في ذكرى وفاةِ الرّسولِ (ص): أينَ المسلمون من وصاياه؟!

في ذكرى وفاةِ الرّسولِ (ص): أينَ المسلمون من وصاياه؟!

عشنا بالأمس، حسب بعض الروايات، ذكرى وفاة النبيّ محمد (ص)، وهناك بعض الروايات التي تقول إنّه توفي في الثاني من ربيع الأوَّل أو في الثاني عشر منه. ولسنا في مجال النقاش في تأريخ وفاة النبيّ (ص)، ولكنّنا نريد أن نتحدّث عنه في ذكرى وفاته؛ أوَّلاً في حديث القرآن عن ذلك، وثانياً في الأجواء التي حقّقها أو أثارها رسول الله (ص) في آخر سنة من حياته وفي القرآن الكريم أيضاً.

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله (ص): {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34]. فمن خلال سياق هذه الآية، وما يذكره مؤرّخو السيرة، نستوحي أنّ قريشاً كانت تتمنّى وفاة النبيّ (ص)، لأنّها كانت تضيق برسالته وبصموده وبشجاعته وباستمراره على الخطّ، ولذلك كانت تتمنّى موته، وجاءت هذه الآية لتقول لهؤلاء الذين يتمنون موته، كما توحي إلى الذين يتمنون موت المصلحين والصالحين من أولياء الله، أنَّ قضية الموت هي قضية الإنسان كلّه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30].

وتبقى الرِّسالة..

وننطلق من خلال هاتين الآيتين إلى الآية التي تريد أن تتحدَّث عن موت الرسول (ص) على أساس أن لا تتوقَّف المسيرة بل تستمرّ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]. إنَّ هذه الآية الكريمة تعطينا القيمة الإسلاميَّة في أيّ موقع من مواقع العمل أو المسيرة الإسلامية التي يموت فيها القائد والرسول والإمام، وهي أنَّ الرسول يموت ويبقى خطّ الرسالة، ويموت الإمام ويبقى خطّ الإمامة، ويموت القائد ويبقى خطّ القائد، لأنّ الرسول ليس شخصاً ترتبط حركة الرسالة به، بل هو شخص يطلق الرسالة ويدعو إليها ويبلّغها ويجاهد في سبيلها ويعمِّقها في وعي الناس، ويتحرّك على أساس أن يكون الصورة المشرقة لها، ثم يمضي إلى ربّه كما يمضي كلُّ إنسان إلى ربّه، لتبقى الرسالة، فيما بلّغه بكلمته، وفيما أكّده بعمله، وفيما وجَّهه في كلِّ خطواته ومواقفه.

وهذا ـــ أيُّها الأحبَّة ـــ هو ما نحتاج أن نستوحيه في كلِّ علاقتنا بالرموز المقدَّسة والعظيمة والمحترمة التي تعيش فيما بيننا، وذلك بأن نأخذ من هذا الرمز أو ذاك كلّ فكره وكلّ أخلاقه وكلّ خطّه، حتى إذا غاب عنّا جسده بقي ماثلاً فينا، وأن لا نرتبط بالشخص بل بالرسالة، ولعلّ قيمة المعصومين من الأنبياء والأولياء، أنَّ رسالتهم لا تنفصل عن ذواتهم، أي أنَّ هناك شخصاً يمكن أن تفصل ذاته عن رسالته، لأنّ ذاته يمكن أن تبتعد عن رسالته، كالكثير من القادة والمسؤولين الذين قد تجد لديهم ثغرة بين الرسالة وبين صاحبها، ولكن عند رسول الله (ص) وكلّ المعصومين من أبنائه، ليس هناك فرق بين الذَّات وبين الرسالة، لأنَّ الرسالة تجسّدت في ذاتهم، باعتبار أنّها تجسّدت في فكرهم الَّذي هو فكر الحقّ، وفي عاطفتهم التي لا تتحرّك إلاّ بالحقّ، وفي خطواتهم التي لا تنطلق إلَّا في طريق الحقّ، ولكن تبقى الرسالة في كلّ هذا الكيان المتحرّك من حياتهم، حتى لو غاب الجسد. فالآية تؤكِّد أنّنا يجب أن لا نرتبط بجسده، ولكن برسالته التي هي قوله وفعله وتقريره، بل هي كلّ حياته، لذلك قال الله تعالى لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21] ، قولوا كما يقول، وافعلوا كما يفعل، وقفوا كما يقف في كلِّ المواقف الإيجابية والسلبية.

إذاً، أراد الله للنَّاس أن يركّزوا على هذه الفكرة، وهي أنّ الرسول يموت كما يموت كلّ الناس لأنّه بشر، ولكن رسالته تبقى في مدى الزمن، لأنّها ليست رسالة الشَّخص، ولكنها رسالة الله.

الوصيّةُ الأخيرةُ

ثم نقترب من الأجواء التي عاشها رسول الله (ص) وأثارها، لنأخذ منها بعض المواقف الَّتي قد نتعلّم منها الكثير ونصحِّح الكثير. ففي حجّة الوداع ـــ في أكثر من رواية ـــ أنَّ النبيّ (ص) وقف خطيباً بالنِّاس في (منى) في يوم عيد الأضحى، وسألهم (وكم سائل عن أمره وهو عالمُ): أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم النَّحر، أيّ شهر هذا؟ قالوا: الشّهر الحرام، أيّ بلد هذا؟ قالوا: البلد الحرام. ثم قال، كما في ـــ الرواية ـــ مع اختلاف بعض التّعبيرات: "إنّ حرمة دمائكم وأموالكم - وربما قال: وأعراضكم - كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا ترجعنّ بعدي ضلَّالاً ـــ في رواية، أو كفّاراً، في رواية أخرى - يضرب بعضكم رقاب بعض - وفي بعض الرّوايات: ويلعن بعضكم بعضاً - ألا فليبلِّغ الشَّاهد الغائب، فلعلَّ من يبلغه أوعى ممَّن سمعه"1.

فكيف نأخذ هذه الكلمات الَّتي قالها رسول الله (ص) لمن حضر هناك، ولكنَّه أراد أن نسمع ذلك، وقد بلغنا ذلك، فكيف نواجه الموقف؟ إنَّ النبيَّ (ص) كان مسلماً كاملاً بكلِّه، بل كان يتحدَّث عن المسلمين الذين قد يختلفون في كثير من ممارستهم للإسلام، والذين قد يختزنون الكثير من نقاط الضّعف في بعض ما يفكّرون وفي بعض ما يعملون، حتى إنَّ النبيَّ (ص)، كما استوحينا من القرآن، كان يقبل النَّاس الذين لا يعتقدون بالإسلام، ولكنَّهم كانوا يدخلون في الإسلام نتيجة رغبة أو رهبة أو مصلحة أو ما إلى ذلك، لأنَّه كان يريد أن يبعد النَّاس عن خطِّ الكفر، وكان يريد أن يخرجهم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإسلام ليعيشوا فيه، عسى أن يفتح ذلك عقولهم من الموقع القريب على كلّ آفاق الإسلام، وربّما يقرّبهم إلى مفاهيمه وإلى عقائده وشرائعه، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14]. فالإسلام هو أن تسلم حياتك في داخل المجتمع للخطِّ العام الّذي يتحرّك فيه المسلمون، وإن كنت غير مقتنع بذلك من خلال الجانب الفكري أو ما إلى ذلك.

عنوانُ الإسلام

ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ علينا عندما نتحدَّث عن المسلمين، أن نتحدَّث عن كلِّ هذه الساحة الإسلاميَّة، حتى الذين نختلف معهم في بعض الخطوط الأصيلة، عندما تتَّصل المسألة بالواقع السياسي والواقع الاجتماعي للمسلمين، والواقع الذي يواجه فيه المسلمون الاستكبار العالميّ في كلّ مواقعه، والكفر العالمي في كلّ ساحاته، فهنا لا بدَّ للمسلمين، مهما اختلفوا مذاهبَ وأفكاراً وطرقاً، أن يلتقوا على كلمة الإسلام، لينصروا الإسلام كلّه، وليدخلوا معارك المسلمين كلّها، حتى إذا ارتاح الإسلام واستقرّ وقوي وحصل على موقع العزّة والقوّة والكرامة، فعند ذلك يمكن أن نتناقش ونتنازع، والله تعالى يريدنا أن لا نتسابب ولا نتلاعن، لأنّه أنكر على المسلمين أن يسبّوا الَّذين يدعون من دون الله بغير علم، ذلك لأنَّ الفعل السلبي ضدَّ الآخر يتحوَّل إلى ردّ فعل سلبيّ ضدّ مقدَّساتك: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108].

وهكذا نقرأ في (نهج البلاغة) أنَّ عليّاً (ع) سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشَّام، وهو في طريقه إلى حرب أهل الشَّام، فقال لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم"، وهذا وعي عليّ (ع) للحوار مع الآخر، وللتَّعبير عن الخلاف بينك وبين الآخر، "وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"2.

وهكذا عندما قال رسول الله (ص)، وهو يؤكِّد علاقة المسلمين بعضهم ببعض في كلِّ اهتماماتهم وكلِّ آلامهم وكلِّ مشاكلهم: "مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"3، فهو يتحدّث عن المسلمين باعتبار أنَّ عنوان الإسلام هو العنوان الَّذي يجب أن يتحرّك المسلمون حوله في السَّاحة، حتى لو كان ثمّة انحراف هنا وضلال هناك، فالمهمّ أن يكون عنوان الإسلام قويّاً في مقابل الكفر، وأن يكون المسلمون أقوياء في مقابل المستكبرين، ولذلك فإنَّ النبيَّ (ص) يعتبرك مسلماً إذا كانت أمور المسلمين هي اهتماماتك، وإذا كانت التحدّيات التي تواجه المسلمين هي التحدّيات التي تواجهها أنت، كما لو كانت تتحدَّاك بالذات.

الحوارُ عندَ الاختلاف

أيّها الأحبَّة: لو أنّ رسول الله (ص) كان حاضراً بشخصه، وهو الآن حاضرٌ فينا برسالته، لقال لنا، والمسلمون يواجهون أكبر التحدّيات التي تريد أن تستنزف ثرواتهم وكلّ طاقاتهم، وتصادر كلّ سياساتهم، وتحاصر كلَّ مواقعهم، وتضلِّل كلَّ حقائقهم: أيها المسلمون، إنّ المسلمين يعيشون هموماً كبيرة، كلٌّ في موقعه، وكلٌّ في ساحته، يواجهون تحدّيات كبيرة، كلٌّ في موقعه وكلٌّ في ساحته، لذلك لا تشغلوا أنفسكم بالنّزاعات التي تنصب الحواجز بينكم، ولكن حاولوا أن تسقطوا كلّ الحواجز في ساحة الصِّراع والمواجهة وفي ساحة التحدّيات.

أنا لا أريد أن أهوّن ما يختلف فيه المسلمون، فهناك حقائق لا بدَّ أن نلتزمها ولا يجوز لنا أن نتنازل عنها، ولكنَّ هناك فرقاً بين [أن نختلف دون أن نتحاور، وبين] أن أتحاور معك وتتحاور معي على أساس خطِّ القرآن {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59] ، فإذا كان الله يريدنا أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم - وكم هناك فرق في العقيدة وفي تفاصيلها وفي الشَّريعة ومسائلها، كم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب في كلّ ذلك - أفلا ندعو - من باب أولى - أهل القرآن ليقول كلّ منّا للآخر: يا أهل القرآن، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم في أسس العقيدة وامتدادات الشَّريعة وما إلى ذلك؟! وهكذا عندما نواجه الموقف في الجدال مع أهل الكتاب {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، فهل يكون ردّ فعلنا بأن نجادل أهل القرآن بالَّتي هي أسوأ سبّاً ولعناً وتجريحاً وتكفيراً وما إلى ذلك؟!

مخاطرُ النِّزاع

أيّها الأحبّة: إنَّ الساحة التي نعيشها الآن تطلق قول الرّسول (ص): "ألاَ لا ترجعنَّ بعدي ضلَّالاً - أو كفّاراً - يضرب بعضكم رقاب بعض" - أو يلعن بعضكم بعضاً - فكم نلعن بعضنا بعضاً، وكم نكفِّر بعضنا بعضاً! لقد انتهينا من تكفير الكافرين، وأصبح الكافرون حلفاء لنا، وأصبحوا أصدقاء لنا، وأصبحوا الذين نطالبهم ليدافعوا عنّا ضدّ المسلمين، أمّا المسلمون، فإنّنا نصفُ هذا بالشِّرك تارةً، وذاك بالكفر تارةً، ويبقى الاستكبار والكفر كلّه يضحك علينا جيِّداً، ويعرف كيف يثير العصبيَّات وكيف يثير الفتن فيما بيننا.

أيّها الأحبّة، حاولوا أن تحصلوا على الأرض، ثم تحدّثوا عن الديكور وعن الهندسة، لدينا الأرض الإسلاميَّة التي راحت تذوب فيما بعد أيدينا، فلقد اقتطع اليهود منها قطعة، واقتطع الاستكبار العالمي منها الكثير، إذا لم يكن بالمعنى المباشر فبالمعنى غير المباشر، فهل هناك اقتصاد إسلامي أو أمن إسلامي أو سياسة إسلامية؟! ونظلّ نتنازع في جزئيات وهوامش أمورنا. إنّ شاعراً فلسطينياً4كان يخاطب زعماء الفلسطينيّين في العام 1936، فيقول لهم:

في يدينا بقيَّة من بلاد فاستريحوا كي لا تطير البقيَّة

ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

إنّي أخشى أنَّنا نقف الآن على شفا حفرة من النَّار: النار السياسية والاقتصادية والأمنية التي نخشى أن تُدخلَنا نار الآخرة.

لا نجاةَ إلَّا بالعمل

أيّها الأحبّة، هذا هو درس رسول الله (ص) لنا في خطبة حجّة الوداع. وأمّا الدرس الثاني، فقد انطلق ليقول للمسلمين وهو يودّعهم: "ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شرّاً إلَّا العمل. أيَّها النَّاس، لا يدَّع مدَّع، ولا يتمنَّ متمنٍّ، والَّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلَّا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"5. إنّه (ص) يستوحي الآية القرآنية: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة: 105]، والآية: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}، لا تقولوا نحن المسلمين الجنَّة ساحتنا، ولا تقولوا نحن أهل الكتاب الجنّة ساحتنا، حتى لو عصينا الله، وحتى لو ابتعدنا عن خطّه المستقيم {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}[النساء: 123].

وينطلق رسول الله (ص) ليخاطب أقرباءه، كما تقول كتب السيرة: "يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً"6. إنّه لا يتحدَّث عن الشفاعة، والشفاعة منزلته ودرجته، ولكنّه يتحدّث عن الناس الذين لا يعملون ولا يطيعون ولا يلتزمون، ويبقى النسب وحده هو الأساس الذي يربطهم بالله.

ولقد قالها الإمام عليّ (ع): "إنّ وليّ محمَّد مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوَّ محمد مَن عصى الله وإنْ قَرُبَت قرابته"7، وها ما عبّر عنه الشَّاعر بقوله:

كانت مودَّة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ

إنَّ علينا أن نأخذ هذه الكلمات النبويَّة القرآنيَّة دستوراً لنا، لنعتبر أنّ القيمة، كلّ القيمة، التي نتحرّك بها في حياتنا وفي علاقاتنا بعضنا ببعض، من حيث تقويم منزلة هذا وذاك، والقيمة، كلّ القيمة، في علاقتنا بربّنا، هي العمل والتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]. فالعمل هو القيمة لا النَّسب ولا الجاه، فالحديث لا يتحدَّث عن جانب المصير الشخصي بالنَّسبة إلينا، إنّما يتحدَّث عن طريقة التقويم للأشخاص وللأوضاع التي لا بدَّ لنا أن نعيشها هنا وهناك.

تعقيداتٌ تمنع الوصيَّة

كان النبيّ (ص) يفكّر في أمّته حتى وهو في آخر أيَّام حياته، عندما رأى أنَّ هناك من يفسِّر الأشياء بغير معانيها، وأنَّ هناك من يثير الاختلاف هنا وهناك، وأراد النبيّ (ص) أن يعطي الوضوح كلّه، بحيث لا يختلف النَّاس حول ما أراد وحول ما يريد، لقد تركهم النبيّ (ص) لظواهر الكتاب وهي الحجّة، ولظواهر سنّته وهي الحجّة، ولكنّه خاف عليهم أن يضلّوا من خلال طبيعة الفوضى الثقافية أو النفسية التي يعيشونها، فقال: ""ائْتُونِي بالكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا"8، وهو يريد أن يعطيهم الوضوح، كلّ الوضوح، لأنّ الأجواء كانت تثير الكثير من الضَّباب. واندفع شخص ليقول إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع، وإنّ النبيّ ليهجر، وهو يعرف أنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: 3 – 4]، وأنّ النبيّ (ص) كان عقلاً كلّه، جاء من أجل أن يعطي العالم عقلاً، فلا يمكن للعقل الَّذي أراد الله له أن يبقى متفتّحاً قويَّاً معصوماً إلى أن يلفظ أنفاسه، أن يهجر، ولكنّ القضية أُثيرت، وخلقت كثيراً من الجدل، ما يدلّ على أنّ هناك كثيراً من التعقيدات دخلت الواقع الإسلاميّ، بحيث إنّهم يجتمعون عند رسول الله (ص) وهو يقول كلمة ويطلب أمراً، فيختلف الناس معه، فهذا يقول ائتوه بالدواة وبالكتف، وذاك يقول إنَّ النبيّ ليهجر. وضاعت الكلمة الواضحة الصَّريحة، عندما قالوا لرسول الله (ص)، كما تقول كتب السيرة: "ألا نأتيك يا رسول الله بالدَّواة وبالكتف؟ قال: أبعد الَّذي قلتم؟!"، فلو كتبتُ، فسيقول البعض منكم إنَّ النبيّ كتبه وهو غير واعٍ لما يريد، فلقد كان يهجر بكلمته، وضاعت الفرصة الأخيرة.

ونستفيد من كلمة "لن تضلّوا بعدي أبداً"، أنّ هذا الكتاب يحمل الصَّراحة والوضوح في كلّ القضايا الحيوية التي أراد النبيّ (ص) أن يوضحها، بحيث لا يبقى هناك خلاف، وفي مقدَّمها قصة الولاية وقصة الغدير، ولكنّ التعقيدات التي عاشها المسلمون أضاعت القضيَّة.

ونستوحي من ذلك، أنّنا نعيش الكثير من التعقيدات حول الكثير من الحقائق، فقد لا نريد الوضوح في الأشياء، لأنّ الوضوح قد يتعبنا، وقد يسيء إلى تخلُّفنا وإلى مصالحنا وشهواتنا، إنّنا نحبّ دائماً - بكلّ أسف - أن نعيش في الضباب، حتى إنّنا لا نقبل الضَّباب الذي تطلّ الشمس من ورائه، لأنّ الضباب هو الذي يحمي لنا عصبيّاتنا، ويؤكّد لنا تخلُّفنا، وهو الذي يجعلنا نتفرَّق ونضيع، لأنّنا لا نملك الضَّوء الذي نعرف فيه من أين نبدأ وأين سننتهي.

العودةُ إلى القرآن

أيّها الأحبَّة، إنَّ الله يريد لنا أن نبحث عن الحقيقة وعن إشراقها، وقد قال لنا: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]، النور الذي علينا أن نبحث عنه.. فاقرأوا كتاب الله جيِّداً، حاولوا أن تتدبّروه جيِّداً، فهو الأساس في كلِّ ما نعتقد، وهو الأساس في كلِّ ما نحمل من مفاهيم، وهو الأساس في كلِّ تصحيح لكلِّ ما يأتينا من أحاديث هنا وهناك.

أيّها الأحبَّة، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمّد: 24]. علينا أن نكسر هذه الأقفال، حتى يدخل الكتاب بكلّه إلى عقولنا وقلوبنا، وذلك درس رسول الله فينا.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*محاضرة لسماحته، بتاريخ: 29/ صفر/1418 هـــ/ الموافق: 5 – 7 – 1997م.

[1]شرح النووي، ج11، ص 70.

[2]نهج البلاغة، ج2، ص 186.

[3]وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص 337.

[4]هو الشاعر الفلسطيني "إبراهيم طوقان".

[5]بحار الأنوار، ج22، ص 467.

[6]بحار الأنوار، ج19، ص 66.

[7]بحار الأنوار، ج 64، ص 20

[8]صحيح مسلم، ص 1637.

عشنا بالأمس، حسب بعض الروايات، ذكرى وفاة النبيّ محمد (ص)، وهناك بعض الروايات التي تقول إنّه توفي في الثاني من ربيع الأوَّل أو في الثاني عشر منه. ولسنا في مجال النقاش في تأريخ وفاة النبيّ (ص)، ولكنّنا نريد أن نتحدّث عنه في ذكرى وفاته؛ أوَّلاً في حديث القرآن عن ذلك، وثانياً في الأجواء التي حقّقها أو أثارها رسول الله (ص) في آخر سنة من حياته وفي القرآن الكريم أيضاً.

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله (ص): {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34]. فمن خلال سياق هذه الآية، وما يذكره مؤرّخو السيرة، نستوحي أنّ قريشاً كانت تتمنّى وفاة النبيّ (ص)، لأنّها كانت تضيق برسالته وبصموده وبشجاعته وباستمراره على الخطّ، ولذلك كانت تتمنّى موته، وجاءت هذه الآية لتقول لهؤلاء الذين يتمنون موته، كما توحي إلى الذين يتمنون موت المصلحين والصالحين من أولياء الله، أنَّ قضية الموت هي قضية الإنسان كلّه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30].

وتبقى الرِّسالة..

وننطلق من خلال هاتين الآيتين إلى الآية التي تريد أن تتحدَّث عن موت الرسول (ص) على أساس أن لا تتوقَّف المسيرة بل تستمرّ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]. إنَّ هذه الآية الكريمة تعطينا القيمة الإسلاميَّة في أيّ موقع من مواقع العمل أو المسيرة الإسلامية التي يموت فيها القائد والرسول والإمام، وهي أنَّ الرسول يموت ويبقى خطّ الرسالة، ويموت الإمام ويبقى خطّ الإمامة، ويموت القائد ويبقى خطّ القائد، لأنّ الرسول ليس شخصاً ترتبط حركة الرسالة به، بل هو شخص يطلق الرسالة ويدعو إليها ويبلّغها ويجاهد في سبيلها ويعمِّقها في وعي الناس، ويتحرّك على أساس أن يكون الصورة المشرقة لها، ثم يمضي إلى ربّه كما يمضي كلُّ إنسان إلى ربّه، لتبقى الرسالة، فيما بلّغه بكلمته، وفيما أكّده بعمله، وفيما وجَّهه في كلِّ خطواته ومواقفه.

وهذا ـــ أيُّها الأحبَّة ـــ هو ما نحتاج أن نستوحيه في كلِّ علاقتنا بالرموز المقدَّسة والعظيمة والمحترمة التي تعيش فيما بيننا، وذلك بأن نأخذ من هذا الرمز أو ذاك كلّ فكره وكلّ أخلاقه وكلّ خطّه، حتى إذا غاب عنّا جسده بقي ماثلاً فينا، وأن لا نرتبط بالشخص بل بالرسالة، ولعلّ قيمة المعصومين من الأنبياء والأولياء، أنَّ رسالتهم لا تنفصل عن ذواتهم، أي أنَّ هناك شخصاً يمكن أن تفصل ذاته عن رسالته، لأنّ ذاته يمكن أن تبتعد عن رسالته، كالكثير من القادة والمسؤولين الذين قد تجد لديهم ثغرة بين الرسالة وبين صاحبها، ولكن عند رسول الله (ص) وكلّ المعصومين من أبنائه، ليس هناك فرق بين الذَّات وبين الرسالة، لأنَّ الرسالة تجسّدت في ذاتهم، باعتبار أنّها تجسّدت في فكرهم الَّذي هو فكر الحقّ، وفي عاطفتهم التي لا تتحرّك إلاّ بالحقّ، وفي خطواتهم التي لا تنطلق إلَّا في طريق الحقّ، ولكن تبقى الرسالة في كلّ هذا الكيان المتحرّك من حياتهم، حتى لو غاب الجسد. فالآية تؤكِّد أنّنا يجب أن لا نرتبط بجسده، ولكن برسالته التي هي قوله وفعله وتقريره، بل هي كلّ حياته، لذلك قال الله تعالى لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21] ، قولوا كما يقول، وافعلوا كما يفعل، وقفوا كما يقف في كلِّ المواقف الإيجابية والسلبية.

إذاً، أراد الله للنَّاس أن يركّزوا على هذه الفكرة، وهي أنّ الرسول يموت كما يموت كلّ الناس لأنّه بشر، ولكن رسالته تبقى في مدى الزمن، لأنّها ليست رسالة الشَّخص، ولكنها رسالة الله.

الوصيّةُ الأخيرةُ

ثم نقترب من الأجواء التي عاشها رسول الله (ص) وأثارها، لنأخذ منها بعض المواقف الَّتي قد نتعلّم منها الكثير ونصحِّح الكثير. ففي حجّة الوداع ـــ في أكثر من رواية ـــ أنَّ النبيّ (ص) وقف خطيباً بالنِّاس في (منى) في يوم عيد الأضحى، وسألهم (وكم سائل عن أمره وهو عالمُ): أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم النَّحر، أيّ شهر هذا؟ قالوا: الشّهر الحرام، أيّ بلد هذا؟ قالوا: البلد الحرام. ثم قال، كما في ـــ الرواية ـــ مع اختلاف بعض التّعبيرات: "إنّ حرمة دمائكم وأموالكم - وربما قال: وأعراضكم - كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا ترجعنّ بعدي ضلَّالاً ـــ في رواية، أو كفّاراً، في رواية أخرى - يضرب بعضكم رقاب بعض - وفي بعض الرّوايات: ويلعن بعضكم بعضاً - ألا فليبلِّغ الشَّاهد الغائب، فلعلَّ من يبلغه أوعى ممَّن سمعه"1.

فكيف نأخذ هذه الكلمات الَّتي قالها رسول الله (ص) لمن حضر هناك، ولكنَّه أراد أن نسمع ذلك، وقد بلغنا ذلك، فكيف نواجه الموقف؟ إنَّ النبيَّ (ص) كان مسلماً كاملاً بكلِّه، بل كان يتحدَّث عن المسلمين الذين قد يختلفون في كثير من ممارستهم للإسلام، والذين قد يختزنون الكثير من نقاط الضّعف في بعض ما يفكّرون وفي بعض ما يعملون، حتى إنَّ النبيَّ (ص)، كما استوحينا من القرآن، كان يقبل النَّاس الذين لا يعتقدون بالإسلام، ولكنَّهم كانوا يدخلون في الإسلام نتيجة رغبة أو رهبة أو مصلحة أو ما إلى ذلك، لأنَّه كان يريد أن يبعد النَّاس عن خطِّ الكفر، وكان يريد أن يخرجهم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإسلام ليعيشوا فيه، عسى أن يفتح ذلك عقولهم من الموقع القريب على كلّ آفاق الإسلام، وربّما يقرّبهم إلى مفاهيمه وإلى عقائده وشرائعه، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14]. فالإسلام هو أن تسلم حياتك في داخل المجتمع للخطِّ العام الّذي يتحرّك فيه المسلمون، وإن كنت غير مقتنع بذلك من خلال الجانب الفكري أو ما إلى ذلك.

عنوانُ الإسلام

ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ علينا عندما نتحدَّث عن المسلمين، أن نتحدَّث عن كلِّ هذه الساحة الإسلاميَّة، حتى الذين نختلف معهم في بعض الخطوط الأصيلة، عندما تتَّصل المسألة بالواقع السياسي والواقع الاجتماعي للمسلمين، والواقع الذي يواجه فيه المسلمون الاستكبار العالميّ في كلّ مواقعه، والكفر العالمي في كلّ ساحاته، فهنا لا بدَّ للمسلمين، مهما اختلفوا مذاهبَ وأفكاراً وطرقاً، أن يلتقوا على كلمة الإسلام، لينصروا الإسلام كلّه، وليدخلوا معارك المسلمين كلّها، حتى إذا ارتاح الإسلام واستقرّ وقوي وحصل على موقع العزّة والقوّة والكرامة، فعند ذلك يمكن أن نتناقش ونتنازع، والله تعالى يريدنا أن لا نتسابب ولا نتلاعن، لأنّه أنكر على المسلمين أن يسبّوا الَّذين يدعون من دون الله بغير علم، ذلك لأنَّ الفعل السلبي ضدَّ الآخر يتحوَّل إلى ردّ فعل سلبيّ ضدّ مقدَّساتك: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108].

وهكذا نقرأ في (نهج البلاغة) أنَّ عليّاً (ع) سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشَّام، وهو في طريقه إلى حرب أهل الشَّام، فقال لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم"، وهذا وعي عليّ (ع) للحوار مع الآخر، وللتَّعبير عن الخلاف بينك وبين الآخر، "وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"2.

وهكذا عندما قال رسول الله (ص)، وهو يؤكِّد علاقة المسلمين بعضهم ببعض في كلِّ اهتماماتهم وكلِّ آلامهم وكلِّ مشاكلهم: "مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"3، فهو يتحدّث عن المسلمين باعتبار أنَّ عنوان الإسلام هو العنوان الَّذي يجب أن يتحرّك المسلمون حوله في السَّاحة، حتى لو كان ثمّة انحراف هنا وضلال هناك، فالمهمّ أن يكون عنوان الإسلام قويّاً في مقابل الكفر، وأن يكون المسلمون أقوياء في مقابل المستكبرين، ولذلك فإنَّ النبيَّ (ص) يعتبرك مسلماً إذا كانت أمور المسلمين هي اهتماماتك، وإذا كانت التحدّيات التي تواجه المسلمين هي التحدّيات التي تواجهها أنت، كما لو كانت تتحدَّاك بالذات.

الحوارُ عندَ الاختلاف

أيّها الأحبَّة: لو أنّ رسول الله (ص) كان حاضراً بشخصه، وهو الآن حاضرٌ فينا برسالته، لقال لنا، والمسلمون يواجهون أكبر التحدّيات التي تريد أن تستنزف ثرواتهم وكلّ طاقاتهم، وتصادر كلّ سياساتهم، وتحاصر كلَّ مواقعهم، وتضلِّل كلَّ حقائقهم: أيها المسلمون، إنّ المسلمين يعيشون هموماً كبيرة، كلٌّ في موقعه، وكلٌّ في ساحته، يواجهون تحدّيات كبيرة، كلٌّ في موقعه وكلٌّ في ساحته، لذلك لا تشغلوا أنفسكم بالنّزاعات التي تنصب الحواجز بينكم، ولكن حاولوا أن تسقطوا كلّ الحواجز في ساحة الصِّراع والمواجهة وفي ساحة التحدّيات.

أنا لا أريد أن أهوّن ما يختلف فيه المسلمون، فهناك حقائق لا بدَّ أن نلتزمها ولا يجوز لنا أن نتنازل عنها، ولكنَّ هناك فرقاً بين [أن نختلف دون أن نتحاور، وبين] أن أتحاور معك وتتحاور معي على أساس خطِّ القرآن {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59] ، فإذا كان الله يريدنا أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم - وكم هناك فرق في العقيدة وفي تفاصيلها وفي الشَّريعة ومسائلها، كم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب في كلّ ذلك - أفلا ندعو - من باب أولى - أهل القرآن ليقول كلّ منّا للآخر: يا أهل القرآن، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم في أسس العقيدة وامتدادات الشَّريعة وما إلى ذلك؟! وهكذا عندما نواجه الموقف في الجدال مع أهل الكتاب {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، فهل يكون ردّ فعلنا بأن نجادل أهل القرآن بالَّتي هي أسوأ سبّاً ولعناً وتجريحاً وتكفيراً وما إلى ذلك؟!

مخاطرُ النِّزاع

أيّها الأحبّة: إنَّ الساحة التي نعيشها الآن تطلق قول الرّسول (ص): "ألاَ لا ترجعنَّ بعدي ضلَّالاً - أو كفّاراً - يضرب بعضكم رقاب بعض" - أو يلعن بعضكم بعضاً - فكم نلعن بعضنا بعضاً، وكم نكفِّر بعضنا بعضاً! لقد انتهينا من تكفير الكافرين، وأصبح الكافرون حلفاء لنا، وأصبحوا أصدقاء لنا، وأصبحوا الذين نطالبهم ليدافعوا عنّا ضدّ المسلمين، أمّا المسلمون، فإنّنا نصفُ هذا بالشِّرك تارةً، وذاك بالكفر تارةً، ويبقى الاستكبار والكفر كلّه يضحك علينا جيِّداً، ويعرف كيف يثير العصبيَّات وكيف يثير الفتن فيما بيننا.

أيّها الأحبّة، حاولوا أن تحصلوا على الأرض، ثم تحدّثوا عن الديكور وعن الهندسة، لدينا الأرض الإسلاميَّة التي راحت تذوب فيما بعد أيدينا، فلقد اقتطع اليهود منها قطعة، واقتطع الاستكبار العالمي منها الكثير، إذا لم يكن بالمعنى المباشر فبالمعنى غير المباشر، فهل هناك اقتصاد إسلامي أو أمن إسلامي أو سياسة إسلامية؟! ونظلّ نتنازع في جزئيات وهوامش أمورنا. إنّ شاعراً فلسطينياً4كان يخاطب زعماء الفلسطينيّين في العام 1936، فيقول لهم:

في يدينا بقيَّة من بلاد فاستريحوا كي لا تطير البقيَّة

ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

إنّي أخشى أنَّنا نقف الآن على شفا حفرة من النَّار: النار السياسية والاقتصادية والأمنية التي نخشى أن تُدخلَنا نار الآخرة.

لا نجاةَ إلَّا بالعمل

أيّها الأحبّة، هذا هو درس رسول الله (ص) لنا في خطبة حجّة الوداع. وأمّا الدرس الثاني، فقد انطلق ليقول للمسلمين وهو يودّعهم: "ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شرّاً إلَّا العمل. أيَّها النَّاس، لا يدَّع مدَّع، ولا يتمنَّ متمنٍّ، والَّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلَّا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"5. إنّه (ص) يستوحي الآية القرآنية: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة: 105]، والآية: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}، لا تقولوا نحن المسلمين الجنَّة ساحتنا، ولا تقولوا نحن أهل الكتاب الجنّة ساحتنا، حتى لو عصينا الله، وحتى لو ابتعدنا عن خطّه المستقيم {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}[النساء: 123].

وينطلق رسول الله (ص) ليخاطب أقرباءه، كما تقول كتب السيرة: "يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً"6. إنّه لا يتحدَّث عن الشفاعة، والشفاعة منزلته ودرجته، ولكنّه يتحدّث عن الناس الذين لا يعملون ولا يطيعون ولا يلتزمون، ويبقى النسب وحده هو الأساس الذي يربطهم بالله.

ولقد قالها الإمام عليّ (ع): "إنّ وليّ محمَّد مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوَّ محمد مَن عصى الله وإنْ قَرُبَت قرابته"7، وها ما عبّر عنه الشَّاعر بقوله:

كانت مودَّة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ

إنَّ علينا أن نأخذ هذه الكلمات النبويَّة القرآنيَّة دستوراً لنا، لنعتبر أنّ القيمة، كلّ القيمة، التي نتحرّك بها في حياتنا وفي علاقاتنا بعضنا ببعض، من حيث تقويم منزلة هذا وذاك، والقيمة، كلّ القيمة، في علاقتنا بربّنا، هي العمل والتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]. فالعمل هو القيمة لا النَّسب ولا الجاه، فالحديث لا يتحدَّث عن جانب المصير الشخصي بالنَّسبة إلينا، إنّما يتحدَّث عن طريقة التقويم للأشخاص وللأوضاع التي لا بدَّ لنا أن نعيشها هنا وهناك.

تعقيداتٌ تمنع الوصيَّة

كان النبيّ (ص) يفكّر في أمّته حتى وهو في آخر أيَّام حياته، عندما رأى أنَّ هناك من يفسِّر الأشياء بغير معانيها، وأنَّ هناك من يثير الاختلاف هنا وهناك، وأراد النبيّ (ص) أن يعطي الوضوح كلّه، بحيث لا يختلف النَّاس حول ما أراد وحول ما يريد، لقد تركهم النبيّ (ص) لظواهر الكتاب وهي الحجّة، ولظواهر سنّته وهي الحجّة، ولكنّه خاف عليهم أن يضلّوا من خلال طبيعة الفوضى الثقافية أو النفسية التي يعيشونها، فقال: ""ائْتُونِي بالكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا"8، وهو يريد أن يعطيهم الوضوح، كلّ الوضوح، لأنّ الأجواء كانت تثير الكثير من الضَّباب. واندفع شخص ليقول إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع، وإنّ النبيّ ليهجر، وهو يعرف أنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: 3 – 4]، وأنّ النبيّ (ص) كان عقلاً كلّه، جاء من أجل أن يعطي العالم عقلاً، فلا يمكن للعقل الَّذي أراد الله له أن يبقى متفتّحاً قويَّاً معصوماً إلى أن يلفظ أنفاسه، أن يهجر، ولكنّ القضية أُثيرت، وخلقت كثيراً من الجدل، ما يدلّ على أنّ هناك كثيراً من التعقيدات دخلت الواقع الإسلاميّ، بحيث إنّهم يجتمعون عند رسول الله (ص) وهو يقول كلمة ويطلب أمراً، فيختلف الناس معه، فهذا يقول ائتوه بالدواة وبالكتف، وذاك يقول إنَّ النبيّ ليهجر. وضاعت الكلمة الواضحة الصَّريحة، عندما قالوا لرسول الله (ص)، كما تقول كتب السيرة: "ألا نأتيك يا رسول الله بالدَّواة وبالكتف؟ قال: أبعد الَّذي قلتم؟!"، فلو كتبتُ، فسيقول البعض منكم إنَّ النبيّ كتبه وهو غير واعٍ لما يريد، فلقد كان يهجر بكلمته، وضاعت الفرصة الأخيرة.

ونستفيد من كلمة "لن تضلّوا بعدي أبداً"، أنّ هذا الكتاب يحمل الصَّراحة والوضوح في كلّ القضايا الحيوية التي أراد النبيّ (ص) أن يوضحها، بحيث لا يبقى هناك خلاف، وفي مقدَّمها قصة الولاية وقصة الغدير، ولكنّ التعقيدات التي عاشها المسلمون أضاعت القضيَّة.

ونستوحي من ذلك، أنّنا نعيش الكثير من التعقيدات حول الكثير من الحقائق، فقد لا نريد الوضوح في الأشياء، لأنّ الوضوح قد يتعبنا، وقد يسيء إلى تخلُّفنا وإلى مصالحنا وشهواتنا، إنّنا نحبّ دائماً - بكلّ أسف - أن نعيش في الضباب، حتى إنّنا لا نقبل الضَّباب الذي تطلّ الشمس من ورائه، لأنّ الضباب هو الذي يحمي لنا عصبيّاتنا، ويؤكّد لنا تخلُّفنا، وهو الذي يجعلنا نتفرَّق ونضيع، لأنّنا لا نملك الضَّوء الذي نعرف فيه من أين نبدأ وأين سننتهي.

العودةُ إلى القرآن

أيّها الأحبَّة، إنَّ الله يريد لنا أن نبحث عن الحقيقة وعن إشراقها، وقد قال لنا: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]، النور الذي علينا أن نبحث عنه.. فاقرأوا كتاب الله جيِّداً، حاولوا أن تتدبّروه جيِّداً، فهو الأساس في كلِّ ما نعتقد، وهو الأساس في كلِّ ما نحمل من مفاهيم، وهو الأساس في كلِّ تصحيح لكلِّ ما يأتينا من أحاديث هنا وهناك.

أيّها الأحبَّة، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمّد: 24]. علينا أن نكسر هذه الأقفال، حتى يدخل الكتاب بكلّه إلى عقولنا وقلوبنا، وذلك درس رسول الله فينا.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*محاضرة لسماحته، بتاريخ: 29/ صفر/1418 هـــ/ الموافق: 5 – 7 – 1997م.

[1]شرح النووي، ج11، ص 70.

[2]نهج البلاغة، ج2، ص 186.

[3]وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص 337.

[4]هو الشاعر الفلسطيني "إبراهيم طوقان".

[5]بحار الأنوار، ج22، ص 467.

[6]بحار الأنوار، ج19، ص 66.

[7]بحار الأنوار، ج 64، ص 20

[8]صحيح مسلم، ص 1637.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير