علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والروح والقدوة...

علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والروح والقدوة...

في يوم الغدير، وذكرى ولاية علي(ع)
علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والروح والقدوة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

بيعة يوم الغدير:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة/55).

ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب(ع)، الذي نحتفل بذكراه في هذا اليوم، الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو يوم الغدير، يوم الولاية.

وهو اليوم الذي وقف فيه رسول الله(ص) خطيباً أمام المسلمين في الصحراء، وكانت الشمس شديدة الحرارة، وأخذ بيد علي(ع) ورفعها حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال، فيما روي عنه(ص): «أيُّها الناس! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ـ ثلاث مرات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}(الأحزاب/6)، وهذا هو دليل حاكمية النبي(ص)، لأنّ للنبي صفتين: صفة النبي المبشِّر والنذير، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ}(الأحزاب/45-46)، وصفة الولاية على الأمة والحاكمية، التي تفرض على الأمة أن يطيعوه، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(النساء/80) ـ قالوا: بلى، قال: اللّهمّ اشهد. ثم قال(ص): فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذلْ من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار».

وانطلق المسلمون آنذاك، وعرفوا جميعاً أنّ النبي(ص) الذي كان في آخر آيامه لأنها كانت آخر حجة له وكانت حجة الوداع، قد نصّب علياً(ع) ولياً من بعده وخليفةً ووصياً وداعياً إلى الله سبحانه وتعالى.

ورواية الغدير هذه، هي من الروايات التي رواها السنَّة والشيعة على السواء، وهي، بحسب ما ورد في بعض كتب أهل السنّة، من الروايات المتواترة التي يُقطع بأنّها رواية صحيحة ليس فيها شكّ ولا ريب. ولكن بعض الناس الذين لم يشككوا في أصل الرواية، حاولوا أن يفسّروا كلمة (المولى) بشكل لا ينسجم مع طبيعة الجوِّ آنذاك، فقال بعضهم: إنها تعني: من كنت محبه فعليُّ محبه، أو من كنت ناصره فعليٌّ ناصره، ولكن هذا التفسير يعتبر من التفاسير المثيرة للجدل، أو تفسيراً ساذجاً، حيث إنّه لا معنى لأن يجمع النبي(ص) المسلمين في الحرِّ الشديد ليقول لهم هذا، وخصوصاً أنه ابتدأ كلامه بالقول: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، أي من كنت أولى به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه، أو من كنت أملك الحاكمية عليه، فعلي يملك الولاية والحاكمية عليه.

وهكذا كانت الولاية في خطِّ النبوّة، ولكن الأحداث التي أعقبت وفاة النبي(ص) أبعدت علياً(ع) عن موقع الخلافة، ولا نريد أن نخوض في هذا الحديث حفاظاً على الوحدة الإسلامية. ولكن نتساءل هنا: لماذا اختار النبي(ص) علياً(ع)؟ حيث لم يكن اختياره نابعاً من حالة شخصية تجاه علي(ع)، بل إن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة/67)، أي إن لم تنصِّب علياً في آخر حركة الرسالة، فكأنك لم تفعل شيئاً، مع أنّه(ص) كان قد بلّغ كلّ الرسالة. وعندما استجاب النبي(ص) لربه، أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة/3).

عليٌّ(ع) يتمثل برسول الله(ص):

لماذا عليٌّ(ع)، وقد كان في المسلمين من هو أكبر سناً من علي، وكانوا يصاحبون رسول الله(ص)، إذ كان(ع) عند وفاة النبي(ص) في سن الثلاثين؟ ولدى دراسة المسألة، نجد أنّه لم يكن في المسلمين، عند كبيرهم وصغيرهم، من يملك من العلم والفضل والجهاد والشجاعة والإخلاص لله ولرسوله، ومن العيش مع رسول الله ليلاً ونهاراً، كما كان علي(ع).

فنحن نعرف أنّ رسول الله(ص) قد أخذ علياً، وهو تقريباً في عمر السنتين، من أبيه أبي طالب، لأنّه كان كثير العيال، واحتضنه وربّاه، وعاش معه في الليل والنهار، حتى إن النبي(ص) عندما كان يخرج ليتعبَّد في غار حراء، كان يأخذ علياً(ع) معه، ولم تكن صحبة عليٍّ للنبي(ص) صحبة مربٍّ لطفل، بل كانت صحبة تربية وتعليم وتثقيف، وكان عليٌّ(ع) يقول، كما ورد في نهج البلاغة: «كان يُلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل ـ فصيل الناقة ـ أثر أمه». فكان(ع) يقتدي برسول الله(ص) في كلّ ما يعطيه من تعاليم، ويتمثّله في كلّ سيرته، فكانت كلمته كلمته، وخطوته خطوته، وابتهالاته ابتهالاته، وأخلاقه أخلاقه، حتى إنه عندما نزل الوحي على رسول الله(ص)، كان(ع) يسمع الوحي، وعندما حدّث رسول الله عن ذلك، قال له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنّك لست بنبي».

وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله بالرّسالة، كان علي(ع) يعيش في بيت رسول الله(ص)، ولم يكن هناك إلا رسول الله وخديجة وعليٌّ ثالثهما، وهكذا كان عليٌّ(ع) أوّل من استجاب للإسلام، وبعض الناس يقولون: "إن علياً كان أول من أسلم من الصبيان»! يريدون أن ينـزلوا من مكانة إسلام علي. وعليّ(ع) كان صبياً في سنه، ولكنه كان كبيراً في عقله. وروي أنّه قيل لعلي(ع): لماذا لم تستشر أباك أبا طالب عندما أسلمت؟ ـ ولو استشاره لأشار عليه بذلك، لأنه كان في قمة إسلامه، بعكس ما يقوله بعض المسلمين إنه مات كافراً ـ قال(ع): إن الله عندما خلقني لم يستشر أبي، ولذلك لا أستشير أبي عندما أريد أن أتبع رسالة الله.

علي(ع) فارس الإسلام:

كان عليٌّ في بيت رسول الله(ص)، فكان(ع) أوّل من عرف كلماته معنىً وفكراً وعقيدةً، ولذلك كان علي(ع) يعيش في مدرسة رسول الله(ص) في بيته، وكان يرافقه في مكة عندما يذهب إلى المسجد الحرام. وعندما كان مشركو قريش يغرون صبيانهم بالتعرض لرسول الله(ص)، كان علي يحامي عنه، بحيث إنه كان يعمد إلى الصبيان " فيجذب آذانهم"، حتى إنهم كانوا إذا رأوا علياً قالوا جاء "مُصلّب الآذان".

وعندما هاجر رسول الله (ص)، أوكل إلى علي(ع) أن يبقى في مكة ليؤدي عنه أماناته التي أودعها الناس عنده، وقد فدى رسول الله(ص) بنفسه حين نام على فراشه ليوفر له الحماية من قريش التي كانت تتربص به لقتله، وبذلك غطى أمير المؤمنين خروج الرسول من مكة إلى المدينة. ويُروى أنّ زوجات النبي(ص) كنّ يعشن الغيرة من علي(ع)، لأنه كان يُشغل رسول الله عنهن.

وانطلق المشركون في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، كان علي(ع) الفارس الأول، فكان فارس بدر، ولم يكن قد تدرَّب على القتال، ولكنّه انطلق من خلال عقله الذي يستوعب كلَّ العلوم والتجارب مع رسول الله(ص)، ويقال إنّ علياً(ع) قتل نصف المشركين في بدر وشارك المسلمين في قتل النصف الباقي، حتى قال جبرائيل، كما روي: «لا فتى إلا علي، ولا سيف إلاّ ذو الفقار».

وكان علي(ع) أيضاً فارس "أحد" و"الأحزاب"، حيث كان المشركون في تحالفهم مع اليهود يريدون القضاء على الإسلام والسيطرة على المدينة بكلِّ ما لديهم من قوة(ع)، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(الأحزاب/10-11). وعندما تحدّى عمرو بن عبد ودّ المسلمين، كان فارساً من المشركين يعدّ بألف فارس، وكان النبي(ص) يقول: من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة، وكان علي(ع) وحده يقول: أنا له يا رسول الله، فيقول له: اجلس، حتى كرَّر النبي الكلام ثلاث مرات. وعندما انطلق علي، رفع النبي(ص) يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ}(الأنبياء/89)، وقال(ص): «برز الإسلام كله إلى الشرك كله»، فقد تمثّل الإسلام بعليّ(ع)، بحيث كانت المسألة أنّه إذا انتصر انتصر الإسلام به(ع)، وإذا قتل قتل الإسلام، بينما تجسّد الشرك بعمرو بن عبد ود، وقد استطاع علي(ع) القضاء على هذا الفارس المشرك.

وهكذا انطلق علي(ع) في وقعة "حنين"، وفي كل معارك النبي(ص)، وقال له النبي(ص): «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار».

علي(ع) ومسؤولية الإسلام:

وكان علي(ع) مع رسول الله(ص)، وكان بيت علي(ع) بيت رسول الله (ص)، حتى إنه زوّجه ابنته فاطمة، وقال(ص)، والمسلمون الذين خطبوا السيدة فاطمة الزهراء(ع) منه(ص) كثيرون: «لو لم يكن عليٌّ لما كان لفاطمة كفء»، حيث إن علياً وفاطمة كانا تلميذين لرسول الله، تعلَّما منه، فعند فاطمة ما هو عند علي(ع) من العلم، لأنّها عاشت في أحضان أبيها، حيث كانت ترعاه، حتى قال(ص) عنها إنّها: «أم أبيها».

وهكذا كان علي(ع) وحده المؤهل لأن يكون الولي للمسلمين بعد رسول الله(ص)، لأنّه كان الأفضل والأعلم والأزهد والأتقى والأكثر جهاداً.

وبعد رسول الله، عندما أبعد عن حقّه، رأى أنّه مسؤول عن الإسلام وهو خارج الخلافة كما هو مسؤول عنه لو كان داخل الخلافة، ولذلك أعطى الذين تقدموه والذين أبعدوه النصيحة والمعونة، لأنه كان يريد لهم أن يسيروا على الخط السليم، حتى قال الخليفة الثاني آنذاك: «لولا عليٌّ لهلك عمر». فقد كان الإسلام همَّ عليِّ(ع)، لأنّه تحمَّل مسؤولية الإسلام منذ طفولته وفي شبابه وكهولته، وهو القائل: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً».

وقال(ع) عندما بويع: « لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاَّ يقاروا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». فلم يكن(ع) يفكر في الخلافة للدنيا، بل من أجل إحقاق الحق. وفي هذا قال ابن عباس: «دخلت على أمير المؤمنين(ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال(ع): والله لهي أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».

الولاية: ارتباط عقلي وروحي:

لقد ولد علي(ع) في الكعبة، واستشهد في بيت الله سبحانه وتعالى، لذلك عندما نقف في ذكرى ولايته(ع)، علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والرّوح والقدوة والحياة، لأنّ علياً(ع) لا يسير بنا إلاّ إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإنّ علياً(ع) يمثِّل القمَّةَ الشامخة الرفيعة في كلِّ ما أراده الله سبحانه للإسلام أن يتحرَّك فيه.

وعلى ضوء هذا، فإنّ علينا أن نقف في يوم الغدير لنبايع علياً(ع) في خطه، وفي كل ما أعطانا من علم وفكر وصلابة وصبر، وأن نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب(ع)، الحمد لله على إكمال الدين، الحمد لله على إتمام النعمة.

ونقول له: يا أبا الحسن، إنّنا معك، إننا ندعو الله أن يوفّقنا لأن نقتدي بك، وأن نصبر كما صبرت، وأن نسير كما سرت، وأن نأخذ بالإسلام كما أخذت به، وأن نخلص لله سبحانه كما أخلصت، لأنك كنت تحب الله كما أحبه رسوله، وقد قال(ص): «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله».

لقد أحببت الله وأحبّك الله، لأنّ حياتك كلّها كانت لله سبحانه وتعالى، ولم تكن حياتك لنفسك. فيا أمير المؤمنين، اشفع لنا عند الله، فإنّك قريب إلى الله سبحانه وتعالى. والسَّلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثُ حيّاً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ أموركم، وسيروا على سيرة رسول الله(ص) وعلي والأئمة من أهل بيته(ع)، وانطلقوا في مسؤوليَّاتكم في الحياة كلّها، واصبروا كما أراد الله للمؤمنين ذلك في مواجهتهم للكفر كلّه وللاستكبار كله، لأنّنا نواجه مشاكل وتحدّياتٍ كبرى، كما واجهها رسول الله(ص) وعليٌّ والأئمة من بعده(ع). ولذلك فإنّنا مسؤولون في هذا الخطِّ، كما كان علي(ع)، وعلينا أن نعمل على أساس أن نكون مسلمين بكلِّ عقولنا وقلوبنا وحركتنا وكلِّ تحدياتنا في العالم كله، فماذا هناك؟

إسرائيل: نشاطٌ استيطانيٌّ محموم:

تتابعُ إسرائيل الحرب الحقيقيّة على غزّة، برّاً وبحراً وجوّاً، معلنةً أنّ هدفها الاستراتيجي هو إسقاط نظام حماس في القطاع، فيما وجّهت ضربةً جديدةً إلى السلطة الفلسطينيّة بإعلان عزمها على بناء 740 وحدة سكنيّة جديدة في القدس والضفّة، وذلك في وقتٍ متزامن مع استئناف محادثات الحلّ النهائي بين الجانبين.

أمّا رئيس السلطة الفلسطينيّة، فإنّه لا يملك إلا التساؤل عن السبب الكامن وراء هذا النشاط الاستيطاني المحموم، مناشداً المجتمع الدولي كي يتدخّل. ولكنّه يعرف أنّ المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه الإدارة الأمريكية، لا يملك الضغط على إسرائيل ليمنعها من ذلك؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ المفاوضات النهائيّة القادمة لن تستطيع أن تحقّق للفلسطينيّين أيّ مكسب، لأنّها تملك مواقع الاستيطان والجدار الفاصل ومصادر المياه، ولا يملك الفلسطينيون في السلطة أيّ قوّة ضاغطة في الحلّ الذي يحقّق لهم أهدافهم الاستراتيجية التحريرية، ولا سيّما أنّ الشعب الفلسطيني قد عاش الانقسام بين الضفّة الغربية وغزّة، وأنّ باب الحوار مسدود.

إنّنا نخشى أن يتحوّل الموقف الفلسطيني إلى موقف مستضعف لا يملك أيّ قوّة عربيّة أو دولية مساندة، لأنّ المجتمع الدولي، بقيادة أمريكا، يعمل على تحقيق الاستراتيجية الاسرائيليّة من دون أن يحقّق شيئاً لفلسطين، وهذا ما ينبغي للشعب الفلسطيني أن يحذر منه، ويحاسب المسؤولين على طريقتهم في إدارة المسألة التي تعيش في قبضة المتاهات السياسية والوقت الضائع.

سيطرة إسرائيلية مطلقة على الإدارة الأمريكية:

إنّ المشكلة لدى الرئيس بوش، هي تغليب المصالح الإسرائيلية على المصالح الأمريكية في شؤون المنطقة وقضاياها وأزماتها السياسية، لأنّ الإدارة الأمريكية تخضع للمحافظين الجدد وللفريق الصهيوني الأمريكي الذين يستخدمون الرئيس الأمريكي في الضغط على الشعب الفلسطيني تارةً، باتّهام مقاومته التحريرية بالإرهاب، وطوراً من خلال خداعه بالتلويح بالدولة الفلسطينية التي تحاصرها المستوطنات الكبرى والصغرى والجدار العنصري، من دون أن يقوم بأيّ مبادرة للضغط القوي على حليفته اليهوديّة لمنعها من ذلك، باعتبار أنّ ما تقوم به سوف يغلق على الفلسطينيّين أبواب الدولة القابلة للحياة.

ولعلّ الدراسة السياسية الدقيقة لمؤتمر أنابوليس تدلّ على ذلك، وعلى أنّ هذا المؤتمر لم يحقّق للشعب الفلسطيني شيئاً، بل شجّع الصهاينة على استكمال خطتهم في بناء مستوطنات جديدة، مع تأكيد بعض مسؤوليهم أنّ أمريكا لا تملك أن تمنع ما يقومون به، لأنّ إسرائيل هي التي تحكم الإدارة الأمريكية، وليس العكس.

وهذا ما ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تفهمه من خلال السلوك الإسرائيلي الرسمي الذي يستغلّ المفاوضات معها من أجل اللعب على عنصر الوقت من جهة، والتظاهر بأنّ إسرائيل تعمل من أجل السلام، ولكن من دون تقديم أيّ شيء إلا في جزئيّات الأمور، بعيداً عن القضايا الأساسيّة من جهة ثانية.

أمريكا: انتهاك فاضح لحقوق الإنسان:

وعلى خطِّ آخر في المشهد الأمريكي، نرصدُ تجاهل الإدارة الأمريكية للكثير من التحذيرات خلال السنتين الأخيرتين حول عمل الشركات الأمنيّة الخاصّة في العراق، والتي تواصل عملها دون رقيب أو حسيب، فتقتل المدنيين العراقيّين بطريقة عشوائية، حتى إّها قتلت 17 مدنيّاً عراقيّاً في أيلول الماضي، ولم تحرّك وزارتا الدفاع والخارجيّة الأميركيّتين ساكناً أمام ذلك، لأنّ الإدارة لا تجد في قتل المدنيين العراقيّين أيّة مشكلة ما دامت هذه الشركات تحمي الجنود الأمريكيين، علماً أن قوّات الاحتلال لم تستجب للحكومة العراقيّة في مطالبتها بإلغاء تعاقدها مع هذه الشركات.

وليس هذا بدعاً من الأسلوب الأمريكي في عدم احترام المدنيّين في المناطق المحتلّة الذي يلتقي مع الأسلوب الإسرائيلي في فلسطين، أو مع أسلوب جنودها في قصف الآمنين الأبرياء في أفغانستان، لأن الحرب الأمريكية لا تحترم حقوق الإنسان ما دامت تحقّق أهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر.

باكستان: فوضى مميتة:

وهذا هو الذي نراه في البلدان التي تدفعها أمريكا إلى الانخراط فيما تسمّيه معاركها ضد الإرهاب، ومن خلال عملائها الذين توظّفهم لمراقبة شعوبهم، ومحاصرة هذه الشعوب وتقييد حرّياتها، وتزوير انتخاباتها بالوسائل القمعيّة والمخابراتية، كما هو الحال في باكستان، أو بإثارة الفوضى التي تتنقّل من بلدٍ إلى بلدٍ في مناطق الفقراء والمستضعفين، كما في أفغانستان وباكستان، التي ما تلبث أن تتحوّل إلى فوضى مميته وتفجيرات وحشية يذهب ضحيتها الناس، ويسقط في خضمها واقع سياسي بكامله، كما حصل بالأمس في باكستان في اغتيال "بوتو" وعدد من مناصريها.

إنّنا لا نجد موقعاً للتفاؤل بواقعيّة سياسية أمريكية، وبتحرّك أمريكي لبدء معالجة قضايا المنطقة وإحلال السلام والاستقرار فيها.

ومن جانب آخر، فإنَّنا نلاحظ في متابعة الأوضاع الداخليّة في أكثر من بلدٍ عربيّ أو إسلاميّ، أنّ الشعوب تفقد حرّيتها في التعبير عن مطالبها وحاجاتها واعتراضاتها على السياسة المتّبعة، ولا سيّما في التضييق على التظاهر السلمي، وفي مواجهة القضايا الحيويّة على مستوى الأوضاع القانونية الظالمة، أو القضائيّة المنحرفة، الأمر الذي يشعر معه المراقبون في الداخل والخارج، بأنّ هذه الحكومات المسيطرة تخاف من غضبة شعوبها، حتى لو كانت تطالب بالعدالة والمساواة، وترفض انحرافات الحاكم، وربّما تلجأ بعض الأنظمة إلى إطلاق الرصاص الذي قد يسقط فيه ضحايا.

ونحن نقول لهؤلاء: إنّ العالم الغربي الذي تحاول حكوماتكم أن تكون على مثاله، يحترم حكّامُه شعوبهم، بل إنّهم يخافون منها، لأن الشعب ـ من خلال تداول السلطة ـ قد يُسقط حكّامه ويستبدلهم بغيرهم. أمّا في بلادنا، فإنّ الشعب يخاف من حكّامه بفعل الاعتقالات التعسّفية أو الضغوط السياسية، كما أنّ الحكّام يصرّون على سياساتهم في الحكم حتّى لو عارضهم الشعب بأكمله.

لبنان: اجتهادات قانونيَّة متباينة:

أمّا لبنان، فإنَّ الباحثين يلاحظون أنَّ أغلب السياسيّين الذين لا يزالون يتصرّفون في شؤون البلد ويديرون أزماته، هم من أولئك الذين عاشوا الفشل الفظيع في تجاربهم السابقة، في العبث بدماء الناس على مستوى المجازر، أو باقتصادهم على مستوى السرقات للمال العام؛ ولذلك لم يستطع الوطن أن يرتفع إلى مستوى الحلول الواقعيّة التي تصنع للمواطن سياسةً جديدةً منفتحةً على مصالحه الحيويّة وقضاياه الاستراتيجية، الأمر الذي جعله يتخبّط في مشاكله، ويعاني في فقره، ويبقى مختنقاً في أزماته. وهذا ما نواجهه في الأزمة الجديدة التي تأخذ عنوان الاستحقاق الرئاسي، حيث يختلف رجال القانون في شرعية هذا القرار أو ذاك، والسياسيّون في هذه الحكومة أو تلك، مما يختلط فيه الأمر على الشعب في نظرته إلى الواقع، في غياب مجلس دستوريّ للدولة يضبط حركة الحكم والحاكمين، ويمنع من التلاعب بمصير البلد ودستوره.

إنّ البلد بحاجة إلى جيل جديد ودم جديد لم يتلوّث بالوحول التي يغرق فيها الواقع السياسي، ويتحرّك بها الذين لا يزالون يدمنون إثارة المشاكل وإسقاط الوطن لحساب أوضاعهم الشخصية أو الطائفيّة؛ وهذا ما ندعو إليه الشباب الذي يعيش في ضوء الشمس ولا يتخبّط في عتمات الظلام.

في يوم الغدير، وذكرى ولاية علي(ع)
علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والروح والقدوة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

بيعة يوم الغدير:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة/55).

ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب(ع)، الذي نحتفل بذكراه في هذا اليوم، الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو يوم الغدير، يوم الولاية.

وهو اليوم الذي وقف فيه رسول الله(ص) خطيباً أمام المسلمين في الصحراء، وكانت الشمس شديدة الحرارة، وأخذ بيد علي(ع) ورفعها حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال، فيما روي عنه(ص): «أيُّها الناس! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ـ ثلاث مرات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}(الأحزاب/6)، وهذا هو دليل حاكمية النبي(ص)، لأنّ للنبي صفتين: صفة النبي المبشِّر والنذير، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ}(الأحزاب/45-46)، وصفة الولاية على الأمة والحاكمية، التي تفرض على الأمة أن يطيعوه، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(النساء/80) ـ قالوا: بلى، قال: اللّهمّ اشهد. ثم قال(ص): فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذلْ من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار».

وانطلق المسلمون آنذاك، وعرفوا جميعاً أنّ النبي(ص) الذي كان في آخر آيامه لأنها كانت آخر حجة له وكانت حجة الوداع، قد نصّب علياً(ع) ولياً من بعده وخليفةً ووصياً وداعياً إلى الله سبحانه وتعالى.

ورواية الغدير هذه، هي من الروايات التي رواها السنَّة والشيعة على السواء، وهي، بحسب ما ورد في بعض كتب أهل السنّة، من الروايات المتواترة التي يُقطع بأنّها رواية صحيحة ليس فيها شكّ ولا ريب. ولكن بعض الناس الذين لم يشككوا في أصل الرواية، حاولوا أن يفسّروا كلمة (المولى) بشكل لا ينسجم مع طبيعة الجوِّ آنذاك، فقال بعضهم: إنها تعني: من كنت محبه فعليُّ محبه، أو من كنت ناصره فعليٌّ ناصره، ولكن هذا التفسير يعتبر من التفاسير المثيرة للجدل، أو تفسيراً ساذجاً، حيث إنّه لا معنى لأن يجمع النبي(ص) المسلمين في الحرِّ الشديد ليقول لهم هذا، وخصوصاً أنه ابتدأ كلامه بالقول: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، أي من كنت أولى به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه، أو من كنت أملك الحاكمية عليه، فعلي يملك الولاية والحاكمية عليه.

وهكذا كانت الولاية في خطِّ النبوّة، ولكن الأحداث التي أعقبت وفاة النبي(ص) أبعدت علياً(ع) عن موقع الخلافة، ولا نريد أن نخوض في هذا الحديث حفاظاً على الوحدة الإسلامية. ولكن نتساءل هنا: لماذا اختار النبي(ص) علياً(ع)؟ حيث لم يكن اختياره نابعاً من حالة شخصية تجاه علي(ع)، بل إن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة/67)، أي إن لم تنصِّب علياً في آخر حركة الرسالة، فكأنك لم تفعل شيئاً، مع أنّه(ص) كان قد بلّغ كلّ الرسالة. وعندما استجاب النبي(ص) لربه، أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة/3).

عليٌّ(ع) يتمثل برسول الله(ص):

لماذا عليٌّ(ع)، وقد كان في المسلمين من هو أكبر سناً من علي، وكانوا يصاحبون رسول الله(ص)، إذ كان(ع) عند وفاة النبي(ص) في سن الثلاثين؟ ولدى دراسة المسألة، نجد أنّه لم يكن في المسلمين، عند كبيرهم وصغيرهم، من يملك من العلم والفضل والجهاد والشجاعة والإخلاص لله ولرسوله، ومن العيش مع رسول الله ليلاً ونهاراً، كما كان علي(ع).

فنحن نعرف أنّ رسول الله(ص) قد أخذ علياً، وهو تقريباً في عمر السنتين، من أبيه أبي طالب، لأنّه كان كثير العيال، واحتضنه وربّاه، وعاش معه في الليل والنهار، حتى إن النبي(ص) عندما كان يخرج ليتعبَّد في غار حراء، كان يأخذ علياً(ع) معه، ولم تكن صحبة عليٍّ للنبي(ص) صحبة مربٍّ لطفل، بل كانت صحبة تربية وتعليم وتثقيف، وكان عليٌّ(ع) يقول، كما ورد في نهج البلاغة: «كان يُلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل ـ فصيل الناقة ـ أثر أمه». فكان(ع) يقتدي برسول الله(ص) في كلّ ما يعطيه من تعاليم، ويتمثّله في كلّ سيرته، فكانت كلمته كلمته، وخطوته خطوته، وابتهالاته ابتهالاته، وأخلاقه أخلاقه، حتى إنه عندما نزل الوحي على رسول الله(ص)، كان(ع) يسمع الوحي، وعندما حدّث رسول الله عن ذلك، قال له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنّك لست بنبي».

وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله بالرّسالة، كان علي(ع) يعيش في بيت رسول الله(ص)، ولم يكن هناك إلا رسول الله وخديجة وعليٌّ ثالثهما، وهكذا كان عليٌّ(ع) أوّل من استجاب للإسلام، وبعض الناس يقولون: "إن علياً كان أول من أسلم من الصبيان»! يريدون أن ينـزلوا من مكانة إسلام علي. وعليّ(ع) كان صبياً في سنه، ولكنه كان كبيراً في عقله. وروي أنّه قيل لعلي(ع): لماذا لم تستشر أباك أبا طالب عندما أسلمت؟ ـ ولو استشاره لأشار عليه بذلك، لأنه كان في قمة إسلامه، بعكس ما يقوله بعض المسلمين إنه مات كافراً ـ قال(ع): إن الله عندما خلقني لم يستشر أبي، ولذلك لا أستشير أبي عندما أريد أن أتبع رسالة الله.

علي(ع) فارس الإسلام:

كان عليٌّ في بيت رسول الله(ص)، فكان(ع) أوّل من عرف كلماته معنىً وفكراً وعقيدةً، ولذلك كان علي(ع) يعيش في مدرسة رسول الله(ص) في بيته، وكان يرافقه في مكة عندما يذهب إلى المسجد الحرام. وعندما كان مشركو قريش يغرون صبيانهم بالتعرض لرسول الله(ص)، كان علي يحامي عنه، بحيث إنه كان يعمد إلى الصبيان " فيجذب آذانهم"، حتى إنهم كانوا إذا رأوا علياً قالوا جاء "مُصلّب الآذان".

وعندما هاجر رسول الله (ص)، أوكل إلى علي(ع) أن يبقى في مكة ليؤدي عنه أماناته التي أودعها الناس عنده، وقد فدى رسول الله(ص) بنفسه حين نام على فراشه ليوفر له الحماية من قريش التي كانت تتربص به لقتله، وبذلك غطى أمير المؤمنين خروج الرسول من مكة إلى المدينة. ويُروى أنّ زوجات النبي(ص) كنّ يعشن الغيرة من علي(ع)، لأنه كان يُشغل رسول الله عنهن.

وانطلق المشركون في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، كان علي(ع) الفارس الأول، فكان فارس بدر، ولم يكن قد تدرَّب على القتال، ولكنّه انطلق من خلال عقله الذي يستوعب كلَّ العلوم والتجارب مع رسول الله(ص)، ويقال إنّ علياً(ع) قتل نصف المشركين في بدر وشارك المسلمين في قتل النصف الباقي، حتى قال جبرائيل، كما روي: «لا فتى إلا علي، ولا سيف إلاّ ذو الفقار».

وكان علي(ع) أيضاً فارس "أحد" و"الأحزاب"، حيث كان المشركون في تحالفهم مع اليهود يريدون القضاء على الإسلام والسيطرة على المدينة بكلِّ ما لديهم من قوة(ع)، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(الأحزاب/10-11). وعندما تحدّى عمرو بن عبد ودّ المسلمين، كان فارساً من المشركين يعدّ بألف فارس، وكان النبي(ص) يقول: من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة، وكان علي(ع) وحده يقول: أنا له يا رسول الله، فيقول له: اجلس، حتى كرَّر النبي الكلام ثلاث مرات. وعندما انطلق علي، رفع النبي(ص) يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ}(الأنبياء/89)، وقال(ص): «برز الإسلام كله إلى الشرك كله»، فقد تمثّل الإسلام بعليّ(ع)، بحيث كانت المسألة أنّه إذا انتصر انتصر الإسلام به(ع)، وإذا قتل قتل الإسلام، بينما تجسّد الشرك بعمرو بن عبد ود، وقد استطاع علي(ع) القضاء على هذا الفارس المشرك.

وهكذا انطلق علي(ع) في وقعة "حنين"، وفي كل معارك النبي(ص)، وقال له النبي(ص): «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار».

علي(ع) ومسؤولية الإسلام:

وكان علي(ع) مع رسول الله(ص)، وكان بيت علي(ع) بيت رسول الله (ص)، حتى إنه زوّجه ابنته فاطمة، وقال(ص)، والمسلمون الذين خطبوا السيدة فاطمة الزهراء(ع) منه(ص) كثيرون: «لو لم يكن عليٌّ لما كان لفاطمة كفء»، حيث إن علياً وفاطمة كانا تلميذين لرسول الله، تعلَّما منه، فعند فاطمة ما هو عند علي(ع) من العلم، لأنّها عاشت في أحضان أبيها، حيث كانت ترعاه، حتى قال(ص) عنها إنّها: «أم أبيها».

وهكذا كان علي(ع) وحده المؤهل لأن يكون الولي للمسلمين بعد رسول الله(ص)، لأنّه كان الأفضل والأعلم والأزهد والأتقى والأكثر جهاداً.

وبعد رسول الله، عندما أبعد عن حقّه، رأى أنّه مسؤول عن الإسلام وهو خارج الخلافة كما هو مسؤول عنه لو كان داخل الخلافة، ولذلك أعطى الذين تقدموه والذين أبعدوه النصيحة والمعونة، لأنه كان يريد لهم أن يسيروا على الخط السليم، حتى قال الخليفة الثاني آنذاك: «لولا عليٌّ لهلك عمر». فقد كان الإسلام همَّ عليِّ(ع)، لأنّه تحمَّل مسؤولية الإسلام منذ طفولته وفي شبابه وكهولته، وهو القائل: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً».

وقال(ع) عندما بويع: « لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاَّ يقاروا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». فلم يكن(ع) يفكر في الخلافة للدنيا، بل من أجل إحقاق الحق. وفي هذا قال ابن عباس: «دخلت على أمير المؤمنين(ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال(ع): والله لهي أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».

الولاية: ارتباط عقلي وروحي:

لقد ولد علي(ع) في الكعبة، واستشهد في بيت الله سبحانه وتعالى، لذلك عندما نقف في ذكرى ولايته(ع)، علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والرّوح والقدوة والحياة، لأنّ علياً(ع) لا يسير بنا إلاّ إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإنّ علياً(ع) يمثِّل القمَّةَ الشامخة الرفيعة في كلِّ ما أراده الله سبحانه للإسلام أن يتحرَّك فيه.

وعلى ضوء هذا، فإنّ علينا أن نقف في يوم الغدير لنبايع علياً(ع) في خطه، وفي كل ما أعطانا من علم وفكر وصلابة وصبر، وأن نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب(ع)، الحمد لله على إكمال الدين، الحمد لله على إتمام النعمة.

ونقول له: يا أبا الحسن، إنّنا معك، إننا ندعو الله أن يوفّقنا لأن نقتدي بك، وأن نصبر كما صبرت، وأن نسير كما سرت، وأن نأخذ بالإسلام كما أخذت به، وأن نخلص لله سبحانه كما أخلصت، لأنك كنت تحب الله كما أحبه رسوله، وقد قال(ص): «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله».

لقد أحببت الله وأحبّك الله، لأنّ حياتك كلّها كانت لله سبحانه وتعالى، ولم تكن حياتك لنفسك. فيا أمير المؤمنين، اشفع لنا عند الله، فإنّك قريب إلى الله سبحانه وتعالى. والسَّلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثُ حيّاً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ أموركم، وسيروا على سيرة رسول الله(ص) وعلي والأئمة من أهل بيته(ع)، وانطلقوا في مسؤوليَّاتكم في الحياة كلّها، واصبروا كما أراد الله للمؤمنين ذلك في مواجهتهم للكفر كلّه وللاستكبار كله، لأنّنا نواجه مشاكل وتحدّياتٍ كبرى، كما واجهها رسول الله(ص) وعليٌّ والأئمة من بعده(ع). ولذلك فإنّنا مسؤولون في هذا الخطِّ، كما كان علي(ع)، وعلينا أن نعمل على أساس أن نكون مسلمين بكلِّ عقولنا وقلوبنا وحركتنا وكلِّ تحدياتنا في العالم كله، فماذا هناك؟

إسرائيل: نشاطٌ استيطانيٌّ محموم:

تتابعُ إسرائيل الحرب الحقيقيّة على غزّة، برّاً وبحراً وجوّاً، معلنةً أنّ هدفها الاستراتيجي هو إسقاط نظام حماس في القطاع، فيما وجّهت ضربةً جديدةً إلى السلطة الفلسطينيّة بإعلان عزمها على بناء 740 وحدة سكنيّة جديدة في القدس والضفّة، وذلك في وقتٍ متزامن مع استئناف محادثات الحلّ النهائي بين الجانبين.

أمّا رئيس السلطة الفلسطينيّة، فإنّه لا يملك إلا التساؤل عن السبب الكامن وراء هذا النشاط الاستيطاني المحموم، مناشداً المجتمع الدولي كي يتدخّل. ولكنّه يعرف أنّ المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه الإدارة الأمريكية، لا يملك الضغط على إسرائيل ليمنعها من ذلك؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ المفاوضات النهائيّة القادمة لن تستطيع أن تحقّق للفلسطينيّين أيّ مكسب، لأنّها تملك مواقع الاستيطان والجدار الفاصل ومصادر المياه، ولا يملك الفلسطينيون في السلطة أيّ قوّة ضاغطة في الحلّ الذي يحقّق لهم أهدافهم الاستراتيجية التحريرية، ولا سيّما أنّ الشعب الفلسطيني قد عاش الانقسام بين الضفّة الغربية وغزّة، وأنّ باب الحوار مسدود.

إنّنا نخشى أن يتحوّل الموقف الفلسطيني إلى موقف مستضعف لا يملك أيّ قوّة عربيّة أو دولية مساندة، لأنّ المجتمع الدولي، بقيادة أمريكا، يعمل على تحقيق الاستراتيجية الاسرائيليّة من دون أن يحقّق شيئاً لفلسطين، وهذا ما ينبغي للشعب الفلسطيني أن يحذر منه، ويحاسب المسؤولين على طريقتهم في إدارة المسألة التي تعيش في قبضة المتاهات السياسية والوقت الضائع.

سيطرة إسرائيلية مطلقة على الإدارة الأمريكية:

إنّ المشكلة لدى الرئيس بوش، هي تغليب المصالح الإسرائيلية على المصالح الأمريكية في شؤون المنطقة وقضاياها وأزماتها السياسية، لأنّ الإدارة الأمريكية تخضع للمحافظين الجدد وللفريق الصهيوني الأمريكي الذين يستخدمون الرئيس الأمريكي في الضغط على الشعب الفلسطيني تارةً، باتّهام مقاومته التحريرية بالإرهاب، وطوراً من خلال خداعه بالتلويح بالدولة الفلسطينية التي تحاصرها المستوطنات الكبرى والصغرى والجدار العنصري، من دون أن يقوم بأيّ مبادرة للضغط القوي على حليفته اليهوديّة لمنعها من ذلك، باعتبار أنّ ما تقوم به سوف يغلق على الفلسطينيّين أبواب الدولة القابلة للحياة.

ولعلّ الدراسة السياسية الدقيقة لمؤتمر أنابوليس تدلّ على ذلك، وعلى أنّ هذا المؤتمر لم يحقّق للشعب الفلسطيني شيئاً، بل شجّع الصهاينة على استكمال خطتهم في بناء مستوطنات جديدة، مع تأكيد بعض مسؤوليهم أنّ أمريكا لا تملك أن تمنع ما يقومون به، لأنّ إسرائيل هي التي تحكم الإدارة الأمريكية، وليس العكس.

وهذا ما ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تفهمه من خلال السلوك الإسرائيلي الرسمي الذي يستغلّ المفاوضات معها من أجل اللعب على عنصر الوقت من جهة، والتظاهر بأنّ إسرائيل تعمل من أجل السلام، ولكن من دون تقديم أيّ شيء إلا في جزئيّات الأمور، بعيداً عن القضايا الأساسيّة من جهة ثانية.

أمريكا: انتهاك فاضح لحقوق الإنسان:

وعلى خطِّ آخر في المشهد الأمريكي، نرصدُ تجاهل الإدارة الأمريكية للكثير من التحذيرات خلال السنتين الأخيرتين حول عمل الشركات الأمنيّة الخاصّة في العراق، والتي تواصل عملها دون رقيب أو حسيب، فتقتل المدنيين العراقيّين بطريقة عشوائية، حتى إّها قتلت 17 مدنيّاً عراقيّاً في أيلول الماضي، ولم تحرّك وزارتا الدفاع والخارجيّة الأميركيّتين ساكناً أمام ذلك، لأنّ الإدارة لا تجد في قتل المدنيين العراقيّين أيّة مشكلة ما دامت هذه الشركات تحمي الجنود الأمريكيين، علماً أن قوّات الاحتلال لم تستجب للحكومة العراقيّة في مطالبتها بإلغاء تعاقدها مع هذه الشركات.

وليس هذا بدعاً من الأسلوب الأمريكي في عدم احترام المدنيّين في المناطق المحتلّة الذي يلتقي مع الأسلوب الإسرائيلي في فلسطين، أو مع أسلوب جنودها في قصف الآمنين الأبرياء في أفغانستان، لأن الحرب الأمريكية لا تحترم حقوق الإنسان ما دامت تحقّق أهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر.

باكستان: فوضى مميتة:

وهذا هو الذي نراه في البلدان التي تدفعها أمريكا إلى الانخراط فيما تسمّيه معاركها ضد الإرهاب، ومن خلال عملائها الذين توظّفهم لمراقبة شعوبهم، ومحاصرة هذه الشعوب وتقييد حرّياتها، وتزوير انتخاباتها بالوسائل القمعيّة والمخابراتية، كما هو الحال في باكستان، أو بإثارة الفوضى التي تتنقّل من بلدٍ إلى بلدٍ في مناطق الفقراء والمستضعفين، كما في أفغانستان وباكستان، التي ما تلبث أن تتحوّل إلى فوضى مميته وتفجيرات وحشية يذهب ضحيتها الناس، ويسقط في خضمها واقع سياسي بكامله، كما حصل بالأمس في باكستان في اغتيال "بوتو" وعدد من مناصريها.

إنّنا لا نجد موقعاً للتفاؤل بواقعيّة سياسية أمريكية، وبتحرّك أمريكي لبدء معالجة قضايا المنطقة وإحلال السلام والاستقرار فيها.

ومن جانب آخر، فإنَّنا نلاحظ في متابعة الأوضاع الداخليّة في أكثر من بلدٍ عربيّ أو إسلاميّ، أنّ الشعوب تفقد حرّيتها في التعبير عن مطالبها وحاجاتها واعتراضاتها على السياسة المتّبعة، ولا سيّما في التضييق على التظاهر السلمي، وفي مواجهة القضايا الحيويّة على مستوى الأوضاع القانونية الظالمة، أو القضائيّة المنحرفة، الأمر الذي يشعر معه المراقبون في الداخل والخارج، بأنّ هذه الحكومات المسيطرة تخاف من غضبة شعوبها، حتى لو كانت تطالب بالعدالة والمساواة، وترفض انحرافات الحاكم، وربّما تلجأ بعض الأنظمة إلى إطلاق الرصاص الذي قد يسقط فيه ضحايا.

ونحن نقول لهؤلاء: إنّ العالم الغربي الذي تحاول حكوماتكم أن تكون على مثاله، يحترم حكّامُه شعوبهم، بل إنّهم يخافون منها، لأن الشعب ـ من خلال تداول السلطة ـ قد يُسقط حكّامه ويستبدلهم بغيرهم. أمّا في بلادنا، فإنّ الشعب يخاف من حكّامه بفعل الاعتقالات التعسّفية أو الضغوط السياسية، كما أنّ الحكّام يصرّون على سياساتهم في الحكم حتّى لو عارضهم الشعب بأكمله.

لبنان: اجتهادات قانونيَّة متباينة:

أمّا لبنان، فإنَّ الباحثين يلاحظون أنَّ أغلب السياسيّين الذين لا يزالون يتصرّفون في شؤون البلد ويديرون أزماته، هم من أولئك الذين عاشوا الفشل الفظيع في تجاربهم السابقة، في العبث بدماء الناس على مستوى المجازر، أو باقتصادهم على مستوى السرقات للمال العام؛ ولذلك لم يستطع الوطن أن يرتفع إلى مستوى الحلول الواقعيّة التي تصنع للمواطن سياسةً جديدةً منفتحةً على مصالحه الحيويّة وقضاياه الاستراتيجية، الأمر الذي جعله يتخبّط في مشاكله، ويعاني في فقره، ويبقى مختنقاً في أزماته. وهذا ما نواجهه في الأزمة الجديدة التي تأخذ عنوان الاستحقاق الرئاسي، حيث يختلف رجال القانون في شرعية هذا القرار أو ذاك، والسياسيّون في هذه الحكومة أو تلك، مما يختلط فيه الأمر على الشعب في نظرته إلى الواقع، في غياب مجلس دستوريّ للدولة يضبط حركة الحكم والحاكمين، ويمنع من التلاعب بمصير البلد ودستوره.

إنّ البلد بحاجة إلى جيل جديد ودم جديد لم يتلوّث بالوحول التي يغرق فيها الواقع السياسي، ويتحرّك بها الذين لا يزالون يدمنون إثارة المشاكل وإسقاط الوطن لحساب أوضاعهم الشخصية أو الطائفيّة؛ وهذا ما ندعو إليه الشباب الذي يعيش في ضوء الشمس ولا يتخبّط في عتمات الظلام.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير