مع الصّحابي مالك الأشتر(رض)

مع الصّحابي مالك الأشتر(رض)

نلتقي اليوم بشخصية حركية مجاهدة واعية في كلِّ مجالاتها، وهي شخصية مالك الأشتر(رض)؛ هذا الإنسان الذي يتحدّث عنه المؤرخون، أنَّه أسلم في حياة النبيّ(ص) عندما سمع بالإسلام، ولكنَّ ظروفه لـم تساعده على أن يلتقي النبيّ(ص) فيكون من أصحابه. وقد رُوي عن رسول اللّه(ص) أنَّه قال عنه: "إنَّه المؤمن حقّاً"[1]، وهي شهادة عظيمة من رسول اللّه(ص)، من خلال ما حدّث عنه، ما يوحي بأنَّ الرّجل كان من المسلمين الذين امتلأت عقولهم بالإسلام، ونبضت قلوبهم به، وعاشت حياتهم لأجله، بالرغم من بُعده عن مجتمع الإسلام، لأنَّ الإنسان الذي ينفتح على الإسلام وهو في جوّ رسول اللّه(ص)، يختلف عن الإنسان الذي عاش الإسلام وهو في مناخ آخر، فإذا استطاع أن يبلغ الدرجة العليا في وعيه الإسلامي وهو في مناخ بعيد عن المناخ الإسلامي في أجوائه الفكريّة والروحيّة والعمليّة، فإنَّ ذلك يمثِّل درجةً عالية بالنسبة إليه.

وقد انطلق مالك الأشتر بعد رسول الله(ص) ليدخل المجتمع الإسلامي من الباب الواسع، فكان المجاهد في الفتوحات الإسلامية عندما انطلق المسلمون بها بعد رحيل رسول اللّه(ص)، كما يحدّث المؤرخون. وقد ارتبط بالإمام عليّ(ع) مبكّراً عندما عاش فكره وروحه وجهاده واندمج معه بكلِّ شخصيته، وهذا ما نقرأه في العلاقة الوثيقة التي كانت تشدّه إلى عليّ(ع) وتشدّ عليّاً(ع) إليه، بحيثُ تشعر أنَّ عليّاً(ع)، كان ينظر إلى هذا الرّجل كشخصٍ يمثِّل بمفرده قوّةً له وللإسلام وللمسلمين آنذاك، بحيثُ إنَّه عندما استشهد عبّر عنه الإمام(ع)، بأنَّ ركناً كبيراً قد انهار.

لذلك، نحاول هنا أن ندرس بعض عناصر هذه الشخصية من خلال بعض مواقفه، ونبدأ بكتاب عليّ(ع) إلى أهل مصر، عندما استخلفه ليكون والياً على مصر، ونستخلص من خلال ذلك نظرة الإمام عليّ(ع) إلى المسلمين في مصر، الذين عارضوا الوالي الذي أرسله عثمان وعاث في الأرض فساداً، فواجهوه بكلِّ قوّة وأبعدوه عن موقع الولاية.

من كتاب له(ع) إلى أهل مصر لما ولّى عليهم الأشتر: "من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّه حين عصي في أرضه"[2]، فالإمام(ع) كان يُواكب الأحداث، وكان يريد أن يؤكّد هذا الخطّ، وهو خطّ المعارضة لكلّ سلطة تعصي اللّه في النّاس، فتُفسد حياتهم وتتحرّك بالظلم فيهم، وكان يريد للنّاس أن يغضبوا لذلك، وأن لا يسكتوا، ولا يقفوا على الحياد، بل أن يواجهوا الظلم، ولا سيّما إذا كان متمثّلاً في المعصية الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، من خلال انحرافه عن البرنامج الذي وضعه اللّه للعدل في النّاس.

"وذهب بحقِّه"، أي أنَّ أهل مصر غضبوا لحقّ اللّه في العدل، فاللّه يأمر بالعدل، وقد أقام الحياة كلّها على أساس الحقّ والعدل. "فضرب الجور سرادقه على البرّ والفاجر"، والسرادق مثل الخيمة، وهو الغطاء الذي فوق صحن البيت، وهذا هو كناية عن سيطرة الجور المطلقة على المجتمع. "والمقيم والظاعن"، أي ضرب الجور سطوته على المقيم في البلد والظاعن عنه أي المسافر، "فلا معروف يُستراح إليه"، فقد تركت السلطة المعروف الذي يطمئن النّاس ويسكنون إليه، "ولا منكر يُتناهى عنه".

تلك كانت الصورة في السلطة (الإسلامية)، التي كانت تسيطر على مصر قبل أن يُرسل إليها الإمام(ع) الأشتر(رض): "أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد اللّه"[3]، يعيش العبودية للّه من خلال إيمانه به وطاعته له وجهاده في سبيله. "لا ينام أيام الخوف"، فلا يبتعد عن الخوف لينجو بنفسه، ولكنَّه يقتحم الخوف في مواقعه، ويواجهه بكلِّ قوّة، من أجل أن يطرد شرّه عن النّاس. والمقصود بأيام الخوف، تلك الأيام التي يسيطر فيها الظلم، ويخاف النّاس فيها سطوة الظالـم وسيطرته، "ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع"، أي لا يجبن في ساعات الصراع والشدّة والقتال. "أشدّ على الفجار من حريق النّار"، من خلال قوّته وبأسه، "وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ".

وهذه نقطة على غاية من الأهمية، فنحن نعرف أنَّ مالكاً هو من أصحاب عليّ(ع) المميزين، ومع ذلك فإنَّه عندما أرسله إليهم قال هذه الكلمة: "اسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ"، أي لـم يُطالبهم بالطاعة المطلقة له، بل قال ادرسوا ما يأمركم به وينهاكم عنه، فإنَّ الرّجل يتحرّك في الحقّ، ولكنَّه إذا أخطأ الحقّ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له، وليكن الحقّ الأساس في علاقاتكم بالوالي وبالحاكم كمنطلقٍ ونهجٍ عام.

ونستفيد من هذه الفكرة على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي، أنَّ الإنسان المسؤول عندما يُرسل مندوباً عنه، فعليه أن لا يُعطيه الثقة المطلقة، بحيث يطلب من النّاس إطاعته، بل يُطالب بذلك من خلال ثقته به، بشرط أن يكونوا واعين لما يأمرهم به وينهاهم عنه، ليقارنوا بينه وبين ما يعرفون من الحقّ، فإذا كان مع الحقّ ساروا معه، وإذا لـم يكن معه لـم يسيروا معه، وهذا ما نلاحظ خلافه لدى كلّ المسؤولين، سواء كانوا من الدينيين أو من السياسيين أو الاجتماعيين أو الحزبيين، فهم يُعطون الثقة المطلقة، ويطلقون يد مندوبيهم أو المسؤول المرسل من قبلهم على النّاس، فإذا ما أخطأ الحقّ كانوا معه ضدّ النّاس، وكأنَّه لا يخطئ، وهذه هي العصبية العمياء، الطائفية منها والعائلية والحزبية، ونحن أمّة العصبيات، ولكنَّ عليّاً كان مع الحقّ وكان الحقّ معه، وما ترك له الحقّ من صديق، حتّى أقرب النّاس إليه.

فلا بُدَّ من أن نستوحي من كلمة الإمام عليّ(ع) الكثير من المعاني، لأنَّ بعض النّاس يريدون السير مع عليّ(ع) وهو في رحاب اللّه، ولكنَّهم ينسبون إليه الباطل زوراً وبهتاناً، والحال أنَّ الإمام(ع) مع الحقّ، ولا مكان له مع الباطل، ولا مكان للباطل معه.

سيف اللّه:

"فإنَّه سيفٌ من سيوف اللّه"، وهذا هو الوسام الرائع العظيم، أن تقول عن شخص إنَّه سيفٌ من سيوف اللّه، لأنَّ ذلك لا يصحّ إلاَّ إذا كان شاهراً سيفه في ساحة الحرب، وسيفه (أي مواقفه) في ساحات السلم، أي أنَّه يتحرّك في خطِّ اللّه، ويستقيم في محبته، مهما اختلفت الأمور، ولا يشهره في غيـر هذا الاتجاه. فهذا تقييم كبيـر وكلمة رائدة لـم يقلها عليّ(ع) لأحد. "لا كليل الظُبَة"، والظُبَة هو حدّ السيف والسنان، والكليل الذي لا يقطع، فهو ليس من قبيل السيوف التي لا تقطع، فإذا توجّه إلى أيّ موقع فإنَّه يقطعه، أي أنَّه سيفٌ بتّار. "ولا نابي الضريبة"، ونبا الشيء إذا ارتفع، فما لك إذا توجه إلى شيء لا يرتفع ولا يبتعد عنه، بل يواجهه ويقع فيه.

"فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا"، لأنَّه يعرف كيف يوجه الأمر بالحرب فيما يُصلح النّاس، وكيف يوجه الأمر بالقعود فيما يُصلح أمرهم. "فإنَّه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخّر، ولا يقدّم إلاَّ عن أمري"، أي يريد أن يقول إنَّ مالكاً الأشتر هو نفسي، فإذا أمركم بالنفير، فأنا الذي آمركم به، وعندما يأمركم بالإقامة، فهذا هو أمري، وعندما يحجم عن الانطلاق في أي طريق، فإنّي أنا الذي أحجم، وعندما يقدم، فإنّي أنا الذي أقدم، إنَّه يمثِّل موقفي في كلِّ مواقفه.

"وقد آثرتكم به على نفسي"، فأنا أحتاجه للرأي وللحركة وللدفاع، وليحوط لي ما أريد حياطته من المجتمع، لكنَّني عندما درست أوضاعكم، وأدركت أنَّ مصر تمثِّل الثغر الذي لا بُدَّ من رعايته وحمايته وتقويمه، بعثت لكم هذا الرّجل الشديد في اللّه. "لنصيحته لكم"، فلقد جاءكم ناصحاً، "وشدّة شكيمته على عدوّكم"، والشكيمة هي الحديدة المعترضة التي تضبط الفرس من الانطلاق، وهذا كناية عن قوّة النفس وشدّة البأس. "والسَّلام".

عهد عليّ(ع) إلى مالك الأشتر:

هذه هي رسائل الإمام(ع) إلى أهل مصر في تولية الأشتر عليهم، وكان الإمام(ع) عندما أرسل مالكاً الأشتر إلى أهل مصر، كتب عهده إليه، كقانون إداري ينظّم له كلّ قواعد الحكم في النّاس، ولايزال عهد الإمام لمالك الأشتر يمثِّل الوثيقة التي تقنّن النظام الإداري في جانبه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والأمني، بحيث إنَّ الباحثين لا يزالون يبحثون ليروا فيه النظرية الإسلامية في الحكم والإدارة، أي كيف يُمارس الحاكم المسلم السلطة الإسلامية على النّاس في هذا الخطّ القانوني، والذي يمثِّل القاعدة الفكريّة الإسلامية، والخطّ الأخلاقي الإسلامي والنظام الإداري.. ولعلّنا نرى أنَّ الإمام(ع)، لـم يبعث هذا العهد إلا إلى لأهل مصر مع مالك الأشتر، فلقد كان للإمام(ع) عمَّالٌ كثيرون، وكان يعظهم ويرشدهم ويعطيهم بعض التوجيهات والتعليمات الكثيرة، ولكنَّه لـم يعطِ أيَّ والٍ من ولاته مثل هذه الثروة القانونية والإدارية، ومن ذلك نفهم أنَّ الإمام(ع) كان يهتمّ بمصر. وفي عهده لمالك، يتحدّث الإمام(ع) عن مصر، أنه قد مرّت عليها حضارات ودول، فأراد الإمام(ع) أن يقدّم الإسلام لهؤلاء بطريقة تميّزه عن باقي الحضارات.

كما أنَّ الإمام(ع) كان يثق بأنَّ مالكاً الأشتر يملك من الفكر والوعي ما يستطيع أن يستوعب به كلّ هذا النظام الإداري الإسلامي وينفّذه، فعندما تقدّم برنامجاً فيه الكثير من العمق وحركية السلطة وتنظيم الإدارة لشخص معيّن، فلا بُدَّ من أن يكون ممن يملك الثقافة والوعي والروحية والإخلاص، ليعي هذا البرنامج في آفاقه وتطلّعاته. فنحن نستطيع أن نفهم القدرة الفكرية التي يتميّز بها مالك الأشتر، من خلال دراستنا لعهد الإمام(ع) إليه. وكان معاوية يعرف قيمة مالك الأشتر، كما كان يعرف قيمة محمَّد بن أبي بكر، وكان يهتم اهتماماً شديداً بمصر، لأنَّه كان يريد أن يجمع لنفسه مصر والشام. ولذلك، عندما أرسل الإمام(ع) محمَّد بن أبي بكر، دسَّ معاوية له السمّ. وعندما أرسل الإمام(ع) مالكاً الأشتر، تآمر عليه أيضاً، وعمد إلى تنفيذ مكيدته، عن طريق إعفائه لأحد الأشخاص من الضرائب المتراكمة عليه، فأقام مع مالك علاقة وثيقة، ودعاه إلى مأدبة، ودسَّ إليه السمّ في شراب عسل، واستشهد مالك مسموماً. ويُنقل عن معاوية قوله عند استشهاد مالك: "كان لعليّ يمينان فقطعتهما"[4]، وقال: "إنَّ للّه جنوداً من عسل"[5].

موقف الأشتر من رفع المصاحف:

وعندما نريد أن ننفذ إلى جوانب أخرى في شخصية مالك الأشتر، فإنَّنا نلاحظ أنَّ هناك عدّة نصوص تتحدّث عن تاريخ الرّجل، ونلتقط منها بعض اللقطات، حيثُ يُقال عن مالك، إنَّه شهد أكثر مشاهد عليّ(ع): الجمل وصفّين، والموقف المميّز له كان في صفين، حيثُ كاد أن يحسم الحرب لمصلحة عليّ(ع) ويهزم معاوية، ولكن لما رفعت المصاحف تغيّر الوضع.

ينقل المؤرخون أنَّـه عندما اشتدّت المعركة، ومالت كفة النصر لمصلحة جيش الإمام عليّ(ع)، استشار معاوية عمرو بن العاص، فأشار عليه برفع المصاحف، وتنادى القوم أن تعالوا لكتاب اللّه ليحكم بيننا، وعندما سمع الإمام عليّ(ع) ذلك قال: "واللّه ما رفعوها حقّاً، إنَّهم يعرفونها ولا يعملون بها، وما رفعوها لكم إلاَّ خديعة ومكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة"[6]، أي أصبحنا من النصر قاب قوسين أو أدنى، «فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولـم يبقَ إلاَّ أن يقطع دابر الذين ظلموا"، فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنَّعين بالحديد وشاكي السّلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد سوّدت جباههم من السجود، فلقد كانوا يسجدون من دون وعي ولا عقل ولا تقوى، يتقدّمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه يا عليّ: أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلاَّ قتلناك.

"فقال لهم: "أنا أوَّل من دعا إلى كتاب اللّه، وأوَّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إنّي إنَّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنَّهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنَّهم قد كادوكم"، فهذه مؤامرة وخديعة، "وأنَّهم ليسوا بالعمل بالقرآن يريدون"، بل أرادوا أن يفرّقوا المجتمع ويمزّقوه، وأن يجعلوكم في موضع النـزاع، "قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك"، وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأرسل إليه يزيد بن هانئ، فأتاه فبلغه، فقال الأشتر: قل له، (أي للإمام)، ليس هذه الساعة ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقعي، إنّي قد رجوتُ أن يفتح اللّه بي فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ فأخبره، وارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام". وهذه هي مشكلة القيادة الواعية حينما تُبتلى بقاعدة غير واعية يمكن لكلِّ لاعبٍ أن يتلاعب بها ويخدعها، "فقال له القوم: واللّه ما نراك إلاَّ أمرته بقتال القوم". وكانوا أغبياء يشكّكون بكلّ حركة تصدر عن عليّ(ع)، فلقد اتهموه أنَّه لـم يأمر مالكاً بالانسحاب، "قال: رأيتم ساررت رسولي؟ أليس إنَّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون!" قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلا واللّه اعتزلناك! قال: "ويحك يا يزيد، قل له أقبل، فإنَّ الفتنة قد وقعت"، أي أنَّ معاوية انتصر الآن، لأنَّه مزّق الجيش، "فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: ألرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: أمّا واللّه لقد ظننتُ أنَّها حينما رُفعت ستوقع اختلافاً وفرقة، وقال: اللّه لنا، أينبغي أن ندع هذا أو ننصرف عنه، فقال له يزيد: أتحبَّ أنَّك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوّه، قال: سبحان اللّه، واللّه ما أحبّ ذلك، قال: فإنَّهم قالوا لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا عثمان، أو لنسلمك إلى عدوّك". ومن هنا، نعرف حجم مأساة الإمام عليّ(ع)، التي اعتبرها أعظم من مأساة الإمام الحسين(ع)، لأنَّه ابتلي بهذا المستوى من النّاس.

"فأقبل الأشتر، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحين علوتـم القوم فظنّوا أنَّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه فيها وسنّة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فواقاً، فإنّي قد أحسست بالفتح، قالوا: لا، قال: فأمهلوني عدو الفرس، فإنّي قد طمعت في النصرة، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك، قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقّين، حيثُ كنتم تقتلون أهل الشام، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم الآن محقّون، فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم كانوا خيراً منكم في النّار! قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه، إنّا لسنا نطيعك فاجتنبنا، قال: خدعتم واللّه فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود، كنّا نظنُّ أنَّ صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق في لقاء اللّه، فلا أرى فراركم إلاَّ إلى الدنيا من الموت ألا قبحاً يا أشباه النيب، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، فسبّوه وسبَّهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته، وضرب بسوطه وجوه دوابّهم، فصاح بهم عليّ فكفّوا".

"ولما كتبت صحيفة التحكيم دعيَ لها الأشتر ليوقّعها فيمن وقّعها"، بصفته قائداً عسكرياً، "فقال: لا صحبتني يمينٌ، ولا نفعتني بعدها الشمال، إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلحٍ أو موادعة، أولستُ على بيّنة من ربّي ويقين من ضلالة عدوّي، أولستم قد رأيتم الظفر إن لـم تجمعوا على الخور؟ فقال له رجل: إنَّك واللّه ما رأيت ظفراً ولا خوراً، هلّم فاشهد على نفسك وأقرّ بما في هذه الصحيفة، فإنَّه لا رغبة بك عن النّاس، قال: بلى واللّه إنَّ لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك اللّه بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرّم دماً، ثُمَّ قال: لكن رضيت بما صنع أمير المؤمنين، ودخلت فيما دخل فيه، وخرجت عمّا خرج منه، فإنَّه لا يدخل إلا في هدى وصواب"[7]. فأنا لست مقتنعاً بهذا التحكيم، وأنا أعلمُ أنَّ عليّاً(ع) ليس مقتنعاً بذلك، لكن هناك ضغطاً مورس عليه، وعليٌّ(ع) أميري، وأنا مستعدٌ لأن أسير خلفه معصوب العينين، لأنَّه مع الحقِّ والحقّ معه، ولذا فأنا أطيعه. وهذا الموقف يبيّن مدى إخلاص الأشتر، فهو القائد الذي يُطيع اللّه من خلال إطاعته وليّه.

تقييم الأشتر لعليّ (ع):

والآن دعونا نتعرّف إلى تقييم مالك الأشتر لعليّ(ع)، فهو لـم يكن فقط مقاتلاً من الطراز الأوّل، بل كان يُحاول أن يعرّف النّاس بعليّ(ع)، وكان يريد أن يجمع النّاس على طاعة عليّ(ع)، وأن يبتعد بهم عن كلّ ما كان يُثار ضدّه من قبل القاسطين والناكثين والمارقين.

قال في خطبة له: "معنا ابن عم نبيّنا، وسيف من سيوف اللّه عليّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه، لـم يسبقه إلى الصلاة ذكر حتّى كان شيخنا، لـم يكن له صبوة"، فلم يصب إلى دنيا أو شيء من الدنيا، "ولا نبوّة"، فلم ينحرف قيد أنملة، "ولا هفوة ولا سقطة"، لأنَّه المعصوم الذي لا يخطئز "فقيه في دين اللّه تعالى، عالـم بحدود اللّه، وعليكم بالحزم والجدّ. واعلموا أنَّكم على حقّ وأنَّ القوم على باطل، إنَّما تقاتلون معاوية، وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى ما هو لكم من أصحاب محمَّد، أكثر ما كان معكم رايات"، فهذه الرايات التي هي معكم، "فقد كانت مع رسول اللّه"، وكلُّ فريقٍ يعرف من خلال الرايات التي ترفع فيه، "وعدوُّنا مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول اللّه، فمن يشكّ في قتال هؤلاء إلا ميّت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين إمّا الفتح أو الشهادة، عصمنا اللّه وإيّاكم بما عَصَمَ به من أطاعه، وألهمنا وإيّاكم طاعته وتقواه، واستغفر اللّه لي ولكم"[8].

وله خطبة أخرى في صفين: يقول فيها: "الحمد للّه الذي جعل فينا ابن عمّ نبيّه أقدمهم هجرةً وأوّلهم إسلاماً، سيفٌ من سيوف اللّه صبّه اللّه على أعدائه. فانظروا إذا حمي الوطيس، وثار القتال، وتكسّر المران، وجالت الخيل بالأبطال، فلا أسمع إلا غمغمةً أو همهمةً، فاتبعوني وكونوا في أثري"[9]. وهذا يعني وعي الأشتر لعليّ(ع) ولمنـزلته ولأوضاعه كلّها.

تقييم عليّ (ع) للأشتر(رض):

وفي المقابل، دعونا ننظر كيف كان عليّ(ع) يقيِّم مالكاً الأشتر(رض). يقول(ع): "كان لي مالك كما كنتُ لرسول اللّه(ص)"[10]، وهذه مرتبة عالية، ولقد كان من دعاء النبيّ(ص) عندما برز عليّ(ع) لعمرو بن عبد ودّ: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وأنتَ خَيْرُ الوارِثِينَ}[11]. وكان المسلمون كلُّهم معه.

وعندما بلغه موت الأشتر، قال: "إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمدُ للّه ربِّ العالمين، اللّهمَّ إنّي أحتسبه عندك، فإنَّ موته من مصائب الدهر، ثُمَّ قال: رحم اللّه مالكاً، فقد كان وفياً بعهده، وقضى نحبه ولقيَ ربَّه، مع أنّا قد وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كلِّ مصيبةٍ بعد مصابنا برسول اللّه، فإنَّها من أعظم المصائب"[12]. وهذه كلمة لـم يقلها عليّ(ع) في فُقد رجلٍ من أصحابه.

وحدّث أشياخ النخع، قالوا: "دخلنا على أمير المؤمنين حيثُ بلغه موت الأشتر، فوجدناه يتلهَّف ويتأسَّف عليه، ثُمَّ قال: "للّه درُّ مالك، وما مالك؟! واللّه لو كان من جبل لكان فنداً"، والفند هي القطعة العظيمة من الجبل، "ولو كان من حجر لكان صلداً"، والصلد هو الصلب شديد الصلابة، "أمّا واللّه ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً"، فلأنَّك كنت تمثِّل قوّة كبيرة لعالـم الإسلام، فإنَّه سيحزن لفقدك، ولكن عالـم الضلال سيفرح بموتك، لأنَّك كنتَ شديداً عليه، "على مثل مالك فلتبكِ البواكي، وهل موجودٌ كمالك"، أي ما أقول في رجلٍ هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق.

ومن خلال ذلك نعرف ـ أيُّها الأحبّة ـ قيمة مالك الأشتر، فربَّما لـم ينقل لنا التاريخ الكثير من خصائصه وعناصره الشخصية، ولكنَّ كلمات عليّ(ع) عنه، تدلّنا على أنَّ الرّجل كان في المنـزلة الخصيصة من عليّ(ع)، كما كان عليّ(ع) في المنـزلة الخصيصة من رسول اللّه(ص).

الأشتر وأبو ذر:

ونحن نعرف أيضاً أنَّ مالكاً الأشتر(رض) كان صديقاً لأبي ذر(رض)، وكان هو الذي دفنه، فحين نفي أبو ذر ووافته المنية، بكت امرأته، لأنَّها لـم تجد من يساعدها على دفنه، فقال لها إنَّ رسول اللّه(ص) حدّثني أنَّ جماعةً من المسلمين يأتون فيقومون بتجهيزي ودفني، فإذا رأيت نفراً من النّاس قادمين قولي: هذا صاحب رسول اللّه قد مات، فتعالوا أعينوني على دفنه، وصادف أنَّ الأشتر وأصحابه في قافلة مرّت بالقرب منهم، فقاموا بدفنه، وقد أبّنه بكلمةٍ تدلّ على موقفه الحاسم في مواجهة الحكم آنذاك، الذي منع النّاس من أن يودّعوا أبا ذرّ، ومنعهم من أن يساعدوه أن يتعاطفوا معه.

فعندما دفنه قام على قبره، ثُمَّ قال: "اللّهمَّ هذا أبو ذرّ صاحب رسول اللّه(ص)، عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لـم يغيِّر ولـم يبدّل"، أي بقي على ما فارقك عليه، فلقد كان من الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، "لكنَّه رأى منكراً فغيّر بلسانه وقلبه"، فصرخ بالذين صنعوا المنكر أن يبتعدوا عنه، "حتّى جفي، ونفي، وحرم، واحتقر، ثُمَّ مات وحيداً غريباً، اللّهمَّ فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[13].

وهناك مسألة لا بُدَّ من الإشارة إليها، وهي أنَّ الطبري ذكر في تاريخه أنَّ الأشتر كان ممن نقموا على عثمان حكمه، ولكنَّه اعتزل الفتنة، فلم يُشارك في القتال ضدَّه ما قد يوحي بأنَّه لـم يرد للموقف أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، لأنَّ ذلك قد لا يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين، من خلال النتائج السلبية في وقت الفتنة وما بعدها.

الغرض من دراسة هذه الشخصيات:

أيُّها الأحبّة، عندما ندرس هذه الشخصيات الإسلامية في هذا المستوى الرفيع، فإنَّنا لا نريد أن ندرس التاريخ لنستغرق فيه، ولكنَّنا نستجيب لقوله تعالى: {لقد كان في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألبَابِ}[14]. فقيمة التاريخ عندنا أنَّنا نأخذ منه ما بقي للحياة، وما يمكن أن يعطينا القوّة والعنفوان، لذلك، فأن نتحدَّث عن مالك الأشتر، فلأجـل أن نعمـل على أن يٌصنَع فينا أكثر من مالك الأشتر، فإذا لـم نكن في عصر عليّ (ع)، وهو وليّ اللّه، ووصيّ رسول اللّه، وإنسان الحقّ في كلامه كلّه وفعله كلّه، فإنَّنا نبقى مع خطّ عليّ وهو خطّ الحقّ، لذلك، فهل تريدون أن تكونوا في الخطّ الذي سار عليه مالك الأشتر؟ كونوا مع الحقّ في العقيدة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي الحرب وفي السلم، كونوا جنود الحقّ الذين يعملون على أن يصنعوا مجتمع الحقّ، لأنَّ المسألة ليست أن نهتف باسم عليّ(ع)، ولكن أن نعيش فكره ومواقفه وتطلّعاته وحبّه للّه ومسؤوليته عن النّاس.

أيُّها الأحبّة، لقد كان عليّ(ع) غريباً في عصرهِ، وما أشدَّ غربتهِ فينا نحن الذين لـم نفهمه جيّداً ولـم نعشه جيّداً، بل تفرَّقنا عن حقّـه كما تفرَّق الكثيـرون عن حقّه من قبل، وأخذنا بالباطل كما أخذ الكثيرون في عصره بالباطل. فهل يعود الحقّ فينا لنقول لعليّ(ع): يا أبا الحسن، نحن معك في الخطّ، وسوف نتابعه، بعيداً عن أيّة عصبية وعن أيّة مطامع شخصية... نقف مع حقِّك الذي نزل به الكتاب، وجاء به رسول اللّه(ص)، وجاهدت من أجله في حياة رسول اللّه(ص) ومن بعده، وقلت: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولـم يكن بها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصةً"[15]، وقلت: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالـم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز"[16].

*ندوة الشام الأسبوعية - فكر وثقافة


[1] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 9، ص 41

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 63

[3] المصدر نفسه، ص 64

[4] الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص 457

[5] المصدر نفسه

[6] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج9، ص 39

[7] المصدر نفسه

[8] المصدر نفسه، ص 40

[9] م. ن

[10] المصدر نفسه، ص 42

[11] (الأنبياء:89)

[12] أعيان الشيعة، السيد حسن الأمين، ج 9، ص 39

[13] أعيان الشيعة، السيد حسن الأمين، ج 4، ص 242

[14] (يوسف:111)

[15] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125

[16] المصدر نفسه، ص 36

نلتقي اليوم بشخصية حركية مجاهدة واعية في كلِّ مجالاتها، وهي شخصية مالك الأشتر(رض)؛ هذا الإنسان الذي يتحدّث عنه المؤرخون، أنَّه أسلم في حياة النبيّ(ص) عندما سمع بالإسلام، ولكنَّ ظروفه لـم تساعده على أن يلتقي النبيّ(ص) فيكون من أصحابه. وقد رُوي عن رسول اللّه(ص) أنَّه قال عنه: "إنَّه المؤمن حقّاً"[1]، وهي شهادة عظيمة من رسول اللّه(ص)، من خلال ما حدّث عنه، ما يوحي بأنَّ الرّجل كان من المسلمين الذين امتلأت عقولهم بالإسلام، ونبضت قلوبهم به، وعاشت حياتهم لأجله، بالرغم من بُعده عن مجتمع الإسلام، لأنَّ الإنسان الذي ينفتح على الإسلام وهو في جوّ رسول اللّه(ص)، يختلف عن الإنسان الذي عاش الإسلام وهو في مناخ آخر، فإذا استطاع أن يبلغ الدرجة العليا في وعيه الإسلامي وهو في مناخ بعيد عن المناخ الإسلامي في أجوائه الفكريّة والروحيّة والعمليّة، فإنَّ ذلك يمثِّل درجةً عالية بالنسبة إليه.

وقد انطلق مالك الأشتر بعد رسول الله(ص) ليدخل المجتمع الإسلامي من الباب الواسع، فكان المجاهد في الفتوحات الإسلامية عندما انطلق المسلمون بها بعد رحيل رسول اللّه(ص)، كما يحدّث المؤرخون. وقد ارتبط بالإمام عليّ(ع) مبكّراً عندما عاش فكره وروحه وجهاده واندمج معه بكلِّ شخصيته، وهذا ما نقرأه في العلاقة الوثيقة التي كانت تشدّه إلى عليّ(ع) وتشدّ عليّاً(ع) إليه، بحيثُ تشعر أنَّ عليّاً(ع)، كان ينظر إلى هذا الرّجل كشخصٍ يمثِّل بمفرده قوّةً له وللإسلام وللمسلمين آنذاك، بحيثُ إنَّه عندما استشهد عبّر عنه الإمام(ع)، بأنَّ ركناً كبيراً قد انهار.

لذلك، نحاول هنا أن ندرس بعض عناصر هذه الشخصية من خلال بعض مواقفه، ونبدأ بكتاب عليّ(ع) إلى أهل مصر، عندما استخلفه ليكون والياً على مصر، ونستخلص من خلال ذلك نظرة الإمام عليّ(ع) إلى المسلمين في مصر، الذين عارضوا الوالي الذي أرسله عثمان وعاث في الأرض فساداً، فواجهوه بكلِّ قوّة وأبعدوه عن موقع الولاية.

من كتاب له(ع) إلى أهل مصر لما ولّى عليهم الأشتر: "من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّه حين عصي في أرضه"[2]، فالإمام(ع) كان يُواكب الأحداث، وكان يريد أن يؤكّد هذا الخطّ، وهو خطّ المعارضة لكلّ سلطة تعصي اللّه في النّاس، فتُفسد حياتهم وتتحرّك بالظلم فيهم، وكان يريد للنّاس أن يغضبوا لذلك، وأن لا يسكتوا، ولا يقفوا على الحياد، بل أن يواجهوا الظلم، ولا سيّما إذا كان متمثّلاً في المعصية الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، من خلال انحرافه عن البرنامج الذي وضعه اللّه للعدل في النّاس.

"وذهب بحقِّه"، أي أنَّ أهل مصر غضبوا لحقّ اللّه في العدل، فاللّه يأمر بالعدل، وقد أقام الحياة كلّها على أساس الحقّ والعدل. "فضرب الجور سرادقه على البرّ والفاجر"، والسرادق مثل الخيمة، وهو الغطاء الذي فوق صحن البيت، وهذا هو كناية عن سيطرة الجور المطلقة على المجتمع. "والمقيم والظاعن"، أي ضرب الجور سطوته على المقيم في البلد والظاعن عنه أي المسافر، "فلا معروف يُستراح إليه"، فقد تركت السلطة المعروف الذي يطمئن النّاس ويسكنون إليه، "ولا منكر يُتناهى عنه".

تلك كانت الصورة في السلطة (الإسلامية)، التي كانت تسيطر على مصر قبل أن يُرسل إليها الإمام(ع) الأشتر(رض): "أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد اللّه"[3]، يعيش العبودية للّه من خلال إيمانه به وطاعته له وجهاده في سبيله. "لا ينام أيام الخوف"، فلا يبتعد عن الخوف لينجو بنفسه، ولكنَّه يقتحم الخوف في مواقعه، ويواجهه بكلِّ قوّة، من أجل أن يطرد شرّه عن النّاس. والمقصود بأيام الخوف، تلك الأيام التي يسيطر فيها الظلم، ويخاف النّاس فيها سطوة الظالـم وسيطرته، "ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع"، أي لا يجبن في ساعات الصراع والشدّة والقتال. "أشدّ على الفجار من حريق النّار"، من خلال قوّته وبأسه، "وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ".

وهذه نقطة على غاية من الأهمية، فنحن نعرف أنَّ مالكاً هو من أصحاب عليّ(ع) المميزين، ومع ذلك فإنَّه عندما أرسله إليهم قال هذه الكلمة: "اسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ"، أي لـم يُطالبهم بالطاعة المطلقة له، بل قال ادرسوا ما يأمركم به وينهاكم عنه، فإنَّ الرّجل يتحرّك في الحقّ، ولكنَّه إذا أخطأ الحقّ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له، وليكن الحقّ الأساس في علاقاتكم بالوالي وبالحاكم كمنطلقٍ ونهجٍ عام.

ونستفيد من هذه الفكرة على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي، أنَّ الإنسان المسؤول عندما يُرسل مندوباً عنه، فعليه أن لا يُعطيه الثقة المطلقة، بحيث يطلب من النّاس إطاعته، بل يُطالب بذلك من خلال ثقته به، بشرط أن يكونوا واعين لما يأمرهم به وينهاهم عنه، ليقارنوا بينه وبين ما يعرفون من الحقّ، فإذا كان مع الحقّ ساروا معه، وإذا لـم يكن معه لـم يسيروا معه، وهذا ما نلاحظ خلافه لدى كلّ المسؤولين، سواء كانوا من الدينيين أو من السياسيين أو الاجتماعيين أو الحزبيين، فهم يُعطون الثقة المطلقة، ويطلقون يد مندوبيهم أو المسؤول المرسل من قبلهم على النّاس، فإذا ما أخطأ الحقّ كانوا معه ضدّ النّاس، وكأنَّه لا يخطئ، وهذه هي العصبية العمياء، الطائفية منها والعائلية والحزبية، ونحن أمّة العصبيات، ولكنَّ عليّاً كان مع الحقّ وكان الحقّ معه، وما ترك له الحقّ من صديق، حتّى أقرب النّاس إليه.

فلا بُدَّ من أن نستوحي من كلمة الإمام عليّ(ع) الكثير من المعاني، لأنَّ بعض النّاس يريدون السير مع عليّ(ع) وهو في رحاب اللّه، ولكنَّهم ينسبون إليه الباطل زوراً وبهتاناً، والحال أنَّ الإمام(ع) مع الحقّ، ولا مكان له مع الباطل، ولا مكان للباطل معه.

سيف اللّه:

"فإنَّه سيفٌ من سيوف اللّه"، وهذا هو الوسام الرائع العظيم، أن تقول عن شخص إنَّه سيفٌ من سيوف اللّه، لأنَّ ذلك لا يصحّ إلاَّ إذا كان شاهراً سيفه في ساحة الحرب، وسيفه (أي مواقفه) في ساحات السلم، أي أنَّه يتحرّك في خطِّ اللّه، ويستقيم في محبته، مهما اختلفت الأمور، ولا يشهره في غيـر هذا الاتجاه. فهذا تقييم كبيـر وكلمة رائدة لـم يقلها عليّ(ع) لأحد. "لا كليل الظُبَة"، والظُبَة هو حدّ السيف والسنان، والكليل الذي لا يقطع، فهو ليس من قبيل السيوف التي لا تقطع، فإذا توجّه إلى أيّ موقع فإنَّه يقطعه، أي أنَّه سيفٌ بتّار. "ولا نابي الضريبة"، ونبا الشيء إذا ارتفع، فما لك إذا توجه إلى شيء لا يرتفع ولا يبتعد عنه، بل يواجهه ويقع فيه.

"فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا"، لأنَّه يعرف كيف يوجه الأمر بالحرب فيما يُصلح النّاس، وكيف يوجه الأمر بالقعود فيما يُصلح أمرهم. "فإنَّه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخّر، ولا يقدّم إلاَّ عن أمري"، أي يريد أن يقول إنَّ مالكاً الأشتر هو نفسي، فإذا أمركم بالنفير، فأنا الذي آمركم به، وعندما يأمركم بالإقامة، فهذا هو أمري، وعندما يحجم عن الانطلاق في أي طريق، فإنّي أنا الذي أحجم، وعندما يقدم، فإنّي أنا الذي أقدم، إنَّه يمثِّل موقفي في كلِّ مواقفه.

"وقد آثرتكم به على نفسي"، فأنا أحتاجه للرأي وللحركة وللدفاع، وليحوط لي ما أريد حياطته من المجتمع، لكنَّني عندما درست أوضاعكم، وأدركت أنَّ مصر تمثِّل الثغر الذي لا بُدَّ من رعايته وحمايته وتقويمه، بعثت لكم هذا الرّجل الشديد في اللّه. "لنصيحته لكم"، فلقد جاءكم ناصحاً، "وشدّة شكيمته على عدوّكم"، والشكيمة هي الحديدة المعترضة التي تضبط الفرس من الانطلاق، وهذا كناية عن قوّة النفس وشدّة البأس. "والسَّلام".

عهد عليّ(ع) إلى مالك الأشتر:

هذه هي رسائل الإمام(ع) إلى أهل مصر في تولية الأشتر عليهم، وكان الإمام(ع) عندما أرسل مالكاً الأشتر إلى أهل مصر، كتب عهده إليه، كقانون إداري ينظّم له كلّ قواعد الحكم في النّاس، ولايزال عهد الإمام لمالك الأشتر يمثِّل الوثيقة التي تقنّن النظام الإداري في جانبه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والأمني، بحيث إنَّ الباحثين لا يزالون يبحثون ليروا فيه النظرية الإسلامية في الحكم والإدارة، أي كيف يُمارس الحاكم المسلم السلطة الإسلامية على النّاس في هذا الخطّ القانوني، والذي يمثِّل القاعدة الفكريّة الإسلامية، والخطّ الأخلاقي الإسلامي والنظام الإداري.. ولعلّنا نرى أنَّ الإمام(ع)، لـم يبعث هذا العهد إلا إلى لأهل مصر مع مالك الأشتر، فلقد كان للإمام(ع) عمَّالٌ كثيرون، وكان يعظهم ويرشدهم ويعطيهم بعض التوجيهات والتعليمات الكثيرة، ولكنَّه لـم يعطِ أيَّ والٍ من ولاته مثل هذه الثروة القانونية والإدارية، ومن ذلك نفهم أنَّ الإمام(ع) كان يهتمّ بمصر. وفي عهده لمالك، يتحدّث الإمام(ع) عن مصر، أنه قد مرّت عليها حضارات ودول، فأراد الإمام(ع) أن يقدّم الإسلام لهؤلاء بطريقة تميّزه عن باقي الحضارات.

كما أنَّ الإمام(ع) كان يثق بأنَّ مالكاً الأشتر يملك من الفكر والوعي ما يستطيع أن يستوعب به كلّ هذا النظام الإداري الإسلامي وينفّذه، فعندما تقدّم برنامجاً فيه الكثير من العمق وحركية السلطة وتنظيم الإدارة لشخص معيّن، فلا بُدَّ من أن يكون ممن يملك الثقافة والوعي والروحية والإخلاص، ليعي هذا البرنامج في آفاقه وتطلّعاته. فنحن نستطيع أن نفهم القدرة الفكرية التي يتميّز بها مالك الأشتر، من خلال دراستنا لعهد الإمام(ع) إليه. وكان معاوية يعرف قيمة مالك الأشتر، كما كان يعرف قيمة محمَّد بن أبي بكر، وكان يهتم اهتماماً شديداً بمصر، لأنَّه كان يريد أن يجمع لنفسه مصر والشام. ولذلك، عندما أرسل الإمام(ع) محمَّد بن أبي بكر، دسَّ معاوية له السمّ. وعندما أرسل الإمام(ع) مالكاً الأشتر، تآمر عليه أيضاً، وعمد إلى تنفيذ مكيدته، عن طريق إعفائه لأحد الأشخاص من الضرائب المتراكمة عليه، فأقام مع مالك علاقة وثيقة، ودعاه إلى مأدبة، ودسَّ إليه السمّ في شراب عسل، واستشهد مالك مسموماً. ويُنقل عن معاوية قوله عند استشهاد مالك: "كان لعليّ يمينان فقطعتهما"[4]، وقال: "إنَّ للّه جنوداً من عسل"[5].

موقف الأشتر من رفع المصاحف:

وعندما نريد أن ننفذ إلى جوانب أخرى في شخصية مالك الأشتر، فإنَّنا نلاحظ أنَّ هناك عدّة نصوص تتحدّث عن تاريخ الرّجل، ونلتقط منها بعض اللقطات، حيثُ يُقال عن مالك، إنَّه شهد أكثر مشاهد عليّ(ع): الجمل وصفّين، والموقف المميّز له كان في صفين، حيثُ كاد أن يحسم الحرب لمصلحة عليّ(ع) ويهزم معاوية، ولكن لما رفعت المصاحف تغيّر الوضع.

ينقل المؤرخون أنَّـه عندما اشتدّت المعركة، ومالت كفة النصر لمصلحة جيش الإمام عليّ(ع)، استشار معاوية عمرو بن العاص، فأشار عليه برفع المصاحف، وتنادى القوم أن تعالوا لكتاب اللّه ليحكم بيننا، وعندما سمع الإمام عليّ(ع) ذلك قال: "واللّه ما رفعوها حقّاً، إنَّهم يعرفونها ولا يعملون بها، وما رفعوها لكم إلاَّ خديعة ومكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة"[6]، أي أصبحنا من النصر قاب قوسين أو أدنى، «فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولـم يبقَ إلاَّ أن يقطع دابر الذين ظلموا"، فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنَّعين بالحديد وشاكي السّلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد سوّدت جباههم من السجود، فلقد كانوا يسجدون من دون وعي ولا عقل ولا تقوى، يتقدّمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه يا عليّ: أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلاَّ قتلناك.

"فقال لهم: "أنا أوَّل من دعا إلى كتاب اللّه، وأوَّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إنّي إنَّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنَّهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنَّهم قد كادوكم"، فهذه مؤامرة وخديعة، "وأنَّهم ليسوا بالعمل بالقرآن يريدون"، بل أرادوا أن يفرّقوا المجتمع ويمزّقوه، وأن يجعلوكم في موضع النـزاع، "قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك"، وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأرسل إليه يزيد بن هانئ، فأتاه فبلغه، فقال الأشتر: قل له، (أي للإمام)، ليس هذه الساعة ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقعي، إنّي قد رجوتُ أن يفتح اللّه بي فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ فأخبره، وارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام". وهذه هي مشكلة القيادة الواعية حينما تُبتلى بقاعدة غير واعية يمكن لكلِّ لاعبٍ أن يتلاعب بها ويخدعها، "فقال له القوم: واللّه ما نراك إلاَّ أمرته بقتال القوم". وكانوا أغبياء يشكّكون بكلّ حركة تصدر عن عليّ(ع)، فلقد اتهموه أنَّه لـم يأمر مالكاً بالانسحاب، "قال: رأيتم ساررت رسولي؟ أليس إنَّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون!" قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلا واللّه اعتزلناك! قال: "ويحك يا يزيد، قل له أقبل، فإنَّ الفتنة قد وقعت"، أي أنَّ معاوية انتصر الآن، لأنَّه مزّق الجيش، "فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: ألرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: أمّا واللّه لقد ظننتُ أنَّها حينما رُفعت ستوقع اختلافاً وفرقة، وقال: اللّه لنا، أينبغي أن ندع هذا أو ننصرف عنه، فقال له يزيد: أتحبَّ أنَّك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوّه، قال: سبحان اللّه، واللّه ما أحبّ ذلك، قال: فإنَّهم قالوا لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا عثمان، أو لنسلمك إلى عدوّك". ومن هنا، نعرف حجم مأساة الإمام عليّ(ع)، التي اعتبرها أعظم من مأساة الإمام الحسين(ع)، لأنَّه ابتلي بهذا المستوى من النّاس.

"فأقبل الأشتر، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحين علوتـم القوم فظنّوا أنَّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه فيها وسنّة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فواقاً، فإنّي قد أحسست بالفتح، قالوا: لا، قال: فأمهلوني عدو الفرس، فإنّي قد طمعت في النصرة، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك، قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقّين، حيثُ كنتم تقتلون أهل الشام، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم الآن محقّون، فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم كانوا خيراً منكم في النّار! قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه، إنّا لسنا نطيعك فاجتنبنا، قال: خدعتم واللّه فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود، كنّا نظنُّ أنَّ صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق في لقاء اللّه، فلا أرى فراركم إلاَّ إلى الدنيا من الموت ألا قبحاً يا أشباه النيب، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، فسبّوه وسبَّهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته، وضرب بسوطه وجوه دوابّهم، فصاح بهم عليّ فكفّوا".

"ولما كتبت صحيفة التحكيم دعيَ لها الأشتر ليوقّعها فيمن وقّعها"، بصفته قائداً عسكرياً، "فقال: لا صحبتني يمينٌ، ولا نفعتني بعدها الشمال، إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلحٍ أو موادعة، أولستُ على بيّنة من ربّي ويقين من ضلالة عدوّي، أولستم قد رأيتم الظفر إن لـم تجمعوا على الخور؟ فقال له رجل: إنَّك واللّه ما رأيت ظفراً ولا خوراً، هلّم فاشهد على نفسك وأقرّ بما في هذه الصحيفة، فإنَّه لا رغبة بك عن النّاس، قال: بلى واللّه إنَّ لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك اللّه بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرّم دماً، ثُمَّ قال: لكن رضيت بما صنع أمير المؤمنين، ودخلت فيما دخل فيه، وخرجت عمّا خرج منه، فإنَّه لا يدخل إلا في هدى وصواب"[7]. فأنا لست مقتنعاً بهذا التحكيم، وأنا أعلمُ أنَّ عليّاً(ع) ليس مقتنعاً بذلك، لكن هناك ضغطاً مورس عليه، وعليٌّ(ع) أميري، وأنا مستعدٌ لأن أسير خلفه معصوب العينين، لأنَّه مع الحقِّ والحقّ معه، ولذا فأنا أطيعه. وهذا الموقف يبيّن مدى إخلاص الأشتر، فهو القائد الذي يُطيع اللّه من خلال إطاعته وليّه.

تقييم الأشتر لعليّ (ع):

والآن دعونا نتعرّف إلى تقييم مالك الأشتر لعليّ(ع)، فهو لـم يكن فقط مقاتلاً من الطراز الأوّل، بل كان يُحاول أن يعرّف النّاس بعليّ(ع)، وكان يريد أن يجمع النّاس على طاعة عليّ(ع)، وأن يبتعد بهم عن كلّ ما كان يُثار ضدّه من قبل القاسطين والناكثين والمارقين.

قال في خطبة له: "معنا ابن عم نبيّنا، وسيف من سيوف اللّه عليّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه، لـم يسبقه إلى الصلاة ذكر حتّى كان شيخنا، لـم يكن له صبوة"، فلم يصب إلى دنيا أو شيء من الدنيا، "ولا نبوّة"، فلم ينحرف قيد أنملة، "ولا هفوة ولا سقطة"، لأنَّه المعصوم الذي لا يخطئز "فقيه في دين اللّه تعالى، عالـم بحدود اللّه، وعليكم بالحزم والجدّ. واعلموا أنَّكم على حقّ وأنَّ القوم على باطل، إنَّما تقاتلون معاوية، وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى ما هو لكم من أصحاب محمَّد، أكثر ما كان معكم رايات"، فهذه الرايات التي هي معكم، "فقد كانت مع رسول اللّه"، وكلُّ فريقٍ يعرف من خلال الرايات التي ترفع فيه، "وعدوُّنا مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول اللّه، فمن يشكّ في قتال هؤلاء إلا ميّت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين إمّا الفتح أو الشهادة، عصمنا اللّه وإيّاكم بما عَصَمَ به من أطاعه، وألهمنا وإيّاكم طاعته وتقواه، واستغفر اللّه لي ولكم"[8].

وله خطبة أخرى في صفين: يقول فيها: "الحمد للّه الذي جعل فينا ابن عمّ نبيّه أقدمهم هجرةً وأوّلهم إسلاماً، سيفٌ من سيوف اللّه صبّه اللّه على أعدائه. فانظروا إذا حمي الوطيس، وثار القتال، وتكسّر المران، وجالت الخيل بالأبطال، فلا أسمع إلا غمغمةً أو همهمةً، فاتبعوني وكونوا في أثري"[9]. وهذا يعني وعي الأشتر لعليّ(ع) ولمنـزلته ولأوضاعه كلّها.

تقييم عليّ (ع) للأشتر(رض):

وفي المقابل، دعونا ننظر كيف كان عليّ(ع) يقيِّم مالكاً الأشتر(رض). يقول(ع): "كان لي مالك كما كنتُ لرسول اللّه(ص)"[10]، وهذه مرتبة عالية، ولقد كان من دعاء النبيّ(ص) عندما برز عليّ(ع) لعمرو بن عبد ودّ: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وأنتَ خَيْرُ الوارِثِينَ}[11]. وكان المسلمون كلُّهم معه.

وعندما بلغه موت الأشتر، قال: "إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمدُ للّه ربِّ العالمين، اللّهمَّ إنّي أحتسبه عندك، فإنَّ موته من مصائب الدهر، ثُمَّ قال: رحم اللّه مالكاً، فقد كان وفياً بعهده، وقضى نحبه ولقيَ ربَّه، مع أنّا قد وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كلِّ مصيبةٍ بعد مصابنا برسول اللّه، فإنَّها من أعظم المصائب"[12]. وهذه كلمة لـم يقلها عليّ(ع) في فُقد رجلٍ من أصحابه.

وحدّث أشياخ النخع، قالوا: "دخلنا على أمير المؤمنين حيثُ بلغه موت الأشتر، فوجدناه يتلهَّف ويتأسَّف عليه، ثُمَّ قال: "للّه درُّ مالك، وما مالك؟! واللّه لو كان من جبل لكان فنداً"، والفند هي القطعة العظيمة من الجبل، "ولو كان من حجر لكان صلداً"، والصلد هو الصلب شديد الصلابة، "أمّا واللّه ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً"، فلأنَّك كنت تمثِّل قوّة كبيرة لعالـم الإسلام، فإنَّه سيحزن لفقدك، ولكن عالـم الضلال سيفرح بموتك، لأنَّك كنتَ شديداً عليه، "على مثل مالك فلتبكِ البواكي، وهل موجودٌ كمالك"، أي ما أقول في رجلٍ هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق.

ومن خلال ذلك نعرف ـ أيُّها الأحبّة ـ قيمة مالك الأشتر، فربَّما لـم ينقل لنا التاريخ الكثير من خصائصه وعناصره الشخصية، ولكنَّ كلمات عليّ(ع) عنه، تدلّنا على أنَّ الرّجل كان في المنـزلة الخصيصة من عليّ(ع)، كما كان عليّ(ع) في المنـزلة الخصيصة من رسول اللّه(ص).

الأشتر وأبو ذر:

ونحن نعرف أيضاً أنَّ مالكاً الأشتر(رض) كان صديقاً لأبي ذر(رض)، وكان هو الذي دفنه، فحين نفي أبو ذر ووافته المنية، بكت امرأته، لأنَّها لـم تجد من يساعدها على دفنه، فقال لها إنَّ رسول اللّه(ص) حدّثني أنَّ جماعةً من المسلمين يأتون فيقومون بتجهيزي ودفني، فإذا رأيت نفراً من النّاس قادمين قولي: هذا صاحب رسول اللّه قد مات، فتعالوا أعينوني على دفنه، وصادف أنَّ الأشتر وأصحابه في قافلة مرّت بالقرب منهم، فقاموا بدفنه، وقد أبّنه بكلمةٍ تدلّ على موقفه الحاسم في مواجهة الحكم آنذاك، الذي منع النّاس من أن يودّعوا أبا ذرّ، ومنعهم من أن يساعدوه أن يتعاطفوا معه.

فعندما دفنه قام على قبره، ثُمَّ قال: "اللّهمَّ هذا أبو ذرّ صاحب رسول اللّه(ص)، عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لـم يغيِّر ولـم يبدّل"، أي بقي على ما فارقك عليه، فلقد كان من الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، "لكنَّه رأى منكراً فغيّر بلسانه وقلبه"، فصرخ بالذين صنعوا المنكر أن يبتعدوا عنه، "حتّى جفي، ونفي، وحرم، واحتقر، ثُمَّ مات وحيداً غريباً، اللّهمَّ فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[13].

وهناك مسألة لا بُدَّ من الإشارة إليها، وهي أنَّ الطبري ذكر في تاريخه أنَّ الأشتر كان ممن نقموا على عثمان حكمه، ولكنَّه اعتزل الفتنة، فلم يُشارك في القتال ضدَّه ما قد يوحي بأنَّه لـم يرد للموقف أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، لأنَّ ذلك قد لا يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين، من خلال النتائج السلبية في وقت الفتنة وما بعدها.

الغرض من دراسة هذه الشخصيات:

أيُّها الأحبّة، عندما ندرس هذه الشخصيات الإسلامية في هذا المستوى الرفيع، فإنَّنا لا نريد أن ندرس التاريخ لنستغرق فيه، ولكنَّنا نستجيب لقوله تعالى: {لقد كان في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألبَابِ}[14]. فقيمة التاريخ عندنا أنَّنا نأخذ منه ما بقي للحياة، وما يمكن أن يعطينا القوّة والعنفوان، لذلك، فأن نتحدَّث عن مالك الأشتر، فلأجـل أن نعمـل على أن يٌصنَع فينا أكثر من مالك الأشتر، فإذا لـم نكن في عصر عليّ (ع)، وهو وليّ اللّه، ووصيّ رسول اللّه، وإنسان الحقّ في كلامه كلّه وفعله كلّه، فإنَّنا نبقى مع خطّ عليّ وهو خطّ الحقّ، لذلك، فهل تريدون أن تكونوا في الخطّ الذي سار عليه مالك الأشتر؟ كونوا مع الحقّ في العقيدة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي الحرب وفي السلم، كونوا جنود الحقّ الذين يعملون على أن يصنعوا مجتمع الحقّ، لأنَّ المسألة ليست أن نهتف باسم عليّ(ع)، ولكن أن نعيش فكره ومواقفه وتطلّعاته وحبّه للّه ومسؤوليته عن النّاس.

أيُّها الأحبّة، لقد كان عليّ(ع) غريباً في عصرهِ، وما أشدَّ غربتهِ فينا نحن الذين لـم نفهمه جيّداً ولـم نعشه جيّداً، بل تفرَّقنا عن حقّـه كما تفرَّق الكثيـرون عن حقّه من قبل، وأخذنا بالباطل كما أخذ الكثيرون في عصره بالباطل. فهل يعود الحقّ فينا لنقول لعليّ(ع): يا أبا الحسن، نحن معك في الخطّ، وسوف نتابعه، بعيداً عن أيّة عصبية وعن أيّة مطامع شخصية... نقف مع حقِّك الذي نزل به الكتاب، وجاء به رسول اللّه(ص)، وجاهدت من أجله في حياة رسول اللّه(ص) ومن بعده، وقلت: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولـم يكن بها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصةً"[15]، وقلت: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالـم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز"[16].

*ندوة الشام الأسبوعية - فكر وثقافة


[1] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 9، ص 41

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 63

[3] المصدر نفسه، ص 64

[4] الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص 457

[5] المصدر نفسه

[6] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج9، ص 39

[7] المصدر نفسه

[8] المصدر نفسه، ص 40

[9] م. ن

[10] المصدر نفسه، ص 42

[11] (الأنبياء:89)

[12] أعيان الشيعة، السيد حسن الأمين، ج 9، ص 39

[13] أعيان الشيعة، السيد حسن الأمين، ج 4، ص 242

[14] (يوسف:111)

[15] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125

[16] المصدر نفسه، ص 36

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير