دراسات
06/05/2013

لغة السيّد فضل الله الشّعريّة

لغة السيّد فضل الله الشّعريّة
تعتبر اللّغة أساس الحضارة البشريّة، وتمثّل الوسيلة الرّئيسة الّتي تتواصل بها الأجيال، وعن طريقها تنتقل الخبرات والمعارف والمنجزات الحضاريّة بمختلف صورها، وعن طريقها أيضاً لا ينقطع الإنسان عن الحياة بموته، ذلك أنّ اللّغة تعينه على الامتداد تاريخيّاً، ليُسهم في تشكّل فكر الأجيال التالية وثقافتها وحياتها.
وإذا ما تعرّض أرسطو قديماً للمجاز في اللّغة، وخصوصاً العلاقة العامّة بين المجاز وأثره في التّواصل أو التّخاطب، فإنَّ هناك تميّزاً بين اللّغة المطلقة واللّغة الشعريّة، حيث تسعى اللّغة الشعريّة إلى خرق نظام اللّغة المعتاد، كما يعبّر جان كوهين في كتابه "بنية اللّغة الشّعريّة".

إنَّ الحديث عن اللّغة الشعريّة يقودنا إلى محاولة فهم ما امتازت به لغة السيّد فضل الله الشعريّة، فالسيّد يرى أنّه لا بدَّ في النّثر والشّعر من مواكبة تطوّر أساليب التّعبير، لكنّ اللّغة الشّعريّة تمتاز عن النّثر بالموسيقى والانزياح الّذي يؤدّي إلى هدم اللّغة، وإعادة بنائها وبناء عالم جديدٍ ينتج واقعاً جديداً ينتمي إلى عالم الشّعر.

"إنّ الشّعر لا بدّ من أن ينطلق من خلال أساليب البلاغة والفنون التّعبيريّة التي تتضمّن إيحاءاتٍ تتجاوز المعنى اللّغويّ إلى المعنى الشّعريّ". ولهذا، لا بدّ من الحديث عن لغة السيّد فضل الله الشّعريّة ومعجمه الشّعريّ، ولا سيّما أنّ الشّاعر السيّد قد عاش في بيئة النّجف الأشرف، حيث تتواصل الحلقات الشّعريّة بين الموروث القديم منذ العصور الأدبيّة الأولى، والمُحْدَثِ الجديد الّذي واكب السيّدُ نشأته وخاض غمار تجاربه. "فالنّجف من أعرق البيئات الثّقافيّة الإسلاميّة قدماً، ومن أغزرها مادّةً، علميّاً وأدبيّاً، وأرحبها صدراً في تقبّل الجديد المفيد، فكراً وأسلوباً، مادّةً ومنهجاً، وأوسعها أفقاً في مسايرة التّطوّرات الأدبيّة في العالم العربيّ. فهي إلى جانب محافظتها على أصالة الفكر الإسلاميّ، لم تتزمّت فترفض المعاصرة، وإنّما أخذت من وسائلها وأسبابها ما رأته الضّروريّ النّافع.

من هنا، كانت الشخصيّة النجفيّة ـ دارساً ومدرّساً ـ أعمق وعياً في تفاعلها مع التطوّرات الفكريّة، وأرهف حسّاً في معايشتها لأحداث العصر اجتماعيّاً وسياسيّاً".


أ ـ معجم السيّد فضل الله الشّعريّ:
يمثّل المعجم الشّعريّ مادّةً أساسيّةً في التّجربة الشّعريّة الّتي تحمل الإيحاء ودلالة الكلمة وهويّتها الجديدة، ولا بدّ من أن تسهم قراءات الشّاعر وثقافته بإغناء هذه المادّة وجعلها مواكبةً للتطوّر الإنسانيّ والحضاريّ، ولا سيّما أنّ هذا التطوّر يُدخِل اللّغة إلى ساحة الصّراع من خلال المصطلحات الجديدة الّتي لا بدّ للشّاعر من التأثّر بها، وفهم دلالاتها وإيحاءاتها، لتكون جزءاً من تجربته الشّعريّة، وخصوصاً أنّ الشّاعر يجب أن يعيش في قلب الواقع، كما ألزم السيّد الشّاعر نفسه بذلك.

لم يكن معجم السيّد فضل الله مقتصراً على كلماتٍ محدّدة، فقد تنوّع معجمه الرّوحيّ وضمّ العديد من الكلمات الّتي تنطوي تحت لواء حقولٍ عديدة، فقد حوى حقل المفردات الّتي تنتمي إلى عصر النّهضة كلماتٍ مثل "تذوي، فؤادي، ظمآن، ضللت، يخفق، يوحي، تبسم، الجحيم، يصهر، الوهم، تاه، الحقول، الصّباح، الطّهر، النّور، الدّرب، موحش، الكون، الذّبول، الرّبى، السّهول، ظلال، أفق، النّجوم، طريق، التّفكير، المساء، اللّيل، يقود، صنعت، النّهار، لغتي، اضطرب، الأرض، وحدي، بحيرة، أحبّك، الحياة، الشّوق، الضّباب...".

أمّا الكلمات الّتي شغلت حيّزاً كبيراً أثناء لحظات المناجاة والدّعاء والطّمأنينة، فكانت "ربّ، رحماك، اهدني، صراطاً، حيرة، أمراً، غريب، روحي، أحلامي، الآمال، الشّعور، الحزن، الألم، يناجيك، ابتهال، نشيد، الدّموع، حنان، نداه، دعاء، السّبيل، كيف، قلبي، صوفياً، رمزي، الهوى، الهادي، الخطو، العلاء، راج، غفران، عالم، هائم، صفاء، السّماء، الإسراء، فمنك، إلهي،  هو الله، الله أكبر، الأبرار، هداك، ربّاه، أبكي، أغنّي، آثام، الموت، الحياة، حقيبة، الحقيقة...".

وفي حقل النّور والضّوء، تطالعنا ألفاظ مثل "الشّعاع، المضيا، الثّريّا، شعلة، نورك، الصّباح، النّجوم، المشعّ، الفجر، سناء، الضّحى، نار، تنوّر، الشّمس، النّهار، الضّياء، مضاء، المشرق، النّور، قمراء...".
وأمّا في حقل الماء، فنجد الألفاظ مثل "الحياة، المحيط، شراع، عذب، ماج، يموج، لجّة، زورقي، المجداف، الموج، هائج، الضّفاف، زورق، الشّاطئ، نبع، بحيرة، الينبوع، استحمّ، الشّراب، النّدى، وِرداً، الغيوم، ماء، شلال...".
وتطالعنا في حقل الطّبيعة كلمات كثيرة، مثل "اللّيل، نسيم، الحقول، البُلبُل، الصّباح، ألوان، النّجوم، السّهول، الرّبى، ظلال، الضّباب، الغيوم، أفق، الرّيح، الشّمس، المساء، الفضاء، ليلة، يورق، الزّنبق، شذا، صفاء، زرقة، بحيرة، الرّبيع، جنائن، الخضر، الصّحراء، السّفح، الخصب، الذّرى، جنّة، العطور، عبير، القطوف، رمال، واد، الطّيور، البوادي، زهرة، الثّمار، الورود، البرّ، الجديبة...".

أمّا الكلمات الّتي انضوت تحت لواء حقل المجرّدات، فالملاحظ تكرار الشَّاعر لها، مثل "الأوهام، حياة، الهدى، فكرة، الآمال، المنى، الأحلام، الرّوح، الدّرب، طريق، هائم، الأماني، الينبوع، الطّهر، الدّجى، قلبي، عمري، الهدى، يهوي، الحياة، الصّحراء، الضّحى، المساء، النّداء، الله، وحي، نور...". وقد فرضت أجواء العلاقة الرّوحيّة مع الله والرّسول، ولجوء الشّاعر إلى أسلوب النّداء، وما يستدعي الدّعاء، من كلماتٍ تتكرّر دائماً بين الدّاعي المنادي الشّاعر/ والمدعوّ المنادَى الله أو الرّسول.

 
ب ـ التّركيب عند السيّد فضل الله:
لم يترك الشّاعر السيّد لغته المعجميّة كما هي، ولكنّه عمد إلى التّركيب عابثاً به، ما جعله يخرج إلينا بلغةٍ جديدة، كانت خلاصة ما أراده من اللّغة.
وسأبحث كيفيّة التّركيب عند الشّاعر، لنرى إن كانت تعبّر من خلال دلالاتها الجديدة عن رؤياه، وعمّا أراده من إخراجٍ للكلمة من خلال نماذج تتناول أنواعاً مختلفةً من التّركيب عنده.
1 ـ إسناد الفعل إلى الفاعل:
يقول السيّد محمّد حسين فضل الله:
"وتموتُ السُّنون... تذبلُ كالوردةِ في الحقلِ.. في رياحِ الخريفِ
لقد أسند الشّاعر الفعل "تموت" إلى الفاعل "السّنون"، والفعل "تذبل" إلى الفاعل نفسه، فأعطى الفاعل أبعاداً جديدةً، فلم تعد السّنون زمناً عاديّاً، إذ أخذ من خلال الفعلين بعداً جديداً ووهجاً خاصّاً نقله من معناه المعجميّ، وأعطاه خصوصيّةً مغيّرةً لهويّته الحقيقيّة، من خلال اتّخاذه بعد الإنسان المعمّر والوردة. يقول في موضعٍ آخر:

    وطافتِ الأوهامُ... في عالمي    وزمجَرَتْ أشباحُها الظّالمة 
أسند الشّاعر الفعل "طافت" إلى الفاعل "الأوهام"، والفعل "زمجرت" إلى "الأشباح"، ما أحدث إبدالاً في هويّة هذه الأشياء، فاتّخذت بعد النّاس الحجيج الّذين يطوفون حول الحرم، أو الفراش الّذي يدور حول الضّوء، وبعد الوحوش الّتي تجوب الفلوات باحثةً عن فريستها، فالأوهام جرّدت الوحوش/ الأشباح لتهيمن على كيان الشّاعر. وكلّ ذلك نتيجة الإسناد الّذي أحدث تغييراً وزلزلةً في بناء اللّغة، ليعيد الشّاعر تركيبها وفق دلالاتٍ تنتمي إلى عالمه الخاصّ.

يقول في مكان ثالثٍ: (على وزن الخفيف)
  بعْثَرَتْ خطوَهُ الحياةُ فلم يملِكْ طريقاً... إلى مجالِ الخلودِ 
أسند الشَّاعر الفعل "بعثرت" إلى الفاعل "الحياة"، ما أحدث هزّةً في اللّغة نتيجة تبدّل هويّة "الحياة" الّتي صارت "ريحاً" تبعثر "الخطو" كالأوراق، وهذا الانتفاء جاء من خارج حقل التوقّعات، ليبرز شاعريّة البيت.
2 – إسناد الخبر إلى المبتدأ:
يقول السيّد فضل الله: (وزن الخفيف)     
 كلُّ هذي الهمومِ أطيافُ ماضٍ  عبثَتْ فيهِ لوعةُ الكبرياءِ

يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الخبر "أطياف" إلى المبتدأ "كلّ"، ما منح الهموم في هذا الإسناد بعداً غير عاديّ، أخرجها عن نسقها الموضوعيّ، فلم تعد الهموم مآسِي وآلاماً يقاسيها الشّاعر، بل اتّخذت خاصيّةً جديدةً تتراءى للشّاعر أينما قلب طرفه ونظر، يقول: (وزن الخفيف)

وحياتي شِلْوٌ تناهبَهُ الرّيحُ وألوى بجانبيهِ الذّبولُ
أسند الشّاعر الخبر "شلوٌ" إلى المبتدأ "حياتي"، فأحدث فجوةً شعريّةً لدى المتلقّي الّذي لم يتوقّع أن تصير الحياة بكلّ ما فيها من رؤى وأحلام، "شلواً" تناهبه الرّيح وهو ضعيف هزيل. وبذلك استمدّت الحياة من خلال هذا التّركيب بعداً إيحائيّاً وهويّةً جديدةً أخرجتها عن كليّتها لتخصّص لها الهويّة "الحيوانيّة"، بما في هذه الهويّة من دلالاتٍ وأبعاد. وإذا ما أراد الشّاعر الحديث عن عظمة الرّسالة، نراه يخاطب الرّسول، فيقول: (وزن الخفيف)
وتمرُّ السّنونُ ـ بعدكَ ـ والإسلامُ يخطو على هُداكَ الحبيبِ
أسند الشّاعر الفعل يخطو (الخبر) إلى المبتدأ "الإسلام"، ما جعلنا نرى الإسلام إنساناً يتّخذ من الرّسول قدوةً ومثالاً أعلى، احتذاه، وسار على هداه. وفي هذا الإسناد، تخطّت اللّغة الشعريّة اللّغة العاديّة، من خلال الإيحاء والدّلالات الّتي اكتسبتها الكلمات بالإسناد الجديد.
3 – إسناد الصّفة إلى الموصوف:
يقول السيّد الشّاعر: (على وزن السّريع)
فجِئْتُ في صوفيَّةٍ حُرَّةٍ  تُمِدُّني بالشُّعلةِ الهاديَة
أسند الشّاعر الصّفة "حرّة" إلى الموصوف "صوفيّة"، ما يمنح الصوفيّة الرّحابة والاتّساع، لتكون لحظة المناجاة لله خاليةً من قيود النّفس وشوائبها، وخصوصاً حين المثول بين يدي الله. وأسند الصّفة "الهادية" إلى الموصوف "الشّعلة"، ما أكسب الشّعلة هويّةً جديدةً أخرجتها عن نسقها الموضوعيّ، كونها ناراً، ومنحتها خاصيّة الهادي الّذي يبدّد ظلمات الطّريق، ويهدي الرّكب، ويحدّد المعالم.
ويقول في موضع آخر: (وزن السّريع)
            أدعُوكَ في شِعْرٍ: يرشُّ النَّدى  على رُؤَاهُ الخضرِ... أحلاميَهْ 
يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الصّفة "الخضر" إلى الموصوف "رؤى"، حيث أحدث هذا الإسناد فجوةً بين الصّفة والموصوف، فالرّؤى لم تعد مجرّداً، وإنّما اتّخذت بإسناد الصّفة "الخضر" هويّةً نباتيّةً، ما جعل الشّعر حقلاً تتواكب فيه الظّلال والنّدى والأحلام والرّؤى.
ويخاطب الشّاعر الرّسول محمّداً(ص) قائلاً: (على وزن الخفيف)
 
أنتَ روحُ الإسلامِ... أيُّ سلامٍ لمْ يفِضْ وحيُهُ مِنَ الينبُوعِ
من ربيعِ المشاعرِ البيضِ، في روحِ النبوَّاتِ، من جمالِ الرَّبيعِ
أسند الشّاعر الصّفة "البيض" إلى الموصوف "المشاعر"، ما أحدث صورةً توحي بالطّهر والجمال والرّوعة، "فالمشاعر" اكتسبت من الصّفة "البيض" دلالة النّقاء والصّفاء، فالصّفة "البيض" لم تُبقِ "المشاعر" مجرّد أحاسيس، وإنّما أضاءت الموصوف، فأبرزت جوانب جديدةً لم نكن نتوقّعها.
4 – المضاف والمضاف إليه:
اتّخذت الكلمات في تراكيب الشَّاعر أبعاداً دلاليّةً مغايرةً للواقع، من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر: (وزن الخفيف)
ثمَّ جاءتْ أخرَى... على صهوَةِ العُمْرِ... بزهوٍ مرنَّحٍ مشْغُوفِ
منحت إضافة "صهوة" إلى "العمر" الكلمة المعبّرة عن مرحلةٍ زمنيّةٍ يعيشها الإنسان، وهجاً وأبعاداً دلاليّةً مغايرة للواقع من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر:
ضُمَّني في بحيرةِ الحلمِ الورديّ في غفوةِ الرّؤى السَّمحاءِ
لقد اتّخذت "البحيرة" بُعداً جديداً من خلال إضافتها إلى "الحلم الورديّ"، وإضافة "غفوة" إلى "الرّؤى"، فلم تعد البحيرة مكاناً للتّرفيه، أو للسّباحة، بل اتّخذت هويّة الأمل والملتقى بين الله والشّاعر، وأمّا الرّؤى، فقد اتّخذت هويّةً إنسانيّةً حوّلتها إلى معنى مغاير لمعناها المعجميّ.
ويتَّخذ اللّيل بُعداً إنسانيّاً من خلال الإضافة. يقول الشّاعر:
إنَّني هُنا تُمزِّقُ قلْبي في خُطى اللّيلِ وحْشَةُ البَيْداءِ
أضاف الشّاعر "خطى" إلى "اللّيل"، وهذا الإسناد أفرز لغةً شعريّةً؛ فاللّيل صار إنساناً، وقد اتّخذ هذه الهويّة الإنسانيّة بإسناد الإضافة الّذي أقامه الشّاعر بين "الخطى" و"اللّيل"، إضافةً إلى إخراج "الوحشة إلى بعدٍ حيوانيّ مفترس".
5 – التّعدية إلى المفعول به.
يقول الشّاعر: (على وزن الخفيف)
فمضَى يصْهَرُ العذَابَ نشِيداً  ويصوغُ الآهاتِ لحْناً شَجِيَّا
اتَّخذ "العذاب" هويَّة الحديث من خلال الفعل المضارع "يصهر"، واتّخذت "الآهات" بُعْد السِّوار من خلال الفعل "يصوغ"، ليخرج المفعول به عن دلالته الأساسيّة، ويتّخذ بلغة السيّد مفهوماً آخر وهويّةً مغايرةً لحقيقته.

المصدر: كتاب "الاتّجاه الرّوحيّ في شعر السيّد محمّد حسين فضل الله".  
 
تعتبر اللّغة أساس الحضارة البشريّة، وتمثّل الوسيلة الرّئيسة الّتي تتواصل بها الأجيال، وعن طريقها تنتقل الخبرات والمعارف والمنجزات الحضاريّة بمختلف صورها، وعن طريقها أيضاً لا ينقطع الإنسان عن الحياة بموته، ذلك أنّ اللّغة تعينه على الامتداد تاريخيّاً، ليُسهم في تشكّل فكر الأجيال التالية وثقافتها وحياتها.
وإذا ما تعرّض أرسطو قديماً للمجاز في اللّغة، وخصوصاً العلاقة العامّة بين المجاز وأثره في التّواصل أو التّخاطب، فإنَّ هناك تميّزاً بين اللّغة المطلقة واللّغة الشعريّة، حيث تسعى اللّغة الشعريّة إلى خرق نظام اللّغة المعتاد، كما يعبّر جان كوهين في كتابه "بنية اللّغة الشّعريّة".

إنَّ الحديث عن اللّغة الشعريّة يقودنا إلى محاولة فهم ما امتازت به لغة السيّد فضل الله الشعريّة، فالسيّد يرى أنّه لا بدَّ في النّثر والشّعر من مواكبة تطوّر أساليب التّعبير، لكنّ اللّغة الشّعريّة تمتاز عن النّثر بالموسيقى والانزياح الّذي يؤدّي إلى هدم اللّغة، وإعادة بنائها وبناء عالم جديدٍ ينتج واقعاً جديداً ينتمي إلى عالم الشّعر.

"إنّ الشّعر لا بدّ من أن ينطلق من خلال أساليب البلاغة والفنون التّعبيريّة التي تتضمّن إيحاءاتٍ تتجاوز المعنى اللّغويّ إلى المعنى الشّعريّ". ولهذا، لا بدّ من الحديث عن لغة السيّد فضل الله الشّعريّة ومعجمه الشّعريّ، ولا سيّما أنّ الشّاعر السيّد قد عاش في بيئة النّجف الأشرف، حيث تتواصل الحلقات الشّعريّة بين الموروث القديم منذ العصور الأدبيّة الأولى، والمُحْدَثِ الجديد الّذي واكب السيّدُ نشأته وخاض غمار تجاربه. "فالنّجف من أعرق البيئات الثّقافيّة الإسلاميّة قدماً، ومن أغزرها مادّةً، علميّاً وأدبيّاً، وأرحبها صدراً في تقبّل الجديد المفيد، فكراً وأسلوباً، مادّةً ومنهجاً، وأوسعها أفقاً في مسايرة التّطوّرات الأدبيّة في العالم العربيّ. فهي إلى جانب محافظتها على أصالة الفكر الإسلاميّ، لم تتزمّت فترفض المعاصرة، وإنّما أخذت من وسائلها وأسبابها ما رأته الضّروريّ النّافع.

من هنا، كانت الشخصيّة النجفيّة ـ دارساً ومدرّساً ـ أعمق وعياً في تفاعلها مع التطوّرات الفكريّة، وأرهف حسّاً في معايشتها لأحداث العصر اجتماعيّاً وسياسيّاً".


أ ـ معجم السيّد فضل الله الشّعريّ:
يمثّل المعجم الشّعريّ مادّةً أساسيّةً في التّجربة الشّعريّة الّتي تحمل الإيحاء ودلالة الكلمة وهويّتها الجديدة، ولا بدّ من أن تسهم قراءات الشّاعر وثقافته بإغناء هذه المادّة وجعلها مواكبةً للتطوّر الإنسانيّ والحضاريّ، ولا سيّما أنّ هذا التطوّر يُدخِل اللّغة إلى ساحة الصّراع من خلال المصطلحات الجديدة الّتي لا بدّ للشّاعر من التأثّر بها، وفهم دلالاتها وإيحاءاتها، لتكون جزءاً من تجربته الشّعريّة، وخصوصاً أنّ الشّاعر يجب أن يعيش في قلب الواقع، كما ألزم السيّد الشّاعر نفسه بذلك.

لم يكن معجم السيّد فضل الله مقتصراً على كلماتٍ محدّدة، فقد تنوّع معجمه الرّوحيّ وضمّ العديد من الكلمات الّتي تنطوي تحت لواء حقولٍ عديدة، فقد حوى حقل المفردات الّتي تنتمي إلى عصر النّهضة كلماتٍ مثل "تذوي، فؤادي، ظمآن، ضللت، يخفق، يوحي، تبسم، الجحيم، يصهر، الوهم، تاه، الحقول، الصّباح، الطّهر، النّور، الدّرب، موحش، الكون، الذّبول، الرّبى، السّهول، ظلال، أفق، النّجوم، طريق، التّفكير، المساء، اللّيل، يقود، صنعت، النّهار، لغتي، اضطرب، الأرض، وحدي، بحيرة، أحبّك، الحياة، الشّوق، الضّباب...".

أمّا الكلمات الّتي شغلت حيّزاً كبيراً أثناء لحظات المناجاة والدّعاء والطّمأنينة، فكانت "ربّ، رحماك، اهدني، صراطاً، حيرة، أمراً، غريب، روحي، أحلامي، الآمال، الشّعور، الحزن، الألم، يناجيك، ابتهال، نشيد، الدّموع، حنان، نداه، دعاء، السّبيل، كيف، قلبي، صوفياً، رمزي، الهوى، الهادي، الخطو، العلاء، راج، غفران، عالم، هائم، صفاء، السّماء، الإسراء، فمنك، إلهي،  هو الله، الله أكبر، الأبرار، هداك، ربّاه، أبكي، أغنّي، آثام، الموت، الحياة، حقيبة، الحقيقة...".

وفي حقل النّور والضّوء، تطالعنا ألفاظ مثل "الشّعاع، المضيا، الثّريّا، شعلة، نورك، الصّباح، النّجوم، المشعّ، الفجر، سناء، الضّحى، نار، تنوّر، الشّمس، النّهار، الضّياء، مضاء، المشرق، النّور، قمراء...".
وأمّا في حقل الماء، فنجد الألفاظ مثل "الحياة، المحيط، شراع، عذب، ماج، يموج، لجّة، زورقي، المجداف، الموج، هائج، الضّفاف، زورق، الشّاطئ، نبع، بحيرة، الينبوع، استحمّ، الشّراب، النّدى، وِرداً، الغيوم، ماء، شلال...".
وتطالعنا في حقل الطّبيعة كلمات كثيرة، مثل "اللّيل، نسيم، الحقول، البُلبُل، الصّباح، ألوان، النّجوم، السّهول، الرّبى، ظلال، الضّباب، الغيوم، أفق، الرّيح، الشّمس، المساء، الفضاء، ليلة، يورق، الزّنبق، شذا، صفاء، زرقة، بحيرة، الرّبيع، جنائن، الخضر، الصّحراء، السّفح، الخصب، الذّرى، جنّة، العطور، عبير، القطوف، رمال، واد، الطّيور، البوادي، زهرة، الثّمار، الورود، البرّ، الجديبة...".

أمّا الكلمات الّتي انضوت تحت لواء حقل المجرّدات، فالملاحظ تكرار الشَّاعر لها، مثل "الأوهام، حياة، الهدى، فكرة، الآمال، المنى، الأحلام، الرّوح، الدّرب، طريق، هائم، الأماني، الينبوع، الطّهر، الدّجى، قلبي، عمري، الهدى، يهوي، الحياة، الصّحراء، الضّحى، المساء، النّداء، الله، وحي، نور...". وقد فرضت أجواء العلاقة الرّوحيّة مع الله والرّسول، ولجوء الشّاعر إلى أسلوب النّداء، وما يستدعي الدّعاء، من كلماتٍ تتكرّر دائماً بين الدّاعي المنادي الشّاعر/ والمدعوّ المنادَى الله أو الرّسول.

 
ب ـ التّركيب عند السيّد فضل الله:
لم يترك الشّاعر السيّد لغته المعجميّة كما هي، ولكنّه عمد إلى التّركيب عابثاً به، ما جعله يخرج إلينا بلغةٍ جديدة، كانت خلاصة ما أراده من اللّغة.
وسأبحث كيفيّة التّركيب عند الشّاعر، لنرى إن كانت تعبّر من خلال دلالاتها الجديدة عن رؤياه، وعمّا أراده من إخراجٍ للكلمة من خلال نماذج تتناول أنواعاً مختلفةً من التّركيب عنده.
1 ـ إسناد الفعل إلى الفاعل:
يقول السيّد محمّد حسين فضل الله:
"وتموتُ السُّنون... تذبلُ كالوردةِ في الحقلِ.. في رياحِ الخريفِ
لقد أسند الشّاعر الفعل "تموت" إلى الفاعل "السّنون"، والفعل "تذبل" إلى الفاعل نفسه، فأعطى الفاعل أبعاداً جديدةً، فلم تعد السّنون زمناً عاديّاً، إذ أخذ من خلال الفعلين بعداً جديداً ووهجاً خاصّاً نقله من معناه المعجميّ، وأعطاه خصوصيّةً مغيّرةً لهويّته الحقيقيّة، من خلال اتّخاذه بعد الإنسان المعمّر والوردة. يقول في موضعٍ آخر:

    وطافتِ الأوهامُ... في عالمي    وزمجَرَتْ أشباحُها الظّالمة 
أسند الشّاعر الفعل "طافت" إلى الفاعل "الأوهام"، والفعل "زمجرت" إلى "الأشباح"، ما أحدث إبدالاً في هويّة هذه الأشياء، فاتّخذت بعد النّاس الحجيج الّذين يطوفون حول الحرم، أو الفراش الّذي يدور حول الضّوء، وبعد الوحوش الّتي تجوب الفلوات باحثةً عن فريستها، فالأوهام جرّدت الوحوش/ الأشباح لتهيمن على كيان الشّاعر. وكلّ ذلك نتيجة الإسناد الّذي أحدث تغييراً وزلزلةً في بناء اللّغة، ليعيد الشّاعر تركيبها وفق دلالاتٍ تنتمي إلى عالمه الخاصّ.

يقول في مكان ثالثٍ: (على وزن الخفيف)
  بعْثَرَتْ خطوَهُ الحياةُ فلم يملِكْ طريقاً... إلى مجالِ الخلودِ 
أسند الشَّاعر الفعل "بعثرت" إلى الفاعل "الحياة"، ما أحدث هزّةً في اللّغة نتيجة تبدّل هويّة "الحياة" الّتي صارت "ريحاً" تبعثر "الخطو" كالأوراق، وهذا الانتفاء جاء من خارج حقل التوقّعات، ليبرز شاعريّة البيت.
2 – إسناد الخبر إلى المبتدأ:
يقول السيّد فضل الله: (وزن الخفيف)     
 كلُّ هذي الهمومِ أطيافُ ماضٍ  عبثَتْ فيهِ لوعةُ الكبرياءِ

يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الخبر "أطياف" إلى المبتدأ "كلّ"، ما منح الهموم في هذا الإسناد بعداً غير عاديّ، أخرجها عن نسقها الموضوعيّ، فلم تعد الهموم مآسِي وآلاماً يقاسيها الشّاعر، بل اتّخذت خاصيّةً جديدةً تتراءى للشّاعر أينما قلب طرفه ونظر، يقول: (وزن الخفيف)

وحياتي شِلْوٌ تناهبَهُ الرّيحُ وألوى بجانبيهِ الذّبولُ
أسند الشّاعر الخبر "شلوٌ" إلى المبتدأ "حياتي"، فأحدث فجوةً شعريّةً لدى المتلقّي الّذي لم يتوقّع أن تصير الحياة بكلّ ما فيها من رؤى وأحلام، "شلواً" تناهبه الرّيح وهو ضعيف هزيل. وبذلك استمدّت الحياة من خلال هذا التّركيب بعداً إيحائيّاً وهويّةً جديدةً أخرجتها عن كليّتها لتخصّص لها الهويّة "الحيوانيّة"، بما في هذه الهويّة من دلالاتٍ وأبعاد. وإذا ما أراد الشّاعر الحديث عن عظمة الرّسالة، نراه يخاطب الرّسول، فيقول: (وزن الخفيف)
وتمرُّ السّنونُ ـ بعدكَ ـ والإسلامُ يخطو على هُداكَ الحبيبِ
أسند الشّاعر الفعل يخطو (الخبر) إلى المبتدأ "الإسلام"، ما جعلنا نرى الإسلام إنساناً يتّخذ من الرّسول قدوةً ومثالاً أعلى، احتذاه، وسار على هداه. وفي هذا الإسناد، تخطّت اللّغة الشعريّة اللّغة العاديّة، من خلال الإيحاء والدّلالات الّتي اكتسبتها الكلمات بالإسناد الجديد.
3 – إسناد الصّفة إلى الموصوف:
يقول السيّد الشّاعر: (على وزن السّريع)
فجِئْتُ في صوفيَّةٍ حُرَّةٍ  تُمِدُّني بالشُّعلةِ الهاديَة
أسند الشّاعر الصّفة "حرّة" إلى الموصوف "صوفيّة"، ما يمنح الصوفيّة الرّحابة والاتّساع، لتكون لحظة المناجاة لله خاليةً من قيود النّفس وشوائبها، وخصوصاً حين المثول بين يدي الله. وأسند الصّفة "الهادية" إلى الموصوف "الشّعلة"، ما أكسب الشّعلة هويّةً جديدةً أخرجتها عن نسقها الموضوعيّ، كونها ناراً، ومنحتها خاصيّة الهادي الّذي يبدّد ظلمات الطّريق، ويهدي الرّكب، ويحدّد المعالم.
ويقول في موضع آخر: (وزن السّريع)
            أدعُوكَ في شِعْرٍ: يرشُّ النَّدى  على رُؤَاهُ الخضرِ... أحلاميَهْ 
يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الصّفة "الخضر" إلى الموصوف "رؤى"، حيث أحدث هذا الإسناد فجوةً بين الصّفة والموصوف، فالرّؤى لم تعد مجرّداً، وإنّما اتّخذت بإسناد الصّفة "الخضر" هويّةً نباتيّةً، ما جعل الشّعر حقلاً تتواكب فيه الظّلال والنّدى والأحلام والرّؤى.
ويخاطب الشّاعر الرّسول محمّداً(ص) قائلاً: (على وزن الخفيف)
 
أنتَ روحُ الإسلامِ... أيُّ سلامٍ لمْ يفِضْ وحيُهُ مِنَ الينبُوعِ
من ربيعِ المشاعرِ البيضِ، في روحِ النبوَّاتِ، من جمالِ الرَّبيعِ
أسند الشّاعر الصّفة "البيض" إلى الموصوف "المشاعر"، ما أحدث صورةً توحي بالطّهر والجمال والرّوعة، "فالمشاعر" اكتسبت من الصّفة "البيض" دلالة النّقاء والصّفاء، فالصّفة "البيض" لم تُبقِ "المشاعر" مجرّد أحاسيس، وإنّما أضاءت الموصوف، فأبرزت جوانب جديدةً لم نكن نتوقّعها.
4 – المضاف والمضاف إليه:
اتّخذت الكلمات في تراكيب الشَّاعر أبعاداً دلاليّةً مغايرةً للواقع، من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر: (وزن الخفيف)
ثمَّ جاءتْ أخرَى... على صهوَةِ العُمْرِ... بزهوٍ مرنَّحٍ مشْغُوفِ
منحت إضافة "صهوة" إلى "العمر" الكلمة المعبّرة عن مرحلةٍ زمنيّةٍ يعيشها الإنسان، وهجاً وأبعاداً دلاليّةً مغايرة للواقع من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر:
ضُمَّني في بحيرةِ الحلمِ الورديّ في غفوةِ الرّؤى السَّمحاءِ
لقد اتّخذت "البحيرة" بُعداً جديداً من خلال إضافتها إلى "الحلم الورديّ"، وإضافة "غفوة" إلى "الرّؤى"، فلم تعد البحيرة مكاناً للتّرفيه، أو للسّباحة، بل اتّخذت هويّة الأمل والملتقى بين الله والشّاعر، وأمّا الرّؤى، فقد اتّخذت هويّةً إنسانيّةً حوّلتها إلى معنى مغاير لمعناها المعجميّ.
ويتَّخذ اللّيل بُعداً إنسانيّاً من خلال الإضافة. يقول الشّاعر:
إنَّني هُنا تُمزِّقُ قلْبي في خُطى اللّيلِ وحْشَةُ البَيْداءِ
أضاف الشّاعر "خطى" إلى "اللّيل"، وهذا الإسناد أفرز لغةً شعريّةً؛ فاللّيل صار إنساناً، وقد اتّخذ هذه الهويّة الإنسانيّة بإسناد الإضافة الّذي أقامه الشّاعر بين "الخطى" و"اللّيل"، إضافةً إلى إخراج "الوحشة إلى بعدٍ حيوانيّ مفترس".
5 – التّعدية إلى المفعول به.
يقول الشّاعر: (على وزن الخفيف)
فمضَى يصْهَرُ العذَابَ نشِيداً  ويصوغُ الآهاتِ لحْناً شَجِيَّا
اتَّخذ "العذاب" هويَّة الحديث من خلال الفعل المضارع "يصهر"، واتّخذت "الآهات" بُعْد السِّوار من خلال الفعل "يصوغ"، ليخرج المفعول به عن دلالته الأساسيّة، ويتّخذ بلغة السيّد مفهوماً آخر وهويّةً مغايرةً لحقيقته.

المصدر: كتاب "الاتّجاه الرّوحيّ في شعر السيّد محمّد حسين فضل الله".  
 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير