كأنَّهم لم يموتوا بل رأوا حلماً

السيد مجمد حسين فضل الله

جَاوَرْتُ حُزْنَكَ لا يَأْسَاً ولا نَدَمَا * دَمْعٌ على الدَّمْعِ إنْ خالَطْتَهُ انْسَجَمَا
لو أنَّ قَبْرَكَ يدري مَنْ يَحلُّ بِهِ * لَكَانَ أَشْرَقَ وَجْهُ القَبْرِ وابْتَسَمَا
قَبَسْتُ(1) نَارَكَ مِنْ أَعْلى مَوَاقِدِهَ * كالجَمْرِ هَبَّتْ عليهِ الرِّيحُ فَاضْطَرَمَا(2)
هذا البَيَانُ وَكَمْ في سِحْرِهِ خَفَقَتْ * روحُ الإلَهِ وإنْ سَمَّيْتَهُ كَلِمَا(3)
يا رَاكِبَ الفَرَسِ البيْضَاءِ خِفَّ بِنَا * واصْعَدْ فَدَيْتُكَ محْمولاً ومُقْتَحِمَا
والمُسْ بِكَفِّكَ بابَ العَرْشِ إنَّ لَهُ * إلى الجنوبِ طريقاً ليِّناً أَمَمَا(4)
لي فيكَ سُكْرٌ ومَا للصَّحْوِ فيهِ يَدٌ * ما ليْسَ يَعْرِفُهُ إلَّا الّذي عَلِمَا
وقَد ظَمِئْتُ فَكُنْ خَمري وَصُبَّكَ بي * واجْعَلْ ثُمَالَة(5) كَأسَيْنَا فَمَاً وَفَمَا
شَرِبْتُ نَخْبَكَ مِنْ رَاحٍ(6) مُقَدَّسَةٍ * مِنْ عَهْدِ آدَمَ لم تَهْرَمْ ولا هَرِمَا
مَخْبُوءَةٍ في جِرَارٍ ليسَ يعرِفُهَ * سوى النَّبيّينَ مَعْصُوماً ومُعْتَصِمَا
وقَدْ ثَمِلْنَا فدارَتْ حولَنَا خَبَبٌ(7) * هذي النّجومُ تَدُرُّ(8) الآسَ(9) والنَّسَمَا
ما دَلَّنَا حينَ جِئْنا غيرُ بارقةٍ * طَيْرٌ تَحومُ وطَيْرٌ هادِئٌ جَثَمَا
وصُوِّبَ السَّهْمُ نحوَ النَّازلينَ ضُحَىً * في عينِ دَارِكَ حيثُ الماءُ ما انقَسَمَا
حتَّى إذا اكتَمَلَتْ للأرضِ صُورَتُهَ * وأشْرَقَتْ شَمْسُهَا وازَّيَّنَتْ قِمَمَا
وقالَ ربُّكَ للأفْلاكِ يأمُرُهُ * ـ كما الخِرَافُ ـ بِأنْ تأتيْ وتنْتَظِمَا
واصْطَفَّ كلُّ مَلاكٍ في مَحَفَّتِهِ * على الأَريكَةِ مَنْدوبَاً ومُرْتَسِمَا(10)
أشارَ نَحْوَكَ بالكفِّ الّتي خَلَقَتْ * وقالَ: أنْتَ، فقد أعْطَيْتُكَ القَلَمَا
أفدي السَّوادَ الَّذي ما اهْتزَّ لَيْلَكُهُ * إلَّا تَكَسَّرَ قلبُ اللَّيلِ وانحَطَمَا
سوادُ ثَوبِكَ مَنْشوراً على زَمَنٍ * كَضَوءِ وَجْهِكَ مَجْلُوَّاً ومُبْتَسِمَا
يمحو ويُثْبِتُ مَا شاءَ الإلهُ لَهُ * ويَجْمَعُ الكَوْنَ في بُرْدَيْهِ والعَدَمَا
كآيتينِ فَسُبْحَانَ الَّذي صَنَعَتْ * كَفَّاهُ صُوْرَةَ مَنْ آوى ومَنْ رِحِمَا
سِرُّ المرايا وسِرُّ النَّايِ في قَصَبٍ * في جَوْفِهِ اللَّحْنُ مَوْصولاً ومُنْثَلِمَا
هذا الحَمَامُ فأَسْرابٌ مُهَاجِرةٌ * إلى العراقِ وأسرابٌ تَنِزُّ دَمَا
طارَتْ ولم يَبْقَ منها غيرُ واحدةٍ * بيضاءَ سوداءَ تطوي السَّفْحَ والأكَمَا(11)
وقيلَ إنَّكَ مَأْواها وَمَوْئِلُها * وقيلَ إنَّك كنْتَ النَّارَ والعَلَمَا
وقيلَ إنَّكَ لَمَّا أوشَكَتْ وَدَنَتْ * وهَتَّكَ(12) النَّاهِبُونَ البيتَ والحَرَمَا
في أرْضِ مكَّةَ حيثُ النُّورُ تحْجُبُه * سُودُ الغَرابينِ عمَّنْ طَافَ واستَلَمَا
وقامَ ثَمَّةَ مَنْ صلَّى على صَنَمٍ * بعدَ الطَّوافِ وإنْ ضحَّى وإنْ رَجَمَا
وقالَ ربُّكَ للشَّعْبِ الَّذي حضَنَتْ * أرضُ الكِنَانَةِ فيه البأْسَ والحُلُمَا
دُوسُوا مَعَاقِلَ فِرْعونٍ وعزَّتَهُ * في أرضِ مِصْرَ وهُزُّوا النِّيلَ والهَرَمَا
كَشَفْتَ وجْهَكَ حتَّى إنَّهُ زَمَنٌ * على الزَّمانِ وسيفٌ بعْدُ ما انثَلَمَا
ماذا أقولُ لَكُمْ يا سيِّدي وأَبي * وأنْتَ أعْلَمُ بالحَدِّ الّذي ارتَسَمَا
دارَتْ تدورُ علينا ألْفُ غَاشِيَةٍ(13) * مِنَ الظَّلامِ وقَلْبُ الفَجْرِ ما انهَزَمَا
تعلو بِنَا الشَّمْسُ حتَّى إنَّنَا عَلَمٌ * ويهبطُ اللَّيلُ يمحو الظِّلَّ والقَدَمَا
فَاهدَأْ فَدَيْتُكَ إنَّا هَادِئونَ هُنَا * سِيَّانِ مَنْ حَمَلَ البلوى ومَنْ سِلِمَا
ما زِلْتُ أُصغي لِخَطْوٍ في منَازِلِهِمْ * كأنَّهُمْ لم يَموتوا بَلْ رَأَوْا حُلُمَا
 
(1) قبست: قبس النَّارَ، أي أوقدها وأخذ شعلة.
(2) اضطرم: اشتعل.
(3) الكَلِم: الكلمة، ج كَلِم وكلمات.
(4) أمَم: قريب.
(5) ثُمالة: ج ثُمال: ما بقي في الكأْس من ماءٍ وغيره.
(6) الرّاح: الخمر، وهنا وردت بالمعنى العرفانيّ للكلمة.
(7) الخبب: خبَّ الفرس في عدْوه، راوح بين يديه ورجليه، أي قام على إحداهما مرّةً وعلى الأخرى مرَّة. نوع من الجري.
(8) درّ: درّاً اللّبن وغيره، كثر خيرها.
(9) الآس: واحدها آسة، نباتات ورقها دائم الخضرة، زهرها أبيض، ويسمَّى أيضاً الرَّيحان.
(10) المرتسم: ارتسم الأمر: امتثله. يقال: "رسم له كذا فارتسمه"، أي أمره به فامتثل أمره.
(11) الأكَم: مفرده الأكَمَة: التّلّ أو الموضع الَّذي يكون أكثر ارتفاعاً مما حوله. يقال: وراء الأكمَة ما وراءها: أي هذا الأمر شيءٌ مريب.
(12) هتَّك: بمعنى هتَك، شُدِّد للمبالغة: خرق السّتر.
(13) غاشية: ج غَوَاش: مؤنَّث الغاشي، الغطاء.
جَاوَرْتُ حُزْنَكَ لا يَأْسَاً ولا نَدَمَا * دَمْعٌ على الدَّمْعِ إنْ خالَطْتَهُ انْسَجَمَا
لو أنَّ قَبْرَكَ يدري مَنْ يَحلُّ بِهِ * لَكَانَ أَشْرَقَ وَجْهُ القَبْرِ وابْتَسَمَا
قَبَسْتُ(1) نَارَكَ مِنْ أَعْلى مَوَاقِدِهَ * كالجَمْرِ هَبَّتْ عليهِ الرِّيحُ فَاضْطَرَمَا(2)
هذا البَيَانُ وَكَمْ في سِحْرِهِ خَفَقَتْ * روحُ الإلَهِ وإنْ سَمَّيْتَهُ كَلِمَا(3)
يا رَاكِبَ الفَرَسِ البيْضَاءِ خِفَّ بِنَا * واصْعَدْ فَدَيْتُكَ محْمولاً ومُقْتَحِمَا
والمُسْ بِكَفِّكَ بابَ العَرْشِ إنَّ لَهُ * إلى الجنوبِ طريقاً ليِّناً أَمَمَا(4)
لي فيكَ سُكْرٌ ومَا للصَّحْوِ فيهِ يَدٌ * ما ليْسَ يَعْرِفُهُ إلَّا الّذي عَلِمَا
وقَد ظَمِئْتُ فَكُنْ خَمري وَصُبَّكَ بي * واجْعَلْ ثُمَالَة(5) كَأسَيْنَا فَمَاً وَفَمَا
شَرِبْتُ نَخْبَكَ مِنْ رَاحٍ(6) مُقَدَّسَةٍ * مِنْ عَهْدِ آدَمَ لم تَهْرَمْ ولا هَرِمَا
مَخْبُوءَةٍ في جِرَارٍ ليسَ يعرِفُهَ * سوى النَّبيّينَ مَعْصُوماً ومُعْتَصِمَا
وقَدْ ثَمِلْنَا فدارَتْ حولَنَا خَبَبٌ(7) * هذي النّجومُ تَدُرُّ(8) الآسَ(9) والنَّسَمَا
ما دَلَّنَا حينَ جِئْنا غيرُ بارقةٍ * طَيْرٌ تَحومُ وطَيْرٌ هادِئٌ جَثَمَا
وصُوِّبَ السَّهْمُ نحوَ النَّازلينَ ضُحَىً * في عينِ دَارِكَ حيثُ الماءُ ما انقَسَمَا
حتَّى إذا اكتَمَلَتْ للأرضِ صُورَتُهَ * وأشْرَقَتْ شَمْسُهَا وازَّيَّنَتْ قِمَمَا
وقالَ ربُّكَ للأفْلاكِ يأمُرُهُ * ـ كما الخِرَافُ ـ بِأنْ تأتيْ وتنْتَظِمَا
واصْطَفَّ كلُّ مَلاكٍ في مَحَفَّتِهِ * على الأَريكَةِ مَنْدوبَاً ومُرْتَسِمَا(10)
أشارَ نَحْوَكَ بالكفِّ الّتي خَلَقَتْ * وقالَ: أنْتَ، فقد أعْطَيْتُكَ القَلَمَا
أفدي السَّوادَ الَّذي ما اهْتزَّ لَيْلَكُهُ * إلَّا تَكَسَّرَ قلبُ اللَّيلِ وانحَطَمَا
سوادُ ثَوبِكَ مَنْشوراً على زَمَنٍ * كَضَوءِ وَجْهِكَ مَجْلُوَّاً ومُبْتَسِمَا
يمحو ويُثْبِتُ مَا شاءَ الإلهُ لَهُ * ويَجْمَعُ الكَوْنَ في بُرْدَيْهِ والعَدَمَا
كآيتينِ فَسُبْحَانَ الَّذي صَنَعَتْ * كَفَّاهُ صُوْرَةَ مَنْ آوى ومَنْ رِحِمَا
سِرُّ المرايا وسِرُّ النَّايِ في قَصَبٍ * في جَوْفِهِ اللَّحْنُ مَوْصولاً ومُنْثَلِمَا
هذا الحَمَامُ فأَسْرابٌ مُهَاجِرةٌ * إلى العراقِ وأسرابٌ تَنِزُّ دَمَا
طارَتْ ولم يَبْقَ منها غيرُ واحدةٍ * بيضاءَ سوداءَ تطوي السَّفْحَ والأكَمَا(11)
وقيلَ إنَّكَ مَأْواها وَمَوْئِلُها * وقيلَ إنَّك كنْتَ النَّارَ والعَلَمَا
وقيلَ إنَّكَ لَمَّا أوشَكَتْ وَدَنَتْ * وهَتَّكَ(12) النَّاهِبُونَ البيتَ والحَرَمَا
في أرْضِ مكَّةَ حيثُ النُّورُ تحْجُبُه * سُودُ الغَرابينِ عمَّنْ طَافَ واستَلَمَا
وقامَ ثَمَّةَ مَنْ صلَّى على صَنَمٍ * بعدَ الطَّوافِ وإنْ ضحَّى وإنْ رَجَمَا
وقالَ ربُّكَ للشَّعْبِ الَّذي حضَنَتْ * أرضُ الكِنَانَةِ فيه البأْسَ والحُلُمَا
دُوسُوا مَعَاقِلَ فِرْعونٍ وعزَّتَهُ * في أرضِ مِصْرَ وهُزُّوا النِّيلَ والهَرَمَا
كَشَفْتَ وجْهَكَ حتَّى إنَّهُ زَمَنٌ * على الزَّمانِ وسيفٌ بعْدُ ما انثَلَمَا
ماذا أقولُ لَكُمْ يا سيِّدي وأَبي * وأنْتَ أعْلَمُ بالحَدِّ الّذي ارتَسَمَا
دارَتْ تدورُ علينا ألْفُ غَاشِيَةٍ(13) * مِنَ الظَّلامِ وقَلْبُ الفَجْرِ ما انهَزَمَا
تعلو بِنَا الشَّمْسُ حتَّى إنَّنَا عَلَمٌ * ويهبطُ اللَّيلُ يمحو الظِّلَّ والقَدَمَا
فَاهدَأْ فَدَيْتُكَ إنَّا هَادِئونَ هُنَا * سِيَّانِ مَنْ حَمَلَ البلوى ومَنْ سِلِمَا
ما زِلْتُ أُصغي لِخَطْوٍ في منَازِلِهِمْ * كأنَّهُمْ لم يَموتوا بَلْ رَأَوْا حُلُمَا
 
(1) قبست: قبس النَّارَ، أي أوقدها وأخذ شعلة.
(2) اضطرم: اشتعل.
(3) الكَلِم: الكلمة، ج كَلِم وكلمات.
(4) أمَم: قريب.
(5) ثُمالة: ج ثُمال: ما بقي في الكأْس من ماءٍ وغيره.
(6) الرّاح: الخمر، وهنا وردت بالمعنى العرفانيّ للكلمة.
(7) الخبب: خبَّ الفرس في عدْوه، راوح بين يديه ورجليه، أي قام على إحداهما مرّةً وعلى الأخرى مرَّة. نوع من الجري.
(8) درّ: درّاً اللّبن وغيره، كثر خيرها.
(9) الآس: واحدها آسة، نباتات ورقها دائم الخضرة، زهرها أبيض، ويسمَّى أيضاً الرَّيحان.
(10) المرتسم: ارتسم الأمر: امتثله. يقال: "رسم له كذا فارتسمه"، أي أمره به فامتثل أمره.
(11) الأكَم: مفرده الأكَمَة: التّلّ أو الموضع الَّذي يكون أكثر ارتفاعاً مما حوله. يقال: وراء الأكمَة ما وراءها: أي هذا الأمر شيءٌ مريب.
(12) هتَّك: بمعنى هتَك، شُدِّد للمبالغة: خرق السّتر.
(13) غاشية: ج غَوَاش: مؤنَّث الغاشي، الغطاء.
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير