الانفتاح على مدرسة الإمام الصادق(ع)

الانفتاح على مدرسة الإمام الصادق(ع)

من عناوين الالتزام بولاية أهل البيت(ع):
الانفتاح على مدرسة الإمام الصادق(ع)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33)، من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي مرّت علينا ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر شوّال.

هذا الإمام الذي ملأ الساحة الإسلامية في مرحلته علماً وثقافةً وفلسفةً وحركةً، حتى إنّك لا تجد في تلك المرحلة أيّ شخص إلا وقد استفاد من علمه، وروى عنه، وتتلمذ عليه. يقول بعض الشخصيات الحديثية: "دخلت مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة شيخ (أستاذ) كل يقول: "حدّثني جعفر بن محمد الصادق". ويروي كتّاب سيرته، أنهم أحصوا الرواة عنه فبلغوا أربعة آلاف راوٍ. وعندما ندرس تراثه، فإننا نجد أنه كان تراثاً متنوّعاً، يخاطب في الإنسان القضايا العقلية والعلمية والأخلاقية والنفسية، بل ويتجاوز ذلك إلى علوم أخرى. وينقل أحد أساتذة الكيمياء في ذلك العصر، والذي استفاد الغرب من علومه جابر بن حيان، أنه تعلّم الكيمياء على يد الإمام جعفر الصادق(ع).

الانفتاح على الواقع الإسلامي

وكانت مدرسته مدرسة منفتحة على كل الواقع الإسلامي، يقصده فيها من ينتمي إلى مذهبه ومن لا ينتمي إلى مذهبه، وقد تتلمذ عليه الإمام أبو حنيفة النعمان ـ إمام المذهب الحنفي ـ وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان"، والمقصود السنتان اللتان تتلمذ فيهما على الإمام الصادق(ع). وقد سئل أبو حنيفة: مَن أعلم الناس ومن أفقه الناس في تلك المرحلة؟ فقال: "جعفر بن محمد الصادق"، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: "لقد استدعاني الخليفة أبو جعفر المنصور، وقال لي: إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فحضّر له من مسائلك الشداد ما تملك به إظهار عجزه، فجئت إلى مجلس المنصور، وكان الإمام جعفر موجوداً هناك، فقال لي المنصور: اطرح مسائلك على أبي عبد الله، فبدأت أطرحها عليه، فكان يقول لي: "أنتم تقولون كذا، ونحن نقول كذا، وأهل المدينة يقولون كذا"، حتى أجاب عن الأربعين مسألة بهذه الشمولية لكل الآراء الفقهية التي يذهب إليها الفقهاء المسلمون، ثم قال أبو حنيفة: "ألسنا نقول إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".

ورأينا كيف أن الإمام الصادق(ع) كان ينفتح على آخرين من رؤساء المذاهب، ومنهم مالك بن أنس ـ إمام المذهب المالكي ـ الذي تتلمذ عليه، ويُنقل عنه أنه قال: "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً".

أولويـة العقل والعلم

وكان الإمام(ع) ينفتح على كل الاتجاهات، وكانت مدرسته تركز على عدة عناوين كبيرة، وأهمّها قيمة العقل في الإسلام، لأن الله تعالى جعل العقل هو الحجة بينه وبين عباده، فكان الإمام(ع) يركِّز على أن يأخذ الناس بأسباب العقل، وأن يبتعدوا عن التخلّف والخرافة، وكان(ع) يقول: "حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل"، وكان أيضاً يقول: "العقل دليل المؤمن"، وكان يربط بين العقل وحسن الخلق، فيقول: "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً". وينقل عن رسول الله(ص) أنه قال: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"، فإذا أردت أن تخاطب إنساناً، فلا بدّ من أن تفهم حجم عقله، لتتحدث معه بالأسلوب الذي يتوافق ومستوى عقله في إثارة القضايا.

والعنوان الثاني في مدرسته: العلم؛ أن يأخذ الإنسان بأسباب العلم في ما يحتاج إلى علمه في كل القضايا التي تتصل بحاجاته، وكان(ع) يقول: "قال رسول الله: طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وكلمة مسلم تشمل الرجل والمرأة. وقد ورد في الحديث عنه(ع) مسؤولية العالِم عن تعليم الناس، فليس للعالِم أن ينعزل عن الناس الذين يحتاجون إلى علمه فيرفض أن يعلّمهم أو أن يلبي حاجاتهم في طلب العلم، يقول: "قرأت في كتاب عليّ (ع): إن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم، حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال، لأن العلم كان قبل الجهل"، وكان(ع) يقول، وهو يريد لأصحابه أن يتفقهوا في الدين: "لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا".

إمام الحوار والحرية

ومن عناوين مدرسة الإمام الصادق(ع): الحوار، فقد كان(ع) يؤمن بأن على الناس عندما يختلفون في أفكارهم، سواء كان على المستوى الديني أو المستويات الفلسفية أو غيرها، أن يحاوروا بعضهم بعضاً، لأن الله تعالى قال: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125)، فإذا اختلفت مع إنسان آخر في أي قضية فكرية، عليك أن تدخل معه في حوار علمي موضوعي عقلاني، لتتبادلا وجهات النظر للوصول إلى النتيجة الحاسمة.

وقد عاش الإمام الصادق(ع) هذا الحوار في تجربته، فكان يحاور أصحابه في كثير من القضايا ليصحح لهم الكثير من أفكارهم، وكان يدخل في حوار مع الذين يختلفون معه في الخط المذهبي ليستمع إليهم ويستمعوا إليه، وكان يعلّم أصحابه أن يدخلوا في الحوار مع الذين يختلفون معهم في الخط والمذهب، وكانوا يتحاورون مع هؤلاء أمامه، لينقد أصحابه في طريقتهم وأسلوبهم. وكان(ع) ينفتح على الحوار مع الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ولا يؤمنون بالإسلام، وكان يجلس إليهم في المسجد الحرام في مكة، وكانوا يسألونه أشدّ الأسئلة جرأةً وحراجةً، فكان يفتح صدره لهم ويجيبهم ويناقشهم بكل رحابة صدر.

وكانت مدرسة الإمام الصادق(ع) هي مدرسة تأكيد الحرية، فقد كان(ع) يريد للناس أن يعيشوا أحراراً، وأن لا يخضعوا للضغوط التي تطبق عليهم، وأن لا يتنازلوا للظالمين والمستكبرين عن آرائهم بفعل القوة القاهرة التي يملكها أولئك. كان(ع) يقول للإنسان: كنّ حراً في تفكيرك، التزم فكرك وموقفك حتى لو كنت في داخل زنزانة ضيّقة: "إن الحر حر في جميع أحواله ـ سواء كان مقيداً أو طليقاً، مضطهداً أو مختاراً، فإنه لن يتحوّل إلى عبد، ولن تسقط حريته أمام الاضطهاد ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره وإن أُسر وقهر...". ثم يستشهد الإمام(ع) بالنبي يوسف(ع)، بأنه لم يسقط من خلال ما ناله من الجب، ولم يخضع للعبودية عندما استُعبد، ولكنه صبر وصمد وعاش حريته في نفسه، حتى صيّر الله الجبار العاتي عبداً له، فصار له مالكاً، ورحم الله به الأمة. كان(ع) يؤكد أن يبقى الإنسان حراً، لأن الحرية تنطلق من حرية فكره، فقد يستطيع الآخرون أن يقيّدوا جسده، ولكنهم لا يستطيعون أن يقيدوا عقله، لأنهم لا يسيطرون عليه.

وكانت مدرسة الإمام الصادق(ع) تؤكد مسألة أن يكون المؤمن عزيزاً. جاء في حديثه(ع) في تفسير قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8)، قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه". لست حراً في أن تكون ذليلاً، كن عزيزاً أمام الكون والعالم كله. وقيل له في حديث آخر: كيف يُذل نفسه؟ قال(ع): "أن يدخل في ما يعتذر منه"، وفي حديث آخر: "أن يتعرّض في ما لا يطيق".

أحاديثه(ع) منهج حياة

كان(ع) يعلِّم الناس كيف يميّزون بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، خصوصاً وأن هناك الكثير من الأحاديث التي تنقل عند السنّة والشيعة، فكان يؤكّد في ذلك مسألة الرجوع إلى القرآن: "كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "لا يُصدَّق علينا إلا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه"، ويقول لبعض أصحابه: "ما جاءك في رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"، فالقرآن هو كتاب الله الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وكان يرسل إلى شيعته برسائل شفهية، قال لبعض أصحابه: "أقرىء من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صلوا عشائركم ـ من غير الشيعة ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر"، وإذا كان غير ذلك، فقد دخل عليه بلاؤه وعاره.

وقد سأل(ع) بعض أصحابه وكان في سفر: "كيف من خلّفت من إخوانك"؟ فأجاب الرجل وأحسن الثناء، قال له: "كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم"؟ قال: قليلة، فقال: "كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم"؟ قال: قليلة، قال: "فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم"؟ قال الرجل: قليلة، ثم قال: إنك تذكر لي أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا، فقال الإمام الصادق(ع): "فكيف تزعم أنهم شيعة". وكان(ع) يخاطب أصحابه ويقول: "يا شيعة آل محمد، ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه... يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

هذه بعض فضائل الإمام الصادق(ع)، وهي كثيرة كثيرة، وعلينا في التزامنا بولاية الأئمة من أهل البيت(ع)، أن نلتزم هذه الخطوط الروحية والأخلاقية والثقافية، حتى نرتفع إلى ما يريدون أن نرتفع إليه في رفع مستوانا في الحياة وعند الله.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. اتقوا الله وكونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، اتقوا الله واهتموا بأمور المسلمين، فإن من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، وواجهوا كل التحديات التي يسلِّطها عليكم أعداء الله والأمة من المستكبرين، حتى تكونوا الأمة التي تعرف كيف تحافظ على عزتها وقوتها وقضاياها المصيرية، فماذا هناك؟

استهداف استكباري للهوية الإسلامية

في حرب الاستكبار الأمريكي في تحالفه مع الغرب والصهيونية على الإسلام، ضدّ ما يسمّيه الإرهاب، تركيزٌ في الهجوم على الثقافة الإسلامية القرآنية وخصوصاً المضمون الفكري والروحي للآيات القرآنية وللتفسير الإسلامي للقرآن، بحجة أنه يمثل أساساً للمفاهيم الإرهابية التي تشجّع على العنف الجسدي ضد الناس، وعلى عدم الاعتراف بالآخر، هذا إضافةً إلى مجريات التاريخ الإسلامي في حركته الصراعية ضد المعتدين على المسلمين والمحاربين لهم، وذلك بالتقاط بعض المفردات السلبية التي لا تخلو منها حرب في كل تاريخ العالم، وإغفال المفردات الإيجابية.

وقد تطوّر الأمر في هذه الحرب إلى المطالبة بحذف بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة من دروس التربية الإسلامية للناشئة، بحجة إبعادهم عن مفاهيم العنف والإرهاب. وقد استجابت بعض الدول الإسلامية في مناهجها التربوية لبعض ذلك، ولاسيما الدول التي قامت بمصالحة إسرائيل، وبدأت تخطط لحذف كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن سلبيات اليهود ضد الإسلام وضد الإنسان كله، من خلال السلوك المعقّد والنظرية العنصرية لديهم ضد الآخرين، ولاسيما ضد المسلمين.

وقد بدأ الحديث الناقد في إسرائيل لتفسير قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء...} (آل عمران:169)، باعتباره تشجيعاً للعنف بالإيحاء للمجاهدين بما ينتظرهم من الحياة الطيبة عند الله في جهادهم الشرعي، كما بدأ الحديث في فرنسا، تعليقاً على الاضطرابات الماضية من شباب الضواحي، بأنهم لم يتحركوا من خلال معاناتهم للاضطهاد، بل لأنهم مسلمون عنصريون يختزنون العنف في ذهنياتهم، مع العلم أنه من بينهم نسبة كبيرة من السود الكاثوليك، وربما يتحدث فريق آخر بأن المشكلة في رفض المسلمين الاندماج مع العالم الغربي، كراهة له.

إننا نجد في كل هذه الآراء الناتجة عن التعقيد لدى بعض الاتجاهات المضادة للإسلام والمسلمين لتسجيل بعض النقاط السلبية، من دون تدقيق بالواقع الاضطهادي الذي يعانيه المهاجرون في البلاد الغربية أو المجاهدون في فلسطين، عملاً مدروساً ليبرّروا لأنفسهم كل أنماط السلوك القانوني الحاقد، ولاسيما من اليمين السياسي، ليتخففوا من الشعور بالذنب، وليبتعدوا عن فهم الواقع للشعوب المستضعفة، مع العلم أن كل هؤلاء الذين يعيشون في فلسطين أو في أوروبا، عاشوا منذ عشرات السنين حياة منسجمة مع القوانين الحضارية، لكنهم عانوا من التمييز العنصري والاضطهاد القومي والمصادرة لإنسانيتهم، وهذا ما نقرأه ونسمعه من بعض المثقفين الأحرار الذين درسوا الواقع بدقة في معرفة أسباب الأوضاع السلبية التي تدفع الفقراء والمستضعفين إلى بعض أعمال العنف في خط الثورة، لا في خط الرفض للحياة الحرّة هناك.

إننا ندعو إلى العدالة في هذا العالم الذي يتحدث فيه القائمون على شؤون الناس عن حقوق الإنسان، ولكنهم في الوقت نفسه يشجعون اضطهاد قوات الاحتلال للشعوب المستضعفة، ويمارسون سياسة التمييز العنصري باسم محاربة العنصرية. إننا نقول لكل هؤلاء في الغرب والشرق: قليلاً من الصدق في الشعارات، شيئاً من العدالة في التعامل، قليلاً من الدراسة الواقعية للواقع الإنساني في مأساة الإنسان.

وفي المقابل، فإننا نهيب بالمسلمين في المواقع التربوية والثقافية أن يخلصوا لإسلامهم، فلا يتنازلوا عن حرف واحد من القرآن، في الوقت الذي نشجّع على دراسة التفسير المنفتح على الحقيقة القرآنية التي تنبذ العنف ضد الآخر، إلا في موقع الدفاع عن النفس وعن المستضعفين، وأن لا يسقطوا أمام الحملات الاستكبارية التي تخطط وتعمل على إضعاف ثقة المسلمين بإسلامهم، ليتنازلوا عمّا يريد الآخرون التنازل عنه خدمةً لاستكبارهم ولمصادرتهم للقضايا الحيوية والمصيرية.

كما نهيب بالفلسطينيين متابعة ورصد الواقع الذي يواجهونه في فلسطين، في التعقيدات السياسية لدى اليهود المحتلين، ليعرفوا كيف يوحّدون مواقفهم الوطنية في خط المواجهة، لتبقى السياسة صوتاً واحداً للتحرير، بعيداً عن المفردات الصغيرة التي يثيرها العدو في داخل صراعاتهم، أو الطموحات الشخصية لبعض أوضاعهم الحزبية والسلطوية، لأن المرحلة تتحرك في أصعب مواقع التخطيط المضاد من قِبَل العدو الذي تختلف أحزابه لحساباتهم الداخلية، ولكنها ـ بأجمعها ـ تتوحّد ضد الشعب الفلسطيني في الإجهاز على حاضره ومستقبله.

أمريكا: تكريس الاحتلال في المنطقة

أما العراق، فإن الاحتلال الأمريكي يصرّح من خلال خطاب الرئيس بوش وإدارته، بأن القضية لديه هي قضية النصر بأيّ ثمن، وليست قضية الشعب العراقي الذي يتحدث عنه بلغة الخداع النفاقي تباكياً على الديمقراطية والأمن والحرية، ولكننا نلاحظ ـ من خلال تأكيد الخبراء ـ أن قوات الاحتلال لم تمنح قوى الأمن العراقي الإمكانات التي تستطيع من خلالها الدفاع عن نفسها فضلاً عن دفاعها عن الأمن العراقي، كما أن الجيش العراقي لا يتمتع بأية قوة جوية أو برية من التدريب والسلاح بما يمكن أن يحقق له القدرة على حماية البلد في الداخل والخارج، لأن قوات الاحتلال تخطط لتبقى الحاجة إليها في الجانب الأمني لوقت طويل يتحرك فيه أمن الشعب العراقي بطريقة سلحفاتية معقّدة.

إننا لا نجد في المستقبل القريب أية فرصة واقعية لانسحاب قوات الاحتلال من العراق ما دام المسؤولون في الداخل يطالبونه بالبقاء، وما دامت الإدارة الأمريكية تتحدث عن ضرورة تحقيق النصر واستكمال الاستراتيجية التي تتجاوز العراق إلى المنطقة كلها. وهذا ما ينبغي للشعب العراقي أن يفهمه جيداً في تطلعاته للاستقلال في المستقبل، فلا يسقط تحت تأثير الأحلام الخيالية التي يحركها إعلام الاحتلال.

ومن جانب آخر، فإن الأوضاع الأمنية المعقّدة في اليمن، تدفعنا إلى القلق الشديد، لأننا لا نثق بالسياسة التي تتحرك بها الحكومة اليمنية ضد المستضعفين في منطقة صعدة، بحيث يمكن أن يكون الحل في المشاكل السابقة واللاحقة حلاً سلمياً يجمع الناس على قضايا الحق والعدل. إننا ندعو العقلاء والحكماء في اليمن من جميع الأطراف، من العلماء ومن أهل السياسة، إلى التدخل سريعاً لوقف الدماء، ولاسيما أن الجميع يعرفون أن أمريكا تعمل للتدخل في كل شؤون اليمن الداخلية، لأنها تعتبره ساحة للحرب على ما تسمّيه الإرهاب.

لبنان محاصر بالأزمات والتعقيدات

أما لبنان، فلا تزال اللعبة الدولية من جهة، والإقليمية من جهة أخرى، والتعقيدات المحلية من جهة ثالثة، تعصف بالواقع السياسي الداخلي في الجدل المتنوّع في أساليبه الاتهامية لهذا الفريق أو ذاك، وفي تحليلاته السياسية التي تثير الهواجس والوساوس والتهاويل والتخاويف من تخريب خارجي، ومن أمن مستباح، ومن خلفيات دبلوماسية خارجية، ومن إيحاءات في العلاقات الحزبية، ومن تحقيقات متحركة في التجاذب في مسألة الصدق والكذب، وفي حركة المخابرات، ما يمثل امتداداً للمتاهات التي أدمن اللبنانيون السير فيها، والغرق في رمالها المتحركة.

إن الجياع يصرخون الجوع الجوع، والعطاشى ينادون العطش العطش، والمحرومون يستغيثون أنقذونا من الحرمان في قضايانا الحيوية والمصيرية، والعدو يقهقه، وأمريكا تنتقل من خطة إلى خطة في لعب لبنان الورقة من دون أن يكون للبنانيين أيّ دور في حلّ مشاكلهم مع إسرائيل، ومع التعقيدات الخانقة التي تخنق الحاضر والمستقبل.

إنهم يريدون للبنان أن يظل محاصراً بالذل والصَغار، فمن يُخرجه إلى ساحة الحرية في الهواء السياسي الطلق؟!

من عناوين الالتزام بولاية أهل البيت(ع):
الانفتاح على مدرسة الإمام الصادق(ع)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33)، من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي مرّت علينا ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر شوّال.

هذا الإمام الذي ملأ الساحة الإسلامية في مرحلته علماً وثقافةً وفلسفةً وحركةً، حتى إنّك لا تجد في تلك المرحلة أيّ شخص إلا وقد استفاد من علمه، وروى عنه، وتتلمذ عليه. يقول بعض الشخصيات الحديثية: "دخلت مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة شيخ (أستاذ) كل يقول: "حدّثني جعفر بن محمد الصادق". ويروي كتّاب سيرته، أنهم أحصوا الرواة عنه فبلغوا أربعة آلاف راوٍ. وعندما ندرس تراثه، فإننا نجد أنه كان تراثاً متنوّعاً، يخاطب في الإنسان القضايا العقلية والعلمية والأخلاقية والنفسية، بل ويتجاوز ذلك إلى علوم أخرى. وينقل أحد أساتذة الكيمياء في ذلك العصر، والذي استفاد الغرب من علومه جابر بن حيان، أنه تعلّم الكيمياء على يد الإمام جعفر الصادق(ع).

الانفتاح على الواقع الإسلامي

وكانت مدرسته مدرسة منفتحة على كل الواقع الإسلامي، يقصده فيها من ينتمي إلى مذهبه ومن لا ينتمي إلى مذهبه، وقد تتلمذ عليه الإمام أبو حنيفة النعمان ـ إمام المذهب الحنفي ـ وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان"، والمقصود السنتان اللتان تتلمذ فيهما على الإمام الصادق(ع). وقد سئل أبو حنيفة: مَن أعلم الناس ومن أفقه الناس في تلك المرحلة؟ فقال: "جعفر بن محمد الصادق"، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: "لقد استدعاني الخليفة أبو جعفر المنصور، وقال لي: إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فحضّر له من مسائلك الشداد ما تملك به إظهار عجزه، فجئت إلى مجلس المنصور، وكان الإمام جعفر موجوداً هناك، فقال لي المنصور: اطرح مسائلك على أبي عبد الله، فبدأت أطرحها عليه، فكان يقول لي: "أنتم تقولون كذا، ونحن نقول كذا، وأهل المدينة يقولون كذا"، حتى أجاب عن الأربعين مسألة بهذه الشمولية لكل الآراء الفقهية التي يذهب إليها الفقهاء المسلمون، ثم قال أبو حنيفة: "ألسنا نقول إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".

ورأينا كيف أن الإمام الصادق(ع) كان ينفتح على آخرين من رؤساء المذاهب، ومنهم مالك بن أنس ـ إمام المذهب المالكي ـ الذي تتلمذ عليه، ويُنقل عنه أنه قال: "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً".

أولويـة العقل والعلم

وكان الإمام(ع) ينفتح على كل الاتجاهات، وكانت مدرسته تركز على عدة عناوين كبيرة، وأهمّها قيمة العقل في الإسلام، لأن الله تعالى جعل العقل هو الحجة بينه وبين عباده، فكان الإمام(ع) يركِّز على أن يأخذ الناس بأسباب العقل، وأن يبتعدوا عن التخلّف والخرافة، وكان(ع) يقول: "حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل"، وكان أيضاً يقول: "العقل دليل المؤمن"، وكان يربط بين العقل وحسن الخلق، فيقول: "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً". وينقل عن رسول الله(ص) أنه قال: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"، فإذا أردت أن تخاطب إنساناً، فلا بدّ من أن تفهم حجم عقله، لتتحدث معه بالأسلوب الذي يتوافق ومستوى عقله في إثارة القضايا.

والعنوان الثاني في مدرسته: العلم؛ أن يأخذ الإنسان بأسباب العلم في ما يحتاج إلى علمه في كل القضايا التي تتصل بحاجاته، وكان(ع) يقول: "قال رسول الله: طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وكلمة مسلم تشمل الرجل والمرأة. وقد ورد في الحديث عنه(ع) مسؤولية العالِم عن تعليم الناس، فليس للعالِم أن ينعزل عن الناس الذين يحتاجون إلى علمه فيرفض أن يعلّمهم أو أن يلبي حاجاتهم في طلب العلم، يقول: "قرأت في كتاب عليّ (ع): إن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم، حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال، لأن العلم كان قبل الجهل"، وكان(ع) يقول، وهو يريد لأصحابه أن يتفقهوا في الدين: "لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا".

إمام الحوار والحرية

ومن عناوين مدرسة الإمام الصادق(ع): الحوار، فقد كان(ع) يؤمن بأن على الناس عندما يختلفون في أفكارهم، سواء كان على المستوى الديني أو المستويات الفلسفية أو غيرها، أن يحاوروا بعضهم بعضاً، لأن الله تعالى قال: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125)، فإذا اختلفت مع إنسان آخر في أي قضية فكرية، عليك أن تدخل معه في حوار علمي موضوعي عقلاني، لتتبادلا وجهات النظر للوصول إلى النتيجة الحاسمة.

وقد عاش الإمام الصادق(ع) هذا الحوار في تجربته، فكان يحاور أصحابه في كثير من القضايا ليصحح لهم الكثير من أفكارهم، وكان يدخل في حوار مع الذين يختلفون معه في الخط المذهبي ليستمع إليهم ويستمعوا إليه، وكان يعلّم أصحابه أن يدخلوا في الحوار مع الذين يختلفون معهم في الخط والمذهب، وكانوا يتحاورون مع هؤلاء أمامه، لينقد أصحابه في طريقتهم وأسلوبهم. وكان(ع) ينفتح على الحوار مع الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ولا يؤمنون بالإسلام، وكان يجلس إليهم في المسجد الحرام في مكة، وكانوا يسألونه أشدّ الأسئلة جرأةً وحراجةً، فكان يفتح صدره لهم ويجيبهم ويناقشهم بكل رحابة صدر.

وكانت مدرسة الإمام الصادق(ع) هي مدرسة تأكيد الحرية، فقد كان(ع) يريد للناس أن يعيشوا أحراراً، وأن لا يخضعوا للضغوط التي تطبق عليهم، وأن لا يتنازلوا للظالمين والمستكبرين عن آرائهم بفعل القوة القاهرة التي يملكها أولئك. كان(ع) يقول للإنسان: كنّ حراً في تفكيرك، التزم فكرك وموقفك حتى لو كنت في داخل زنزانة ضيّقة: "إن الحر حر في جميع أحواله ـ سواء كان مقيداً أو طليقاً، مضطهداً أو مختاراً، فإنه لن يتحوّل إلى عبد، ولن تسقط حريته أمام الاضطهاد ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره وإن أُسر وقهر...". ثم يستشهد الإمام(ع) بالنبي يوسف(ع)، بأنه لم يسقط من خلال ما ناله من الجب، ولم يخضع للعبودية عندما استُعبد، ولكنه صبر وصمد وعاش حريته في نفسه، حتى صيّر الله الجبار العاتي عبداً له، فصار له مالكاً، ورحم الله به الأمة. كان(ع) يؤكد أن يبقى الإنسان حراً، لأن الحرية تنطلق من حرية فكره، فقد يستطيع الآخرون أن يقيّدوا جسده، ولكنهم لا يستطيعون أن يقيدوا عقله، لأنهم لا يسيطرون عليه.

وكانت مدرسة الإمام الصادق(ع) تؤكد مسألة أن يكون المؤمن عزيزاً. جاء في حديثه(ع) في تفسير قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8)، قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه". لست حراً في أن تكون ذليلاً، كن عزيزاً أمام الكون والعالم كله. وقيل له في حديث آخر: كيف يُذل نفسه؟ قال(ع): "أن يدخل في ما يعتذر منه"، وفي حديث آخر: "أن يتعرّض في ما لا يطيق".

أحاديثه(ع) منهج حياة

كان(ع) يعلِّم الناس كيف يميّزون بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، خصوصاً وأن هناك الكثير من الأحاديث التي تنقل عند السنّة والشيعة، فكان يؤكّد في ذلك مسألة الرجوع إلى القرآن: "كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "لا يُصدَّق علينا إلا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه"، ويقول لبعض أصحابه: "ما جاءك في رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"، فالقرآن هو كتاب الله الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وكان يرسل إلى شيعته برسائل شفهية، قال لبعض أصحابه: "أقرىء من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صلوا عشائركم ـ من غير الشيعة ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر"، وإذا كان غير ذلك، فقد دخل عليه بلاؤه وعاره.

وقد سأل(ع) بعض أصحابه وكان في سفر: "كيف من خلّفت من إخوانك"؟ فأجاب الرجل وأحسن الثناء، قال له: "كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم"؟ قال: قليلة، فقال: "كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم"؟ قال: قليلة، قال: "فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم"؟ قال الرجل: قليلة، ثم قال: إنك تذكر لي أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا، فقال الإمام الصادق(ع): "فكيف تزعم أنهم شيعة". وكان(ع) يخاطب أصحابه ويقول: "يا شيعة آل محمد، ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه... يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

هذه بعض فضائل الإمام الصادق(ع)، وهي كثيرة كثيرة، وعلينا في التزامنا بولاية الأئمة من أهل البيت(ع)، أن نلتزم هذه الخطوط الروحية والأخلاقية والثقافية، حتى نرتفع إلى ما يريدون أن نرتفع إليه في رفع مستوانا في الحياة وعند الله.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. اتقوا الله وكونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، اتقوا الله واهتموا بأمور المسلمين، فإن من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، وواجهوا كل التحديات التي يسلِّطها عليكم أعداء الله والأمة من المستكبرين، حتى تكونوا الأمة التي تعرف كيف تحافظ على عزتها وقوتها وقضاياها المصيرية، فماذا هناك؟

استهداف استكباري للهوية الإسلامية

في حرب الاستكبار الأمريكي في تحالفه مع الغرب والصهيونية على الإسلام، ضدّ ما يسمّيه الإرهاب، تركيزٌ في الهجوم على الثقافة الإسلامية القرآنية وخصوصاً المضمون الفكري والروحي للآيات القرآنية وللتفسير الإسلامي للقرآن، بحجة أنه يمثل أساساً للمفاهيم الإرهابية التي تشجّع على العنف الجسدي ضد الناس، وعلى عدم الاعتراف بالآخر، هذا إضافةً إلى مجريات التاريخ الإسلامي في حركته الصراعية ضد المعتدين على المسلمين والمحاربين لهم، وذلك بالتقاط بعض المفردات السلبية التي لا تخلو منها حرب في كل تاريخ العالم، وإغفال المفردات الإيجابية.

وقد تطوّر الأمر في هذه الحرب إلى المطالبة بحذف بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة من دروس التربية الإسلامية للناشئة، بحجة إبعادهم عن مفاهيم العنف والإرهاب. وقد استجابت بعض الدول الإسلامية في مناهجها التربوية لبعض ذلك، ولاسيما الدول التي قامت بمصالحة إسرائيل، وبدأت تخطط لحذف كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن سلبيات اليهود ضد الإسلام وضد الإنسان كله، من خلال السلوك المعقّد والنظرية العنصرية لديهم ضد الآخرين، ولاسيما ضد المسلمين.

وقد بدأ الحديث الناقد في إسرائيل لتفسير قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء...} (آل عمران:169)، باعتباره تشجيعاً للعنف بالإيحاء للمجاهدين بما ينتظرهم من الحياة الطيبة عند الله في جهادهم الشرعي، كما بدأ الحديث في فرنسا، تعليقاً على الاضطرابات الماضية من شباب الضواحي، بأنهم لم يتحركوا من خلال معاناتهم للاضطهاد، بل لأنهم مسلمون عنصريون يختزنون العنف في ذهنياتهم، مع العلم أنه من بينهم نسبة كبيرة من السود الكاثوليك، وربما يتحدث فريق آخر بأن المشكلة في رفض المسلمين الاندماج مع العالم الغربي، كراهة له.

إننا نجد في كل هذه الآراء الناتجة عن التعقيد لدى بعض الاتجاهات المضادة للإسلام والمسلمين لتسجيل بعض النقاط السلبية، من دون تدقيق بالواقع الاضطهادي الذي يعانيه المهاجرون في البلاد الغربية أو المجاهدون في فلسطين، عملاً مدروساً ليبرّروا لأنفسهم كل أنماط السلوك القانوني الحاقد، ولاسيما من اليمين السياسي، ليتخففوا من الشعور بالذنب، وليبتعدوا عن فهم الواقع للشعوب المستضعفة، مع العلم أن كل هؤلاء الذين يعيشون في فلسطين أو في أوروبا، عاشوا منذ عشرات السنين حياة منسجمة مع القوانين الحضارية، لكنهم عانوا من التمييز العنصري والاضطهاد القومي والمصادرة لإنسانيتهم، وهذا ما نقرأه ونسمعه من بعض المثقفين الأحرار الذين درسوا الواقع بدقة في معرفة أسباب الأوضاع السلبية التي تدفع الفقراء والمستضعفين إلى بعض أعمال العنف في خط الثورة، لا في خط الرفض للحياة الحرّة هناك.

إننا ندعو إلى العدالة في هذا العالم الذي يتحدث فيه القائمون على شؤون الناس عن حقوق الإنسان، ولكنهم في الوقت نفسه يشجعون اضطهاد قوات الاحتلال للشعوب المستضعفة، ويمارسون سياسة التمييز العنصري باسم محاربة العنصرية. إننا نقول لكل هؤلاء في الغرب والشرق: قليلاً من الصدق في الشعارات، شيئاً من العدالة في التعامل، قليلاً من الدراسة الواقعية للواقع الإنساني في مأساة الإنسان.

وفي المقابل، فإننا نهيب بالمسلمين في المواقع التربوية والثقافية أن يخلصوا لإسلامهم، فلا يتنازلوا عن حرف واحد من القرآن، في الوقت الذي نشجّع على دراسة التفسير المنفتح على الحقيقة القرآنية التي تنبذ العنف ضد الآخر، إلا في موقع الدفاع عن النفس وعن المستضعفين، وأن لا يسقطوا أمام الحملات الاستكبارية التي تخطط وتعمل على إضعاف ثقة المسلمين بإسلامهم، ليتنازلوا عمّا يريد الآخرون التنازل عنه خدمةً لاستكبارهم ولمصادرتهم للقضايا الحيوية والمصيرية.

كما نهيب بالفلسطينيين متابعة ورصد الواقع الذي يواجهونه في فلسطين، في التعقيدات السياسية لدى اليهود المحتلين، ليعرفوا كيف يوحّدون مواقفهم الوطنية في خط المواجهة، لتبقى السياسة صوتاً واحداً للتحرير، بعيداً عن المفردات الصغيرة التي يثيرها العدو في داخل صراعاتهم، أو الطموحات الشخصية لبعض أوضاعهم الحزبية والسلطوية، لأن المرحلة تتحرك في أصعب مواقع التخطيط المضاد من قِبَل العدو الذي تختلف أحزابه لحساباتهم الداخلية، ولكنها ـ بأجمعها ـ تتوحّد ضد الشعب الفلسطيني في الإجهاز على حاضره ومستقبله.

أمريكا: تكريس الاحتلال في المنطقة

أما العراق، فإن الاحتلال الأمريكي يصرّح من خلال خطاب الرئيس بوش وإدارته، بأن القضية لديه هي قضية النصر بأيّ ثمن، وليست قضية الشعب العراقي الذي يتحدث عنه بلغة الخداع النفاقي تباكياً على الديمقراطية والأمن والحرية، ولكننا نلاحظ ـ من خلال تأكيد الخبراء ـ أن قوات الاحتلال لم تمنح قوى الأمن العراقي الإمكانات التي تستطيع من خلالها الدفاع عن نفسها فضلاً عن دفاعها عن الأمن العراقي، كما أن الجيش العراقي لا يتمتع بأية قوة جوية أو برية من التدريب والسلاح بما يمكن أن يحقق له القدرة على حماية البلد في الداخل والخارج، لأن قوات الاحتلال تخطط لتبقى الحاجة إليها في الجانب الأمني لوقت طويل يتحرك فيه أمن الشعب العراقي بطريقة سلحفاتية معقّدة.

إننا لا نجد في المستقبل القريب أية فرصة واقعية لانسحاب قوات الاحتلال من العراق ما دام المسؤولون في الداخل يطالبونه بالبقاء، وما دامت الإدارة الأمريكية تتحدث عن ضرورة تحقيق النصر واستكمال الاستراتيجية التي تتجاوز العراق إلى المنطقة كلها. وهذا ما ينبغي للشعب العراقي أن يفهمه جيداً في تطلعاته للاستقلال في المستقبل، فلا يسقط تحت تأثير الأحلام الخيالية التي يحركها إعلام الاحتلال.

ومن جانب آخر، فإن الأوضاع الأمنية المعقّدة في اليمن، تدفعنا إلى القلق الشديد، لأننا لا نثق بالسياسة التي تتحرك بها الحكومة اليمنية ضد المستضعفين في منطقة صعدة، بحيث يمكن أن يكون الحل في المشاكل السابقة واللاحقة حلاً سلمياً يجمع الناس على قضايا الحق والعدل. إننا ندعو العقلاء والحكماء في اليمن من جميع الأطراف، من العلماء ومن أهل السياسة، إلى التدخل سريعاً لوقف الدماء، ولاسيما أن الجميع يعرفون أن أمريكا تعمل للتدخل في كل شؤون اليمن الداخلية، لأنها تعتبره ساحة للحرب على ما تسمّيه الإرهاب.

لبنان محاصر بالأزمات والتعقيدات

أما لبنان، فلا تزال اللعبة الدولية من جهة، والإقليمية من جهة أخرى، والتعقيدات المحلية من جهة ثالثة، تعصف بالواقع السياسي الداخلي في الجدل المتنوّع في أساليبه الاتهامية لهذا الفريق أو ذاك، وفي تحليلاته السياسية التي تثير الهواجس والوساوس والتهاويل والتخاويف من تخريب خارجي، ومن أمن مستباح، ومن خلفيات دبلوماسية خارجية، ومن إيحاءات في العلاقات الحزبية، ومن تحقيقات متحركة في التجاذب في مسألة الصدق والكذب، وفي حركة المخابرات، ما يمثل امتداداً للمتاهات التي أدمن اللبنانيون السير فيها، والغرق في رمالها المتحركة.

إن الجياع يصرخون الجوع الجوع، والعطاشى ينادون العطش العطش، والمحرومون يستغيثون أنقذونا من الحرمان في قضايانا الحيوية والمصيرية، والعدو يقهقه، وأمريكا تنتقل من خطة إلى خطة في لعب لبنان الورقة من دون أن يكون للبنانيين أيّ دور في حلّ مشاكلهم مع إسرائيل، ومع التعقيدات الخانقة التي تخنق الحاضر والمستقبل.

إنهم يريدون للبنان أن يظل محاصراً بالذل والصَغار، فمن يُخرجه إلى ساحة الحرية في الهواء السياسي الطلق؟!

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير