعباد، وهو الذي لم يمنح القوات العراقية وسائل القوة التي تستطيع بواسطتها أن تحقق الأمن للمواطنين، ليبقى الناس مشدودين إلى أمن المحتل.

إننا نعتقد أن على الشعب أن يؤكد للاحتلال بالصوت الوطني الواحد، أن عليه الانسحاب من العراق ليقرر العراقيون مصيرهم بأنفسهم، وأن أية قيادة تشرّع لبقاء المحتل هي قيادة غير شرعية وغير وطنية. ومن جانب آخر، فإن على العرب في تدخّلهم الجديد في العراق، أن لا يُدخلوه في متاهاتهم السائرة في الخط السياسي الأمريكي لحماية الاحتلال بطريقة وبأخرى.

لمحاكمة السياسة الأمريكية

أما محاكمة طاغية العراق وأعوانه ونظامه، فإننا نتصوّر أنه لا بد من أن تتوجّه المحاكمة إلى السياسة الأمريكية التي وظّفت الطاغية ونظامه للعبث بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي العراقي، وإدخال العراق في أكثر من حرب، ولا سيما ضد إيران والكويت، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية للواقع في داخله، ثم منحته المساعدة بعد خروجه من الكويت للقضاء على الانتفاضة الشعبية التحريرية، لأنها كانت تخطط للقضاء عليه بعد انتهاء وظيفته، للإيحاء للعراقيين بأنها جاءت لتأخذ دور المنقذ من النظام الطاغي، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها جاءت تحت تأثير أكذوبة كبرى لاحتلال البلد والسيطرة على مقدّراته، ولاعتباره جسراً للانتقال منه إلى المنطقة حسب تصريح قادتها في الإدارة. أما حديثها عن الديمقراطية، فهو لحماية استراتيجيتها لا لحماية الشعب العراقي، كما نلاحظ ذلك في خطّتها السياسية وطريقة تعاملها في العبث بالمقدرات الحيوية لأكثر من منطقة.

لبنان: الإدمان على الوصايات الخارجية

أما لبنان، فقد انتقل نشاطه السياسي إلى فرنسا التي تدير الواقع اللبناني بكل تفاصيله، بالوكالة عن أمريكا التي تطوف وزيرة خارجيتها لترتيب الوضع الداخلي والخارجي في لبنان، ولتحويله ورقةً للضغط على سوريا لإخضاعها لشروطها التعجيزية التي تصادر كل قضاياها السياسية القومية. لقد انتقل المسافرون من السفر إلى دمشق للسفر إلى باريس، وربما إلى واشنطن، لترتيب أوضاعهم، ولأخذ التعليمات من أجل تنفيذ الخطة المرسومة للمستقبل اللبناني، لأن الخطوط الداخلية الوطنية من خلال النادي السياسي، قد أدمنت الانفتاح على الوصايات الخارجية.

إن المعركة التي يخوضها القرار 1559 من خلال الأمم المتحدة التي خضعت للإيحاء الإسرائيلي، والتنفيذ الأمريكي، والتحريك الفرنسي أو الأوروبي، تتحرك الآن أو ستتحرك في المستقبل القريب للضغط على سلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني لحساب الأمن الإسرائيلي، تحت عناوين لبنانية وطنية، بهدف إرباك العلاقات السياسية اللبنانية بين فريق يدعم القرار وفريق يعارضه، انتهاءً بفريق يتحرك بازدواجية نفاقية تطلق بعض كلمات الحق التي يُراد بها الباطل.

إننا لا نخشى على لبنان من مشكلة طائفية أو حرب أهلية، ولكننا نخاف عليه من الخلل في مسألة الوحدة الوطنية على مستوى الارتباك السياسي. إننا نقول للبنانيين: إن عليكم أن تتماسكوا أكثر في الداخل، وأن تنظروا إلى ما هو أبعد من ساحتكم بكثير، لأن هذا التداخل الإقليمي والدولي الذي جعل من ساحتكم ساحة تجاذب دولي، قد يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وقد يجعل منكم وقوداً وحطباً لنار أُشعلت لحساب الآخرين لا لسواد عيونكم.

إننا نريد لبنان الوطن والشعب والمستقبل الحرّ السيد، لا لبنان الورقة التي أدمنها بعض اللبنانيين. إننا نريد لبناننا لا لبنان الآخرين.

من دروس معركة بدر: النصـر باستيفـاء شروطـه


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

هذا اليوم ـ السابع عشر من شهر رمضان ـ تمرّ علينا ذكرى معركة بدر، هذه المعركة التي خاضها المسلمون بقيادة النبي(ص) ضد المشركين من قريش، وانتصروا فيها عليهم نصراً مؤزّراً، ما جعل منطقة شبه الجزيرة العربية تشعر بوجود قوة جديدة، بعد أن كانت قريش تستفرد بهذه القوة.

بدر: مقدمات المواجهة

وقصة هذه المعركة، هي أن النبي(ص) خطط لتحدي قريش اقتصادياً، لأن قريشاً كانت لها رحلتان، رحلة إلى الشام، ورحلة إلى اليمن، وكان القرشيون يشاركون في هذه الرحلة، فيدفع كل واحد منهم ما يريد من مال من أجل تجارته، أو من أجل استيراد البضائع من الشام أو من اليمن. وبهذا، فإن القافلة التي تتحرك من مكة إلى هذا البلد أو ذاك، تعتبر جامعة لأموال قريش، بحيث يتأثر بها كل واحد من القرشيين سلباً أو إيجاباً. وقد أراد النبي(ص) أن يتعرّض لهذه القافلة ويصادرها، لا رغبةً بالمال، ولكن من أجل قطع الطريق على هذا الوضع الاقتصادي الحيوي، لإضعاف قريش رداً على ما مارسوه ضد المسلمين.

وهكذا أرسل النبي(ص) جماعة من المسلمين ليعترضوا القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، فأحسّ أبو سفيان بالخطر يتهدّد القافلة، فأرسل إلى قريش بكل شخصياتها يستغيث بهم لحمايتها، واجتمعت قريش بكل قياداتها، وهيّأوا العدّة والعديد لحماية القافلة ولحرب النبي(ص)، واستطاع أبو سفيان أن يتّخذ جانب البحر، في الوقت الذي ضرب المسلمون الحصار على البر، فنجا بالقافلة، ولكن القرشيين كانوا قد استنفروا كل عدّتهم وعديدهم، بحيث بلغ عددهم ما يقارب الألف، وأخرجوا معهم الخيول والإبل والطبول والدفوف والنساء، تماماً كما هو خروج المنتصر، لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم في مركز القوة، والمسلمين في مركز الضعف.

الرساليون: ثباتٌ في الموقف

وهنا واجه النبي(ص) المسألة في حدث جديد، فجمع أصحابه من المهاجرين والأنصار، واستشارهم في العمل: هل ندخل في حرب مع قريش التي استعدت لحرب المسلمين؟! واقترب القرشيون من معسكر المسلمين، واختلف المسلمون، فقال بعض المهاجرين، وهو يعيش في نفسه حالة الشعور بقوة قريش: يا رسول الله، هذه قريش جاءت بخيلائها وأفلاذ أكبادها، وإنها ما ذلّت منذ عزّت. ثم قام المقداد بن عمر (رض) فقال: "يا رسول الله، إمضِ لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل نقول لك إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه". فدعا له النبي(ص) بالخير، ثم قال(ص): "أشيروا عليّ أيها الناس" ـ وكان يقصد الأنصار الذين بايعوه على حمايته كما يحمون أبناءهم ونساءهم في المدينة، والمعركة ستحصل في خارجها ـ فقال له سعد بن معّاذ: "لكأنك تريدنا يا رسول الله؟"، فقال(ص): "أجل"، فقال: "لقد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا... فامضِ يا رسول الله لما أُمرت، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخضناه معك... وما نكره أن تلقى العدو بنا غداً، إنا لصبّر عند الحرب، صدّق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله".

القرآن يصوّر الحالة النفسية للمؤمنين

وقد أشار الله تعالى إلى هذا الجو الذي عاشه المسلمون آنذاك قبل المعركة وبعدها، قال تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ـ وهنا نلاحظ أن القرآن الكريم يتحدث عن نقاط الضعف عند المسلمين، تماماً كما يتحدث في مواضع أخرى عن نقاط القوة، وهذا ما يجب أن نتعلّمه، لأن من المعروف في كل أوضاعنا الدينية أو السياسية أو العسكرية، أننا لا نتحدث عن نقاط ضعفنا. القرآن الكريم أراد للمسلمين وللمؤمنين أن يكونوا واقعيين، وأن يعترفوا بضعفهم في مواقع الضعف، وأن ينطلقوا بنقاط قوتهم إذا وُجدت ـ يجادلونك في الحق ـ أن قريش قوية عظيمة ونحن لا نقدر عليها ـ بعد ما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ـ حالتهم النفسية كالذي يسيرون به إلى الإعدام ـ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ـ إما أن تواجهوا الغنيمة بالسيطرة على القافلة، وإما أن تواجهوا الحرب مع قريش ـ وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ـ وهي كناية عن الحرب ـ ويريد الله أن يُحقّ الحق بكلماته ـ القضية ليست الحصول على الغنيمة، بل إن الله يريد أن تكون للمسلمين قوة ـ ويقطع دابر الكافرين} (الأنفال:5-7).

ويصوّر الله تعالى أيضاً الحالة النفسية للمؤمنين بعد أن قرر النبي(ص) المعركة، لأن المسلمين كانوا يواجهون جيشاً مزوّداً بكل عناصر القوة، في غياب هذه التجهيزات عندهم: {إذ تستغيثون ربكم ـ عندما رأيتم أنكم لا تملكون القوّة، بدأتم بالاستغاثة بالله ليمنحكم القوة على مواجهة هذا التحدي الكبير. ويروى عن ابن عباس، أنه لما كان يوم بدر، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره. واستغاث المسلمون، فنزلت الآية، وقيل إن النبي(ص) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين، استقبل القبلة، وقال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، فما زال ينادي ربه، مادّاً يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأنزل الله هذه الآية ـ فاستجاب لكم ـ والله أراد أن يعطيهم قوة روحية معنوية بالإيحاء بأن الملائكة معهم ـ أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين* وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ـ ليزول هذا القلق النفسي ـ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم* إذ يغشّيكم النعاس أمنةً منه ـ الله ألقى عليهم النعاس ليرتاحوا من عناء السفر، وليشعروا بالأمن والراحة ـ وينزل عليكم من السماءً ماء ليطهّركم به ـ الظاهر أن بعض هؤلاء أُصيبوا بالاحتلام، فأنزل الله عليهم المطر ليغتسلوا ـ ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام ـ لأن المطر الذي نزل وقتذاك كان رذاذاً (خفيفاً)، حتى يثبت الأرض ولا تتحوّل إلى وحل ـ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا ـ هيِّئوا لهم أجواء الشعور بالأمن والسكينة ـ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ـ الله جعل المشركين يشعرون بالخوف والرعب من المسلمين على الرغم من قلتهم وضعفهم ـ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان* ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب* ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} (الأنفال:9-14).

المسلمون يحققون النصر

وهكذا انطلقت المعركة وانتصر المسلمون، ويُقال في السيرة، إن فارس معركة بدر الأول والأقوى كان عليّ بن أبي طالب(ع). والملحوظ أنه لم يكن قد خاض معركةً أو حرباً من قبل، وكان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن قوة الإيمان هي التي تعطي الإنسان قوة الموقف وصلابة التحدي، حتى قيل إن علياً(ع) قتل نصف المشركين الذين قُتلوا، وشارك المسلمين في قتل البقية، وفي الوقت نفسه، كانت عينه على رسول الله(ص)، فكان يترك المعركة ليتفقده، وقد روي عنه أنه كان يأتي إلى رسول الله فيجده ساجداً، وهو يقول: "يا عليّ يا عظيم"، وانتصر المسلمون على الرغم من قلتهم وضعفهم: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} (آل عمران:123)، واستطاع المسلمون آنذاك أن يثبتوا أنهم القوة الثانية في منطقة شبه الجزيرة العربية.

وأنزل الله تعالى على رسوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ـ بإلقاء الرعب في نفوس المشركين، وإفاضة حالة معنوية على المسلمين حصلوا من خلالها على قوة الموقف ـ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم* ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين* إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين} (الأنفال:17-19).

هذه معركة بدر التي خاضها المسلمون بقيادة النبي(ص) في شهر رمضان، وعاشوا القوة الروحية والعسكرية، وانطلقوا ليأخذوا بأسباب القوة. ونحن عندما نستعيد معركة بدر في هذا الواقع الذي يقف فيه المستكبرون ضد المسلمين، تماماً كما وقف المستكبرون من قريش ضد المسلمين مع النبي(ص)، فإن علينا أن نأخذ منها الدرس والعبرة؛ أن لا نشعر بالضعف، بل أن نأخذ بأسباب القوة، حتى نستطيع الانتصار على قوى الكفر والاستكبار، والله تعالى قال: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم} (محمّد:7).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في أموركم، وفي مواجهة كل التحديات التي يوجهها المستكبرون ضدكم، وقفوا صفاً واحداً في وحدة إسلامية شاملة، يدعم فيها المسلمون بعضهم بعضاً، ويهتم المسلمون بأمورهم في كل قضاياهم الصغيرة والكبيرة، لأن المعركة بيننا وبين المستكبرين طويلة طويلة، لأنهم يعملون على أن لا تقوم للإسلام والمسلمين قائمة، وعلينا أن نعمل لتكون القوة والعزة لنا، وهذا هو التحدي الكبير الذي لا بد لنا فيه من صنع القوة الروحية والسياسية والعسكرية وما إلى ذلك، فماذا هناك؟

محاولات الإجهاز على فكرة الدولة الفلسطينية

لا تزال الاعتقالات تتتابع في فلسطين، في الوقت الذي يوقف الإسرائيليون الاتصالات مع السلطة الفلسطينية للبحث في القضايا الأمنية والسياسية، أو لإعداد اللقاء مع شارون الذي يحاول إذلال قيادة السلطة بالتسويف والإهمال، باعتبار أنها لا تمثّل ـ عنده ـ موقعاً سياسياً للتفاوض، بل هي مجرد ملحق للضغط الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تنطلق بعض الأصوات العربية لإعلان الدولة الفلسطينية في غزة، والاستعداد في الضفة الغربية للالتحاق بالأردن كجزء من كونفدرالية معه، لأن الوضع السياسي الدولي ـ حسب قول مسؤول أردني رفيع المستوى لأبي مازن ـ لا يسير لمصلحة الفلسطينيين حتى على مستوى تنفيذ خارطة الطريق، ما يفرض على السلطة الفلسطينية الانسجام مع ذلك بهذه الطريقة، وربما كانت هذه الخطة موقع دراسة لدى الإدارة الأمريكية التي تعمل من أجل تنفيذ استراتيجية شارون لتفادي فكرة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في الـ67.

وتستمر إسرائيل في التضييق على الفلسطينيين في المعابر، والتخطيط لفصل مسار الفلسطينيين في الضفة عن مسار المستوطنين، بما يرهق الأوضاع الفلسطينية. وأمام هذا العبث الصهيوني في الوضع الفلسطيني بالمزيد من الإرباك والتمزيق، فإننا لا نجد في زيارة محمود عباس للبيت الأبيض أية مبادرات جديدة لمصلحة الفلسطينيين، لأن أمريكا لا تتقدّم خطوة واحدة للضغط على إسرائيل لحساب الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ولإجراء الانتخابات التي تشارك فيها كل الأطياف الفلسطينية بما في ذلك حماس.

إنّ المشكلة الحاضرة الآن هي التخطيط العربي ـ الإسرائيلي ـ الأمريكي، وربما الأوروبي، لإدخال القضية الفلسطينية في المتاهات السياسية والأمنية بما لا يحقق للشعب الفلسطيني أية فرصة للحرية والاستقلال، لأن الخطة تعمل لتفرض عليه أن يقبل بما يقدّمه له التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي من دون اعتراض، لأن الأمن الإسرائيلي في نظر أمريكا فوق كل أمن.

محاولات إخضاع المنطقة لإرادة أمريكا

إن هذا المشهد الفلسطيني يلتقي بالخطة الأمريكية للمنطقة التي يُراد لها الخضوع لإرادة الإدارة الأمريكية في فرض الشروط المهينة للواقع العربي، لأنه معنيّ بتنفيذ كل ما يحقق لأمريكا خطوطها السياسية في الأمن الإسرائيلي المطلق، الذي يُحاول نزع سلاح المقاومة في لبنان، والتضييق على السلاح الفلسطيني، ويعمل على ممارسة ضغط دولي ـ من خلال التحرك الأمريكي في مجلس الأمن ـ على سوريا لتخضع للإملاءات الأمريكية في التضييق على الفصائل الفلسطينية وحماية الاحتلال الأمريكي في العراق، إضافة إلى تنفيذ الخطة الأمريكية في لبنان، هذا إلى جانب تطويق الأوضاع العربية والإسلامية بالتهديد بالعقوبات في مجلس الأمن الخاضع للإدارة الأمريكية الحالية، إذا لم يخضع الجميع للشروط المفروضة لحساب مصالحها، وخصوصاً المشروع النووي الإيراني السلمي.

إنها السياسة الأمريكية الممتدة في طول المنطقة وعرضها، كمظهر للإمبراطورية التي تعمل على ابتزاز الشعوب في ثرواتها وسياستها وأمنها، ليبقى العالم خاضعاً لما تريده جملةً وتفصيلاً. وهذا هو ما ينبغي للعالم أن ينتبه إليه ليعرف كيف يحمي نفسه من ذلك كله.

العراق في دوامة الاحتلال

أما في العراق، فلا تزال الدوّامة الداخلية خاضعة للاحتلال في خطواته ومفاعيله، حتى بعد الاستفتاء الذي عبّر فيه الشعب عن إرادة حرّة توحي للمحتل بأنها قادرة على أن تقول كلمتها في مستقبل البلد من دون أية هيمنة خارجية، وأن الناس قادرون على حماية أمنهم بشكل مستقل من دون حاجة لقوات الاحتلال، لأن الاحتلال هو الذي خلق المشكلة، وهو الذي ساهم في الخلل الأمني، وهو الذي أفقر البلاد والعباد، وهو الذي لم يمنح القوات العراقية وسائل القوة التي تستطيع بواسطتها أن تحقق الأمن للمواطنين، ليبقى الناس مشدودين إلى أمن المحتل.

إننا نعتقد أن على الشعب أن يؤكد للاحتلال بالصوت الوطني الواحد، أن عليه الانسحاب من العراق ليقرر العراقيون مصيرهم بأنفسهم، وأن أية قيادة تشرّع لبقاء المحتل هي قيادة غير شرعية وغير وطنية. ومن جانب آخر، فإن على العرب في تدخّلهم الجديد في العراق، أن لا يُدخلوه في متاهاتهم السائرة في الخط السياسي الأمريكي لحماية الاحتلال بطريقة وبأخرى.

لمحاكمة السياسة الأمريكية

أما محاكمة طاغية العراق وأعوانه ونظامه، فإننا نتصوّر أنه لا بد من أن تتوجّه المحاكمة إلى السياسة الأمريكية التي وظّفت الطاغية ونظامه للعبث بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي العراقي، وإدخال العراق في أكثر من حرب، ولا سيما ضد إيران والكويت، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية للواقع في داخله، ثم منحته المساعدة بعد خروجه من الكويت للقضاء على الانتفاضة الشعبية التحريرية، لأنها كانت تخطط للقضاء عليه بعد انتهاء وظيفته، للإيحاء للعراقيين بأنها جاءت لتأخذ دور المنقذ من النظام الطاغي، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها جاءت تحت تأثير أكذوبة كبرى لاحتلال البلد والسيطرة على مقدّراته، ولاعتباره جسراً للانتقال منه إلى المنطقة حسب تصريح قادتها في الإدارة. أما حديثها عن الديمقراطية، فهو لحماية استراتيجيتها لا لحماية الشعب العراقي، كما نلاحظ ذلك في خطّتها السياسية وطريقة تعاملها في العبث بالمقدرات الحيوية لأكثر من منطقة.

لبنان: الإدمان على الوصايات الخارجية

أما لبنان، فقد انتقل نشاطه السياسي إلى فرنسا التي تدير الواقع اللبناني بكل تفاصيله، بالوكالة عن أمريكا التي تطوف وزيرة خارجيتها لترتيب الوضع الداخلي والخارجي في لبنان، ولتحويله ورقةً للضغط على سوريا لإخضاعها لشروطها التعجيزية التي تصادر كل قضاياها السياسية القومية. لقد انتقل المسافرون من السفر إلى دمشق للسفر إلى باريس، وربما إلى واشنطن، لترتيب أوضاعهم، ولأخذ التعليمات من أجل تنفيذ الخطة المرسومة للمستقبل اللبناني، لأن الخطوط الداخلية الوطنية من خلال النادي السياسي، قد أدمنت الانفتاح على الوصايات الخارجية.

إن المعركة التي يخوضها القرار 1559 من خلال الأمم المتحدة التي خضعت للإيحاء الإسرائيلي، والتنفيذ الأمريكي، والتحريك الفرنسي أو الأوروبي، تتحرك الآن أو ستتحرك في المستقبل القريب للضغط على سلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني لحساب الأمن الإسرائيلي، تحت عناوين لبنانية وطنية، بهدف إرباك العلاقات السياسية اللبنانية بين فريق يدعم القرار وفريق يعارضه، انتهاءً بفريق يتحرك بازدواجية نفاقية تطلق بعض كلمات الحق التي يُراد بها الباطل.

إننا لا نخشى على لبنان من مشكلة طائفية أو حرب أهلية، ولكننا نخاف عليه من الخلل في مسألة الوحدة الوطنية على مستوى الارتباك السياسي. إننا نقول للبنانيين: إن عليكم أن تتماسكوا أكثر في الداخل، وأن تنظروا إلى ما هو أبعد من ساحتكم بكثير، لأن هذا التداخل الإقليمي والدولي الذي جعل من ساحتكم ساحة تجاذب دولي، قد يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وقد يجعل منكم وقوداً وحطباً لنار أُشعلت لحساب الآخرين لا لسواد عيونكم.

إننا نريد لبنان الوطن والشعب والمستقبل الحرّ السيد، لا لبنان الورقة التي أدمنها بعض اللبنانيين. إننا نريد لبناننا لا لبنان الآخرين.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير